ضحايا «إنت عمرى».. كيف ظلم عبدالناصر كل هؤلاء فى لقاء السحاب؟
![حرف](/themes/harf/assets/images/no.jpg)
عاشت أم كلثوم ٧٦ عامًا، وعلى طول مشوارها الفنى الذى تجاوز نصف قرن من الزمان صالت وجالت فيه، وتربعت على عرش الغناء العربى بلا منازع وبلا أى جدال، لم يحظ أى من أعمالها بنصيب أغنيتها الرائعة «إنت عمرى» من شهرة وجدل واحتفاء واحتفال واختلاف وأساطير منذ يومها الأول وحتى يومنا هذا ونحن نحتفل بمرور ٥٠ عامًا على وفاة سيدة الغناء العربى و٦١ عامًا على لقاء السحاب.
معظم جمهور أم كلثوم، إن لم يكن الجميع، يعرف تفاصيل الأغنية وقصة حياتها، وأن مولدها كان على يد الزعيم جمال عبدالناصر شخصيًا فى أواخر الخمسينيات عندما التقى قطبى الغناء العربى آنذاك أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وتمنى أن يسمع عملًا يضمهما معًا، لحن لموسيقار الأجيال وصوت الست العابر للأزمنة، وبعد تكرار الطلب من عبدالناصر ظهرت «إنت عمرى» عام ١٩٦٤ لتكسر حاجز عدم التعاون بين أم كلثوم وعبدالوهاب لتتوالى الأعمال المشتركة بينهما بعد ذلك وتصل إلى ١٠ أغان، والكلام هنا على لسان مؤلف أول أغنية تضمهما معًا أحمد شفيق كامل فى حوار على صفحات مجلة الإذاعة والتليفزيون عام ١٩٩٤.
هذه هى الرواية الأشهر والمعتمدة لقطاع كبير من عشاق الست لإحدى الأغنيات الأيقونية فى الغناء الشرقى، والتى للمفاجأة لم تعد موثوقة بشكل كبير بعد أن أدلى الكثير بشهاداته التى خالفت ما اتفق عليه، بل إن بعضها نفى أى دور لعبدالناصر فى الموضوع. الروايات الجديدة أعادت صياغة القصة وبعضها أكد أن البداية كانت من عند عبدالوهاب نفسه الذى ظل سنوات طويلة يسعى للتعاون مع أم كلثوم، وكان يرى وهو محق بشكل كامل أن مشواره دون صوت الست منقوص لا محالة، ووفقًا لذلك فقد تعددت محاولاته على مدار سنوات حتى تحققت فى وقت كان قد وصل كلاهما لقمة التوهج الفنى.
وقد تشعر ببعض الغرابة عندما تطالع روايات أخرى تبدأ القصة من عند أم كلثوم نفسها، والحكاية هنا بطلها أحمد الحفناوى عازف الكمان فى فرقة الست والصديق المشترك بينهما. الحفناوى عندما قابل عبدالوهاب سأله على الطريقة المصرية «إمبارح محستش بشرقة»؟ وعندما استفسر عبدالوهاب أكد الحفناوى أنه كان فى سيرته مع أم كلثوم وأنها تريد أن يلحن لها، فعرض عليه موسيقار الأجيال كلمات إنت عمرى التى كان بصدد أن يلحنها لنفسه.
![](/Upload/libfiles/0/8/630.png)
حكايات إنت عمرى لم تنته، هذه المرة كانت عند الشاعر أحمد شفيق كامل ولكن برواية مختلفة وهى أنه كان يعرض على أم كلثوم بعض الأغانى ومنها إنت عمرى، وعندما اختارتها الست قال لها إن عبدالوهاب «شبطان فيها»، فأصرت أن تغنيها.
هذا بعض من كثير قيل فى أصل «إنت عمرى»، لكل فريق رؤيته التى يدلل عليها ويؤكدها، وإذا كنت تعتقد أن الجدل حول الأغنية يتوقف عند ذلك فأنت لا تعطى للأسطورة حقها، فنحن الآن على بعد ما يزيد على 60 عامًا منذ أن فتحت الستارة للمرة الأولى عن أم كلثوم جالسة لوقت طويل حتى تنتهى الفرقة الموسيقية من المقدمة التى صاغها موسيقار الأجيال، كل هذه السنوات ولا تزال الأغنية محل جدل ونقاش واختلاف، وإذا كان أنصار رواية عبدالناصر يعددون من بين إنجازاته أنه استطاع توحيد قطرى الغناء العربى، فإن لفعلته هذه كثيرًا من الضحايا لا يزالون يعانون حتى الآن.
