الأربعاء 12 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ديستوبيا على الشلاه.. قراءة خاصة فى القصيدة العراقية المعاصرة

علي الشلاه
علي الشلاه

- قصائد الشاعرعلى الشلاه نجحت فى أن تخط لها مسارًا مغايرًا فى تكثيف ترميزات الأدب الديستوبى

ما أن يُذكر مصطلح اليوتوبيا «Utopia» حتى يتبادر إلى الذهن تصور المدينة الفاضلة أو المثالية كما طرحها أفلاطون. ومن الطبيعى أن يقودنا ذلك إلى التفكير فى نقيضها، الديستوبيا «Dystopia»، التى تسلب المدينة الفاضلة مثاليتها وسمات الأمان والاستقرار، لخلق أمكنة بائسة يعمّها القهر والشقاء. ولا تنحو هذه السطور إلى تأصيل مصطلح الديستوبيا «Dystopia» ولكن مما تجدر الإشارة إليه أن الديستوبيا ظهرت فى الأدب الغربى مع القرن التاسع عشر، حيث تجسدت فى بعض الأعمال الإبداعية مثل رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل، التى قدمت مجتمعات تسحق الفردية وتسلب الإنسان أبسط حقوقه. ولكن، لا تقتصر الديستوبيا على الأدب الغربى فقط، بل تجلت أيضًا فى النصوص الإبداعية التى رسمت خرائط الألم والفجيعة وعكست ملامح المدن المدمرة، إبان سقوط بغداد والأندلس. فعكست القصائد وقتها أماكن خلت من النور والأمان، وينسحب هذا على القصيدة المعاصرة وتحديدًا العراقية التى أضاءت تراجيديا الإنسان المعاصر تحت مظلة الموت الجماعى وعصف البارود والجوع على مدار عقود من الحروب التى عصفت بالبلاد والعباد، والنماذج كثيرة، وستتوقف هذه السطور عند قصائد الشاعر على الشلاه «١٩٦٥»- «فى الأعمال الشعرية الكاملة- بغداد ٢٠٢٤»، التى وثّقت لأدق تفاصيل حياة إنسان بلاد وادى الرافدين الذى عصفت بيومياته رائحة الموت والجوع والخوف فعكست مرايا قصائده محنة ديستوبية «Dystopia» المكان الملبد بالبارود والحروب، لذلك لا يمكنك الدخول إلى تفاصيل مسكوتات قصائد الشاعر الشلاه إلا إذا كنت متسلحًا بالخزين الثقافى والتاريخى المعاصر للإنسان العراقى المحشور فى طاحونة الحرب، ولا يمكنك تقصى الخيط الديستوبىّ «Dystopia» الذى انتظم القصائد فصارت مرايا بانورامية لأمكنة مرمدة عصف بها بارود الخوف إلا إذا نظرت إلى السياقات التاريخية للقصيدة وتاريخ كتابتها لتتفهم تقنيات الصياغة الفنية الجريئة التى تصوغ نصين متوازيين أحدهما منطوق به تتكثف فيه ملامح الديستوبيا المكانية وآخر مسكوت عنه يضمر الحلم بيوتوبيا تغمر بنورانيتها الأمكنة البائسة فتعيد الموازين إلى نصابها وتمجد القيم.

تأمل مثلًا قصيدة «تساؤل، ص ٢١٢» التى يرتكز فيها المتخيل الشعرى إلى تقنية الحوار الخارجى المنعكسة على وعى الأنا الساردة، ليمنح التلقى سانحة الإنصات لأحاديث الأنوات المتحركة فى الأمكنة المدججة بالعتمة: 

قلت لى خائفًا … 

لا نملك حتى الصمت 

فلمن كاتم الصوت هذا..؟

لم أجب! 

من اللافت أن المتن يضعك إزاء شخصيتين، الأولى المتكورة فى الضمير المتصل «أنت» فى الفعل «قلت» التى بقيت مضمرة فى المسكوت عنه إلا أن النص كشف ملامحها النفسية فبدت مسربلة بالخوف «خائفًا» ومستسلمة لجبروت العتمة المطلق «لا نملك حتى الصمت» التى لم تحرم الكلام بل والصمت أيضًا، أما الشخصية الأخرى فبقيت عصية المنال متسلحة بالصمت «لم أجب»، تسترجع عبر وعيها تفاصيل الحوار الخارجى «الدايولوج» الذى ختم بـ التساؤل الحائر «فلمن كاتم صوت هذا؟» ليفضح التباس الرؤيا وضبابية ما يحصل على الأرض، زد على ذلك أنه يماهى بين ملامح الجلاد والضحية فتلتبس الوجوه ليعم الغموض والتلغيز على الأمكنة المرمدة الديستوبية. 

