الأربعاء 12 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إبداعات الشراقوة

محمود الديدامونى يكتب: أصوات صاخبة

محمود الديدامونى
محمود الديدامونى

صوتها المرتفع ونداءات الأطفال المتكررة تعصف بأذنى، أغلقت الغرفة بينما أنفاسى تعلو وتهبط من شدة الغضب، لا تزال الأصوات المتداخلة تغزونى، أتلاشى غيظًا، أفتح الباب ثانية أقذف بصرخة فى وجهها، وأعود مسرعًا أُحكم غلق الغرفة من جديد، كان الطرق على الباب أحد أسلحتهم التى لم أعرها اهتمامًا ولذت بصمتى.

توقف الطرق، فأسلمت جسدى للسرير، ربما أستطيع الخروج من دائرة الغضب، ومرافقة أوراقى المبعثرة منذ زمن، وضعت قطعة من القطن فى أذنىَّ.. أحكمت غلقهما، شعور بالراحة مس جسدى، أعطيت الباب ظهرى، وسلطت عينى على الحائط؛ رسوماته الباهتة أخذتنى إلى الوراء.

يبدو أننى أراها لأول مرة، رغم أنها شقتى التى أشرفت على بنائها وتشطيبها، كانت الرسومات عبارة عن عصافير وفروع أشجار وفراشات باهتة الألوان، أغمضت عينىَّ وحلقت معها نحو الأفق، كلما ابتعدنا كلما زقزقت العصافير محاولة إعادتى لفرع الشجرة؛ لأستريح قليلًا، لم أكن أبدًا لأستجيب لها، بينما الفراشات تحوم حول نفسها، تتناقل فى تلقائية عبر فروع الأشجار.

كانت أصداء قصيدة قديمة تتواتر على عقلى، كنت قد كتبتها لها؛ راحت الكلمات تخرج متقطعة وكأننى أهمس بها:

حين... يعانق... صوتك.. صوتى..

أحاول عصر ذاكرتى لأكمل ما كنت كتبته.

صرير الصمت فى أذنىَّ يخرجنى من لحظتى، انتزع قطعتى القطن منهما. اختفى الصوت، وغابت صرخات الأطفال على غير العادة، هدأت روحى.. أطفأت ضوء الغرفة، وعاودت تحليقى. 

كان السطر الثانى يلح على ذهنى لأطلقه فى فضاء الغرفة، وفى صوت هامس عاودت البوح: 

ينساب عبيرك فى أوردتى 

تتخلق فى قلبى زهرة 

تنمو حول جداول عمرى 

تزهر حرة

أصبح كالنحلة أو ما أشبه

أمتص رحيقك 

فأحلق نحو فضاءاتٍ قدسية

لا أملك فيها إلاك ونفسى

يندى زهرك زهرى

عمرك عمرى

تتدفق أنهار العسل تصير حياة.

طنين الأسئلة يخرجنى من لحظتى، أهوى نحو الأسفل، كيف لى بكل هذا الهدوء؟ فتحت الباب ولا أحد، فتشت فى كل ركن من شقتى الصغيرة ولا مجيب، أرهفت السمع لعلى ألتقط نبرة أحدهم؛ وكأنهم «فص ملح وداب».. هبطت السلم وجلست أمام بوابة البيت، لعلى أحصل على إجابة من أحد الجيران، ربما يكون رآهم صدفة، الأبواب مغلقة والشارع خواء تام.. صعدت من جديد، دخلت مباشرة إلى غرفة النوم، كانت ورقة صفراء قديمة تحط على زجاج التسريحة، قرأت كلمات باهتة بها، لملمتها، عدت أجرجر قدمى متجهًا نحو مكتبتى، الأفكار تتداعى على عقلى كالشهب، كلما حاولت إمساك أحدها فرت مسرعة.. دسست رأسى بين كتبى القديمة، وأمسكت بطرف قلمى، ورحت أخط خطوطًا بعرض الأوراق وطولها.. كان رأسى قد غلبنى فغططت فى نوم عميق.

أفقت.. كانت الخطوط قد شكلت صورًا لأطفالى وهم بصخبهم المعهود.