.. سيداتى آنساتى سادتى.. الآن يفتح الستار عن ضحايا «إنت عمرى».
![](/Upload/libfiles/0/8/631.png)
السميعة: جمهور سطحى لا يعرف كيف يسمع الست
فى عام ٢٠١٣ استقبلت دور السينما المصرية فيلم «فيلا ٦٩»، كانت قصته تدور حول حسين رجل كبير فى السن، تشاء الظروف أن تقيم شقيقته وحفيدها معه فى فيلته ليكسرا حالة العزلة التى كان يحيط نفسه بها. مع دخول الحفيد حياته يبدأ حسين فى التعرف على جيل جديد، سواء بالتعامل معه أو مع أصدقائه، وفى إطار الفيلم دار هذا الحوار بين حسين وآية، أحد أبناء الجيل الجديد حول أم كلثوم:
آية: شكلك بتحب أم كلثوم أوى.. وأنا كمان
حسين: فعلاً؟
آية: اه..
حسين: بتسمعيلها إيه؟
آية: إنت عمرى..
حسين: اشمعنى..
آية: أبويا كان بيسمعها كتير أوى..
حسين: أبوكى زبال..
آية: إيه؟
حسين: آه.. زبال.. دى أزبل أغانيها.. سمعتيلها غلبت أصالح فى روحى قبل كده؟
آية: لا
حسين: تعالى سيبك من دى
ظلت هذه النظرة مسيطرة على جمهور أم كلثوم لسنوات تالية، ويبدو أنها متأصلة منذ زمن بعيد، هذه النظرة التى حكمت العلاقة بين أجيال «سميعة أم كلثوم» يمكن وصفها ببساطة بالـ«التعالى».
«إنت عمرى» هى الأغنية التى قسمت جمهور أم كلثوم لفريقين، أحدهما ضليع فى شئون الست وأعضاؤه هنا من كبار السن أو الشباب ممن تبحروا فى ميراثها الكبير بصوتها غير القابل للتكرار، وكلاهما على حد سواء يرون أن الأغنية واحدة مما قدمته الست، لكنها ليست الأفضل، بل إن البعض يرى أنها ليست من أغانى الصف الأول من الأساس، وعلى طريقة «سمعتيلها غلبت أصالح فى روحى قبل كده؟» يسألون دائمًا عن موقع «إنت عمرى» إذا ما قورنت بـ«رق الحبيب»، و«الأطلال» و«أغدًا ألقاك» و«ياللى جفيت ارحم حالى» و«فكرونى» و «هذه ليلتى» والقائمة تطول.
تقييم الأغنية هنا ليس قائمًا على النظرة الفنية بشكل كامل، وإنما يشعر هذا الفريق بأحاسيس تصل لحد الكراهية لها، وأن من يسمعها «زبال» لسبب يتعلق بالدافع الذى من أجله وجدت الأغنية، وهو أن جمال عبدالناصر أراد ذلك، لتصبح أغنية «مصنوعة» لم تنبع من داخل الست ولا من أعماق عبدالوهاب، لقد فعلا ذلك فقط ليرضيا الزعيم.
أما الفريق الثانى فهو عشاق «إنت عمرى»، ليس لذاتها قطعًا، وإنما كواحدة من أعظم ما قدمت الست بغض النظر عن كل ما قيل فى شأنها، هم يستمعون إليها فقط من باب الاستمتاع دونما الوضع فى الاعتبار كيف وصلت إلينا، كل ما يهمهم أن آذانهم تستقبل صوت أعظم مطربة عربية مغلف بألحان أهم ملحن عربى، فكيف تتوقع النتيجة برأيك؟
المفاجأة ليست فى ألتراس كارهى «إنت عمرى» وإنما فى محبيها، أصبحوا يتعاملون مع أنفسهم بأنهم مستمعون «درجة تانية» لأم كلثوم، لا يجدون ما يدافعون به عن الأغنية كمبرر لحبهم لها، بل إن بعضًا ممن قابلت يخفون تعلقهم بالأغنية خوفًا من السخرية والتقليل منهم، وأنهم «محدثين نعمة» و«محدثين أم كلثوم»، أو أن يتطور الأمر ليظهر أمامهم شخص عنيف قليل الذوق من عشاق الست مثل «حسين» بطل الفيلم يقول لأى منهم بالفم المليان «إنت زبال».
