الإثنين 10 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خارج المدارات وعكس المسارات

حرف

هل الحياة تستحق أن تعاش؟

ليس الجواب سهلًا كما قد يبدو للبعض، يتوقف الأمر على منْ الذى يعيشها.

لا نتصور أن يكون هدف الحياة أن نأكل ونشرب وننتج السلع ونتنزه ونتعامل مع الأجهزة ونتزوج ونتناسل.

هناك هدف أعظم وأسمى. تطمح الحياة أن يبحـث كـل منـا عـن ذاته المتفردة، وأن يكافح من أجل إطلاق مواهبها وقدراتها الخلاقة.

نعم لكل إنسان ذاته المتفردة التى لا تشبهها ذات أخرى. تمامًا مثل بصمة الإصبع غير قابلة للتكرار. كل إنسان يُولد متفردًا. ولكن ليـس كـل إنسان يموت متفردًا. ترى ما الذى يحدث لنا بين الولادة والموت؟

ترى ما الذى يمسح أو يقتل فينا فطرة التفرد؟

إنه «الخوف من الاختلاف».

نخاف أن نفكر ونحس ونغضب ونحلم ونتكلم ونتحرك خارج الخطوط والمدارات المألوفة المَرضى عنها. 

منذ الصغر فى الأسرة يزرع الأهل «سلطة الأب أو سلطة الأم أو الاثنين معًا» بدايات هذا الخوف.. وتتعـاون كـل ثقافة المجتمع الأكبر، فى تدعيم ما أرسته سلطة الأسرة فى خلق أناس متشابهى التفكير والإحساس والأحلام. 

إن حماية الذات المتفردة الكامنة فينا والمتحفزة للتحقق مرهونة بإعلاء قيمة «التمرد» فى حياتنا.. التمرد على محاولات التنميط والقولية. 

وليس مصادفة أن حرفـًا واحـدًا يفصل ما بين كلمة «تمرد» وكلمة «تفرد». 

يكمن جوهر التمرد فى انحياز الإنسان لإرضـاء الـذات لا إرضاء «الآخر». هذا ليس معناه التفنن فى خلق صراعات دائمة مع الآخر. وليس الهدف هو الصدام فى حد ذاته.. ولكن القضية أن يكون الإنسان يقظًا. ففى الموقف الذى يتعارض فيه «الآخر» مع إطلاق صوت ذاته الداخلى، تكون الأولوية دون تردد للذات. 

«التفرد» أمانة أودعتها الحياة فى نفوس البشر، وبالتالى فإن التنازل عن حقنا فى «التمرد»، والحرص الدائم على إرضاء الآخر لا إرضاء الـذات، هو خيانة للحياة..

ولكن الحفاظ على أمانة «التفرد» ليس طريقًا مفروشًـا بـالزهور. إنـه طريق ملغم بالأخطار، فلا شىء يثير حفيظة النـاس وغضبهم إلا «ذات» مُصرة على اختلافها، واثقة من تفردهـا. ومـن الإصرار والثقة، تتولد الشجاعة الضرورية للسباحة ضد التيار. 

إن الاضطرابات النفسية، والميول العدوانية تجاه الآخر أو اتجـاه النفس وأفكار وسلوكيات التعصب، كلها تجد جذورها فى عجز الإنسان عن تحقيق ذاته المتفردة، والاستعاضة عنها بنسخة مشوهة من ملايين البشر. 

والشىء الغريب أن البشر يوجهون الكثير من الوقت والجهد والاهتمام لتنمية أشياء خارجة عنهم، مثل النجاح والفلوس والشهرة وكسب الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية، كل ذلك فى إطار من استحسان الآخرين، ورضاهم ومدحهم. ولكنهم يبخلون بالوقت والجهد والاهتمام، للاستماع إلى صوتهم الداخلى، وإنماء الذات المتفردة داخل كل منهم. 

إن الانشغال بالعـالم الخارجى وإهمال العـالم الداخلى، يضع أسس اغتراب الإنسان عن ذاته الحقيقية.. وما دام اغترب الإنسان عن ذاته فإنه يظل دائمًا غير سعيد، مهما وصل إلى نجاح مـادى أو مركز مرموق أو شهرة أو فلوس. ومهما أحاط نفسه بالكثير من الصداقات والعلاقات. 

لقد اعتبر الفيلسوف «سورين كير كجورد» ٥ مايو ١٨١٣- ١١ نوفمبر ١٨٥٥، أبوالفلسفة الوجودية وأكثر الفلاسفة تأكيدًا على أهمية الذات، أن الحقيقة هی الذاتية، حيث إن العالم الخارجى «الموضوعى» لا يقدم لنا إلا الشك.. تأتى الحقيقة من ذاتية العلاقة وليس موضوعيتها التى يشترك فيـها كـل النـاس.. معنى ذلك أن «الموضوعية» التى يطالب بها الآخرون ويعطـون لـهـا أفضلية عن «الذاتية» ليست إلا غياب تفرد الإنسان.

ولأن الحياة قد أودعت فى قلب كل إنسان بصمة متفردة، فإن كل ذات تحمل داخلها سرًا من أسرار الكون، وربما تحمـل الـكـون كلـه فـى شكل بشری مصغر. 

وبالتالى، فإن كفاح الإنسان لإعلاء ذاته المتفردة، هو بالضرورة إعلاء لكلمة الحياة، وانتصـار لقوانين الكـون الأزلية المرادفة للعدل والخير والحـب والجمال.

إن الحياة تتقدم وتزدهر بفضـل هـؤلاء النساء والرجال، الذين أرهفـوا السمع إلى صوتهم الداخلى رغمًا عن صخب التشابه، ولم يتنازلوا عن تفردهم الذاتى مقابل أى إغراءات خارجية.