وتعكس قصيدة «تشابه، ص ١٩٧» ترمّد العلاقات الإنسانية بين الذكر وأنثاه وصيرورتها قمعًا موازيًا للديستوبيا المكانية الضاغطة على أفق النص، تأمل مثلًا كيف كرست الكوميديا السوداء عدائية الأمكنة والأنوات وأبقت الأنا الساردة حبيسة النص الغاطس:

الزوجة... كالشرطى 

وخلاصك من هذين..

... معًا 

يحتاج إلى قاض

من اللافت أن الخرم الطباعى الفاصل بين المشبه «الزوجة» والمشبه به «الشرطى» فى الصورة التشبيهية قد أخفى دلاليًا تحته حوارات محمومة وأحداثًا عصفت بالمكان الحميم «البيت»، ففقدت الزوجة ذاكرتها الجمعية الدالة على الرقة والأنوثة والجمال والتراحم لتكون رمزًا للشراسة والعدوانية، وفقد الزوج دوره ومكانته الاجتماعية لنكون إزاء انقلاب الموازين. 

وتستدعى قصيدة «رأيى، ص ٢٢٢» ملامح قابيل وهابيل من عمق الذاكرة الجمعية والعقائدية لتكريس الأفق الديستوبىّ، تأمل الآتى: 

هذا العالم لم يتغير 

منذ قابيل وهابيل 

أو 

منذ غراب وغراب 

هذا العالم لم يتغير 

بعضه يدفن فى الأيام بعضه 

ولذا هذا العالم لم يتغير 

هذا رأيى.. وأنا أختلف معه!

يضىء البوح النازف ملامح الأنوات العدائية التى هيمنت على المكان «منذ غراب وغراب» ليكون أفق التلقى أمام حركة دائرية للجريمة الأولى التى كرسها بإيقاعية التكرار «هذا العالم لم يتغير/ هذا العالم لم يتغير/ هذا العالم لم يتغير»، التى تشى بذروة الانفصال الحاد النفسى عن الأنوات التى تستسيغ وتسوغ سلب الآخر حقه فى الحياة. 

وتنزع قصيدة «بكى الموت، ص ٢٣٨» عن الموت سلطته وجبروته ليبدو هشًا ضعيفًا أمام الواقع الديستوبّى: 

بكى الموت... لا موت لديه 

فيعطيه صغارًا ادخلوا فى لجتيه 

عراقيون ما ذاقوا حياة 

ولا مرت مناياهم إليه 

بكى الموت لما حاججوه 

فقد قامت قيامات لديه

من اللافت أن المتخيل الشعرى يضعك أمام نصين، الأول منطوق به والآخر مسكوت عنه، فأما الأول فيضيئه الانزياح المجازى المتمظهر فى أنسنة الموت «بكى الموت + بكى الموت»، ليعكس تراجيديا الطفل العراقى الذى سقط فى شرك الموت الجماعى «فيعطيه صغارًا ادخلوا فى لجتيه/ عراقيون ما ذاقوا حياة»، بل إن خاتمة النص تشى بذروة الاستسلام لحوافر الديسيوتوبيا، أما النص الآخر فيضج بالرفض والتمرد على هذا الواقع الديستوبى الذى فقدت فيه الطفولة حقها الطبيعى بالحياة. 

وتستل قصيدة «التوقيعات ثانية، ص٢٤١» المثل المستقر فى الذاكرة الجمعية «واختلاف الرأى لا يفسد للود قضية» لترسم خرائط الانفلات العقلانى لتقبل «الرأى/ الرأى الآخر» ولتكثيف الأفق الديستوبى: 

اختلاف الرأى لا يترك للود بقية 

اختلاف الود لا يترك للرأى قضية 

من الواضح أن المتخيل الشعرى يشتغل على نصين، الأول منطوق به يعرّى تجريم حرية التعبير، فيعيد الشاعر دلاليا ترتيب المفردات لينسج «اختلاف الرأى لا يترك للود بقية» لتتكشف محنة الرأى المختلف فى ظل تقديس فردانية الرأى، وهو الذى يقود إلى خلق أفق مستعر بالتناحر الفكرى «اختلاف الود لا يترك للرأى قضية»، أما النص الآخر المسكوت عنه فيسخر من الأنوات التى تسيّدت مساحة النص ويدين أحادية الرأى التى تحرم الإنسان حقه الطبيعى فى التعبير. 