![](/Upload/libfiles/0/8/632.jpg)
المؤلفة: أن تكون كبيرًا.. لكن بين هرمين
الضحية الثانية لمبادرة عبدالناصر إذا تبنينا القصة الأشهر هو مؤلف الأغنية، الشاعر الكبير جدًا أحمد شفيق كامل. هل لاحظت كيف نتحدث منذ بداية الموضوع؟ الحديث لا يخرج عن كونه لقاء طال انتظاره بين أم كلثوم وعبدالوهاب، المطربة والملحن، وتناسى البعض أمر الشخص الثالث فى مثلث أى أغنية، لم يركز الجميع على الشاعر الذى كتب الكلمات.
هل تظن أن ما حدث هنا استثناء؟
أؤكد لك أن هذا هو النهج الذى سارت عليه كل التغطيات الصحفية آنذاك، جميعها تذكر اسم أحمد شفيق كامل فى عجالة، وفى نهاية الموضوع عادة. كل ما يهمهم فقط كيف يحتفلون ويحتفون بلقاء طال انتظاره بين أعلى قمتين فى تاريخ الغناء العربى.
الغريب أن من حاولوا رد الاعتبار لأحمد شفيق كامل وقعوا فى نفس الفخ، هذا هو الأستاذ أحمد رجب يكتب مقالًا مهمًا بعد أيام قليلة من ظهور «إنت عمرى» فى مجلة آخر ساعة فى ١٤ فبراير ١٩٦٤ بعنوان شىء يغيظ جدًا.. مهلًا لا تتسرع فى الحكم من العنوان وتعتقد أن المقال كان للدفاع عن حقوق الشاعر الكبير وإنما كان كاتبنا الكبير «متغاظ» لتأخر التعاون بين الكبيرين أم كلثوم وعبدالوهاب. المقال حتى فى تصميمه كان يؤكد الفكرة، شكل هرم به صورتان للست وموسيقار الأجيال، وبجوارهما صورة لأحمد شفيق كامل، لتتأكد منذ البداية الصورة الذهنية للموضوع، هذا حدث لا يخص سوى المطربة والملحن.
ظل أحمد رجب يكتب ويكتب لأكثر من ثلاثة أرباع المقال عن هذا التعاون، ثم فى فقرتين كتب ما يلى:
وإذا كانت الصحف قد هللت لهذا الحدث الفنى الكبير وحفلت بأمجاد أم كلثوم وعبدالوهاب ونسيت الشاعر أحمد شفيق كامل مؤلف الأغنية، فإننى لا يفوتنى الحديث عن أحمد شفيق كامل الذى لعب دورًا فى لقاء القمتين وجمعهما على أغنيته الرقيقة العذبة. إن أحمد شفيق كامل الذى كتب لنا أحلى الأغانى الوطنية ليكتب أغنية عاطفية من قبل، ولكنه كشف بأغنيته «إنت عمرى» عن إحساس عاطفى حلو يرتفع إلى مستوى وجدانه الوطنى فى أغنياته التى رددها الملايين مثل حكاية شعب والوطن الأكبر.
وإذا كانت الأقلام لم تفِ أحمد شفيق كامل حقه فى الإشادة بجهده الفنى فى لقاء العملاقين، فأعتقد أن تاريخنا لن يبخل عليه بالإنصاف على مر السنين كأول شاعر غنائى التقى على كلماته صوت أم كلثوم ونغم عبدالوهاب.
بعد ذلك عاد كاتبنا الكبير للحديث عن الأغنية ونصح بضرورة سماعها كثيرًا لتعويض ٣٥ عامًا مرت دون لقاء بين أم كلثوم وعبدالوهاب، ليؤكد مجددًا ما تعرض له الشاعر من ظلم حتى وهو فى محاولة لرد اعتباره.
لم يكن الشاعر فقط هو من تعرض للظلم وإنما كلماته أيضًا، فما زال التركيز على عملاقى الحدث يغطى على جمال الأغنية ورقة كلماتها وبهاء صورها، أغنية رومانسية من طراز رفيع رغم أنها الإسهام العاطفى الأول للشاعر الكبير بعد سلسلة من الأعمال الوطنية، لكى تتأكد تأمل معى هذه الكلمات مما شدت به الست.
صالحت بيك أيامى سامحت بيك الزمن
نسيتنى بيك آلامى ونسيت معاك، معاك الشجن
..
كل فرحة اشتاقها من قبلك خيالى
التقاها فى نور عينيك قلبى وفكرى
..
