ولمَ لا؟

دار الأوبرا المصرية واحدة من أهم معالم مصر الحديثة، وقد تأسست دار الأوبرا زمن الانتهاء من حفر قناة السويس، ليستقبل الخديوى إسماعيل ضيوفه فى حفل موسيقى كبير تقدم خلاله أوبرا عايدة للإيطالى الشهير فيردى.
تقبل المصريون للأعمال الأوبرالية والموسيقى الكلاسيكية الرفيعة، أكد طبيعة الجينات الحضارية الكامنة لديهم، فرغم أن الأوبرا فن وافد لم يعرفه المصريون من قبل، إلا أنها أصبحت بعد زمن قليل من الفنون المتوطنة فى مصر، وأصبح تذوق فنونها ممتدًا عبر العقود الزمنية، وأصبحت كوادرها الأساسية مصرية صميمة، والعديد من هذه الكوادر حازت شهرة عالمية ومكانة مرموقة فى المجال الموسيقى.
لقد أسهم التعليم الموسيقى الذى كان سائدًا بالمدارس المصرية، منذ مراحل التعليم الأولى، فى تذوق الفنون الموسيقية الرفيعة التى تقدمها دار الأوبرا، كانت أنشودة «قطتى صغيرة واسمها نميرة» وهى أنشودة جميلة ملحنة، تعزف على البيانو فى الحضانات والتعليم الأولى، أو أنشودة أخرى لا تقل عنها جمالًا هى «الله فى علاه يحب كل الناس. لا يرتجى سواه فى شدة أو بأس».
وكان الأطفال يغنون ذلك وهم يعزفون أيضًا بأفواههم الصغيرة، بينما تمسك أيديهم لتدق على المثلث الذى هو بالأصل آلة مصرية قديمة، أو تمسك بالصلاصل والصنوج، وهؤلاء هم، ولا بد من تذوقوا الفنون الأوبرالية عندما كبروا بعد ذلك.
أذكر عندما كنت تلميذة بمدرسة سراى القبة الإعدادية، أننى درست فى سنتى الأولى بالمدرسة مارس العبيد من أوبرا عايدة، وما زلت أحفظ اللحن وكلماته حتى الآن، فقد كنا ندرس اللحن ونكتبه كصولفيج غنائى، وكانت تدرس الموسيقى لنا وقتها أبلة ملك، عمة المخرج المعروف داوود عبدالسيد، والتى صارت فيما بعد أستاذة فى الكونسرفتوار.
ربما تدريس الموسيقى طوال المراحل التعليمية هو ما أهل أجيالًا عدة لتذوق الموسيقى الكلاسيكية وفن الأوبرا، وكان الأستاذ حسين فوزى رحمه الله، يقدم برنامجًا تحليلًا من خلال البرنامج الثانى بالإذاعة المصرية، وهكذا عرفنا كيف نتذوق أعمال ديبوسى وجريج ورافييل إضافة إلى المشاهير الأسبق من مؤسسى الموسيقى الكلاسيكية، لكن الأهم من كل ذلك هو أن هذا النوع من الموسيقى، كان متاحًا لجموع الطلبة والشباب، ومحدودى الدخل، فدار الأوبرا كانت تقدم حفلات صباحية مخفضة بأسعار زهيدة، حيث سعر التذكرة ثلاثة جنيهات ليس إلا، وكانت الحفلات صباحية تلائم المراحل العمرية التى لا تسمح بالتأخر خارج البيت مساءً، وكانت كل بروفات الجنرال، متاحة مجانًا للجميع، وهذه البروفات هى الصيغة النهائية لحفل الافتتاح، أى أننا كشباب وقتها، كنا نستطيع الاستمتاع بحفل الافتتاح لأى عمل موسيقى قبل أن يبدأ بالفعل.
هذا التقليد الجميل والمهم، والحفلات المخفضة، لا أحد يدرى، لماذا غابوا جميعًا عن دار الأوبرا المصرية، وما الحكمة فى إلغاء هذه المتع الوجدانية عن الناس، فكل ذلك كان بمثابة نافذة يطل منها الشباب، ومحدودو الدخل على الفنون الموسيقية الرفيعة، فدخول معظم الناس لحضور حفلات الأوبرا، بات محصورًا فى فئات اجتماعية محدودة، وهى الفئات القادرة على دفع بطاقات دخول باهظة الثمن، وليس غريبًا أن الأجانب المقيمين بمصر هم أكثر الناس استمتاعًا بما تقدمه دار الأوبرا المصرية، أما جموع المصريين وخصوصًا الشباب، فهم محرومون من الاستمتاع بذلك الفن الراقى وحضور حفلاته الحية، وليت دار الأوبرا تعيد النظر فى هذا الأمر، وتتيح هذه الحفلات بأسعار تناسب دخل المواطن العادى، والكلام عن أن هذا المواطن لا يعنيه هذا الفن، ولا يتذوقه، كلام غير صحيح، بدليل الإقبال على حفلات الموسيقى الكلاسيكية بمهرجان القلعة التى تعقد سنويًا، وشغف الناس بهذه الحفلات، أما تعليم الموسيقى بالمدارس، فهذا موضوع يطول شرحه، وهمومه وشجونه كثيرة، أى أنه وبالمثل الشعبى: «هم ما يتلم».