وقد تضىء قصائد الشاعر على الشلاه طبيعة العلاقات الإنسانية المرمدة تحت مظلة الديستوبيا، ففى قصيدة «رؤيا، ٣٠٦» مثلًا تستدعى العنونة وجه يوسف الآن المتن اللاحق يستدعى إخوته، وفى إطار حوارية صارمة يبدأ المتخيل الشعرى هاجيًا إياهم وصارخًا فى عتمتهم: 

حين صدق يوسف كذبتكم 

جر نبوءته فى الصحراء 

تلمس كل الجهات الأرض 

لكن.. لم يطق الصبر 

حين صدق يوسف كذبتكم 

وجد ذئابًا فى كل الأخوة لكن 

لم يجد البئر 

خلع المتخيل الشعرى من إخوة يوسف ملامحهم المخاتلة المشاكسة المستقرة فى الذاكرة الجمعية، ليمنحهم ملامح أشد عتمة وأكثر عدائية تتناسب والأفق الديسيوتوبى المهيمن على أفق النص، إذ سلبوا يوسف البئر «لم يجد البئر» ليبقى حبيس محنته وكل الوجوه التى غزت المكان الديسيوتوبىّ «وجد ذئابًا فى كل الأخوة».

وتستل قصيدة القافلة «ص ١٩٤» المثل العربى «القافلة تسير والكلاب تنبح» لتنسج منه شذرة شعرية تمتزج فيها السخرية بالمرارة، تأمل كيف نسج نصًا مسكوتًا عنه رافضًا لما يحصل على الأرض، فى حين بقى النص المنطوق به مثخنًا بالكوميديا السوداء:

الكلاب تنبح 

إننى أسمع كلابًا تنبح 

لكننى 

لا أرى قافلة تسير 

الكلاب تنبح 

الكلاب!

يوظف المتخيل الشعرى الصورة السمعية من خلال تكراره «الكلاب تنبح» مرتين لتكريس طبيعة الراهن المتخم بالأنوات الغوغائية المولعة بالضجيج الذى يغطى غياب «القافلة»، زد على ذلك أن تكرار لفظ «الكلاب» أربع مرات يكرس عتمة الواقع المتخم بالتخبط والرجوع إلى الخلف. 

وتوظف قصيدة «إثبات، ص ١٩٠» الثنائيات الضدية لتكثيف الأفق الديسيوتوبىّ، تأمل كيف نسج الشاعر على الشلاه نصين، الأول منطوق به يضج بالكوميديا السوداء، وآخر مسكوت عنه حالم بواقع مظلل بالأمان:

نحتاج لألف نبى 

كى نثبت أن الأرض بها بعض نعيم 

لكنا نحتاج لدكتاتور واحد 

كى نثبت أن الأرض 

جميع الأرض جحيم 

من اللافت أن النص المنطوق به يرتكز إلى الثنائيات الضدية «النعيم/ الجحيم» + «بعض/ جميع» + «ألف نبى/ ديكتاتور واحد»، وإلى إيقاعية تكرار «نحتاج/ نحتاج» + «الأرض/ الأرض/ الأرض»، لتعزيز ملامح الراهن الديسيوتوبى، وتكريس هشاشة الخير فى مقابل سلطة الشر المطلقة، بينما يبقى حلم الشاعر بيوتوبيا مكانية حبيس النص المسكوت عنه.

وترتكز قصيدة «الشاعر واللص، ص ٢٢٤» على مفارقة دلالية تُبرز التناقض الحاد بين الشر المطلق والجمال:

اللص لا يعرف ماذا سيقول 

لكنه يعرف ماذا يفعل؟ 

الشاعر يعرف ماذا سيقول 

لكنه لا يعرف ماذا يقول؟ 

من اللافت أن المتن وظف تقنية التكرار اللفظى ليرسم خرائط للخير المطلق «الشاعر» والشر المطلق «اللص» فى إطار متوازية دلالية تضع «الشاعر» قبالة «اللص» فى سطر واحد، حيث يتناوبان الفعل والقول لتكثف السخرية المريرة عمق الفارق الأخلاقى بينهما، ويحدس التلقى بأن المسكوت عنه قد أضاء جانبًا واحدًا من جوانب الشر المطلق المهيمن على المكان الديستوبىّ فى حين كبّل «الشاعر» فى زاوية القول الذى لن يجدى نفعًا مع عتمة ما يحصل على الأرض.

وخلاصة القول، فإن قصائد الشاعر على الشلاه قد نجحت فى أن تخط لها مسارًا مغايرًا فى تكثيف ترميزات الأدب الديستوبى الذى وثّق لمكابدات إنسان بلاد الرافدين ولأمكنته الضاجّة بالموت والخوف، والتفاتًا إلى تاريخ إصدار المجاميع الشعرية التى ضمتها الأعمال الشعرية الكاملة فإن مرايا القصائد عكست جرأة الشاعر فى إدانة قتل الإنسان الأعزل، والتمرد على القرارات السياسية التى تهيل الرماد على المدن الآمنة، كما أوصلت نبضات قلبه الحالم بيوتيوبيا مكانية تمنح الإنسان الحق فى الحياة والأمان.