ابتديت دلوقتى بس أحب عمرى
ابتديت دلوقتى أخاف، أخاف لا العمر يجرى
أسمع همسك قائلًا بأن ذلك منطقى جدًا، فمن سيهتم بأى شخص آخر وأى شىء آخر فى اللقاء الأول بين أم كلثوم وعبدالوهاب، فهذا حدث وهذان بطلان تصغر أمامهما كل معطيات ومرادفات وشخوص العصر وقتها، والمفاجأة أنى أوافقك الرأى تمامًا، ولو أنى عشت وقتها فلن أشغل بالى حقًا بأى شى خارج دائرة الغناء واللحن، وهذا ما يؤكد أن أحمد شفيق كامل هو أحد أهم ضحايا «إنت عمرى».
![](/Upload/libfiles/0/8/633.png)
عبدالوهاب: 9ألحان للست لا تزال تعيش فى جلباب «إنت عمرى»
الضحية الثالثة لأغنية «اإنت عمرى» هو موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب نفسه..
قبل أن تندهش تعال أوضح لك..
كل ملحنى عصر أم كلثوم كانوا يعتبرون مشوارهم غير مكتمل حتى يتعاونوا معها بلحن أو أكثر، وقتها فقط يكون قد حصل على صك الاعتراف الكامل به كملحن، ولا أدل على ذلك من مشوار فريد الأطرش الطويل ومحاولاته العديدة لتقديم لحن للست، هو يعلم علم اليقين أن كل ما قدمه من ألحان على كثرتها وجمالها فى كفة ولحن وحيد لأم كلثوم فى كفة أخرى. ولم يكن عبدالوهاب ببعيد عن هذا التصور، فمشواره بدون أم كلثوم لايزال غير مكتمل.
جاءت الفرصة مع كلمات أحمد شفيق كامل وقدم عبدالوهاب لحنًا بديعًا ومقدمة موسيقية وصلت لـ١٥ دقيقة بعد أن عزفتها الفرقة مرتين فى بداية الحفلة الأولى فى فبراير ١٩٦٤، وكانت هذه هى البداية لسلسلة من أروع ما قدمته الست، فقد قدم لها عبدالوهاب ٩ ألحان أخرى ليصبح مجموع تعاونهما ١٠ أغان هى:
إنت عمرى ١٩٦٤
على باب مصر ١٩٦٤.
إنت الحب ١٩٦٥.
أمل حياتى ١٩٦٥.
فكرنى ١٩٦٦.
هذه ليلتى ١٩٦٨.
أصبح الآن عندى بندقية ١٩٦٩.
ودارت الأيام ١٩٧٠.
أغدًا ألقاك ١٩٧١.
ليلة حب ١٩٧٢.
رغم هذ الكم الكبير من الإنتاج، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار أنها كانت السنوات الأخيرة لسيدة الغناء العربى، فالجميع يتذكر لحن إنت عمرى لعبدالوهاب ولا يلتفت له فى روائع أخرى مع الست، رغم أن بعضها بشهادة الجميع يتفوق بمراحل على اللحن الأول بينها، وبالتحديد «هذه ليلتى»، و«أغدًا ألقاك»، و«فكرونى» أحد أرق وأعذب ما غنت أم كلثوم.
فى لقاء لأديب نوبل نجيب محفوظ مع ليلى رستم وهو أكبر وأهم أفراد ألتراس أم كلثوم كان يرى أن لحن «إنت عمرى» ليس الأفضل لعبدالوهاب، وأن «هان الود» و «النهر الخالد» أجمل بكثير من لقائه الأول مع أم كلثوم. لكن الجملة الأهم فى هذا اللقاء كانت أن أم كلثوم أعادت عبدالوهاب لمنابع إلهامه الأصلية، واستكمالًا لجملة محفوظ قدم عبدالوهاب بالفعل روائع أخرى خلال السنوات التالية، لكنها عاشت جميعها فى جلباب «إنت عمرى»، وظلت تعانى طوال الوقت من النجاح غير المسبوق فى مشوار أم كلثوم فى لقاء السحاب، ذلك الذى لم ينافسه سوى النجاح الاستثنائى لـ«الأطلال».
زعيمنا الخالد جمال عبدالناصر..
لو كنت أنت صاحب قرار التعاون التاريخى بين أم كلثوم وعبدالوهاب فلك منا كل التقدير والمحبة..
وسامحك الله على كل مظاليم «اإنت عمرى».