عودة الكتاتيب

مبادرة عودة الكتاتيب من جديد، والتى أطلقتها وزارة الأوقاف مؤخرًا، لاقت قبولًا وترحيبًا كبيرًا من البعض، إذ اعتبرت محاولة إيجابية لإعادة تشكيل منظومة الأخلاق الحميدة التى دُمرت لأسباب عديدة، على رأسها انتشار وسائل التواصل الاجتماعى، كما أن هذه الكتاتيب ستعمل على تقويم سلوك النشء، وهو ما بتنا فى أشد الحاجة إليه الآن.
البعض الآخر رحب بالمبادرة، على اعتبار أنها مساهمة فى تقليص حجم الأمية المتزايد فى الريف والأقاليم، بسبب تصاعد تكلفة الخدمة التعليمية، كما أن الكتاتيب وسيلة ناجحة لتعليم اللغة العربية التى باتت أجيال من الشباب لا تجيدها ولا تتقنها حتى على مستوى القراءة والكتابة، خصوصًا مع انتشار مدارس اللغات المختلفة، والأمر الذى لم يختلف عليه أحد هو أن الكتاتيب هى أنجح طريقة لحفظ آيات وسور القرآن الكريم.
لقد ظلت الكتاتيب، ومدارس الأزهر، هى الأساس للنظام التعليمى المعرفى للمصريين منذ تأسيس الأزهر زمن الفاطميين، وكان الالتحاق بالكتاتيب والمدارس الأزهرية متاحًا للذكور والإناث من الأطفال منذ ذاك الوقت، وحتى عصر محمد على الكبير فى القرن التاسع عشر، حيث استبدله بالتعليم الإلزامى الحديث، وهو التعليم الذى وضع بذرة المواطنة فى مصر، إذ إن هذا التعليم، كان متاحًا للذكور والإناث، وجميع أبناء الملل والنحل، وظل معمولًا به حتى الآن.
لقد خرَّجت الكتاتيب عشرات من عظماء الناس فى العصر الحديث وعديد من الذين باتوا رموزًا مصرية كبيرة، كعلى مبارك والطهطاوى، ومصطفى كامل وسعد زغلول، وغيرهم فى كل مجالات الحياة المجتمعية، وأساطين الثقافة والطرب والغناء، إنما جاءوا من الكتاتيب كطه حسين وسيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم، وهناك العشرات والمئات، الذين تخرجوا فى الكتاتيب، ونحتاج صفحات لتدوين أسمائهم، ولكن ورغم الإيجابيات التى يمكن رصدها للدور الذى لعبته الكتاتيب فى الحياة المصرية وتاريخنا التعليمى، إلا أن السؤال يبقى: هل تصلح الكتاتيب فى طبعتها القديمة، لمواكبة التعليم المعاصر السائد فى مصر والعالم الآن؟ هل يصلح كُتاب طه حسين فى رواية الأيام، والتى تتناول طرفًا من سيرته الذاتية، لأن يكون وسيلة تعليمية فى زماننا الراهن؟
الحقيقة أن الأمر يحتاج إلى التوقف وإعادة النظر، فرغم أن الكتاتيب فى الزمن الماضى أدت إلى وحدة النسيج المعرفى والتعليمى للمجتمع، باعتبارها الأداة والمؤسسة التعليمية الوحيدة التى كانت متاحة لأبنائه، إلا أن الأمر اختلف كثيرًا الآن فى زماننا الراهن، فالنظام التعليمى القديم القائم على حفظ القرآن الكريم والإلمام بعلومه من خلال الكتاتيب، والذى أدى إلى وجود قاسم مشترك معرفى أدنى بين جميع أبناء المجتمع، قد تغير، فالسواد الأكبر من الأطفال فى مرحلة ما قبل التعليم الأولى، أصبح يلتحق بحضانات قائمة على أساسى تعليمى تربوى بدرجات متفاوتة، وفقًا لنوع وطبيعة هذه الحضانات، وتكون بها عادة مستويات تعليمية تتدرج وفقًا لسن الطفل وقدرته على التعلم «كى جى ون. تو.. إلخ»، ثم هنا مساحة للعب وتعلم مهارات تساعد الطفل على تنمية قدراته وشخصيته، أى أن الجانب التربوى لا بد أن يكون شريطة هذه الحضانات، فهل تستطيع الكتاتيب بصورتها الماضوية، مجاراة هذا النوع من التعليم المعاصر؟
هل يمكن أن يكون الضرب بعصا سيدنا، أو استخدام «الفلقة» سبيلًا لتقويم الطفل تربويًا وإجباره على حفظ سور وآيات القرآن الكريم.
إن قرار وزارة الأوقاف المتعلق بعودة الكتاتيب يجب أن يكون قرارًا مدروسًا على أكثر من مستوى، فحفظ القرآن الكريم هدف نبيل وسام، وتعليم اللغة العربية على نحو صحيح أمر لا يختلف عليه اثنان، ولكن يجب أن يكون ذلك ضمن سياق مجتمعى معاصر، فإذا كان التعليم الراهن فى المجتمع المصرى يؤدى إلى تشظى النظام المعرفى، الذى لا بد وأن يكون مشتركًا بين المصريين جميعًا، بسبب تعدد الثقافات والقيم والمفاهيم الناتجة عن تعدد لغات التعليم الأجنبى، فالكتاتيب بوضعها وصورتها القديمة، سوف تعمل على مزيد من تشظى النظام المعرفى، فكيف يتفاهم ويندمج مواطن تربى فى الكتاب وتم ضربه أو مده على رجليه فى «الفلقة»، مع ذلك المواطن الذى تربى طفلًا فى مدارس لغات ناشيونال أو إنترناشيونال تعود على ممارسة الرياضة والسباحة واللعب والرسم والموسيقى؟
إن تشظى المجتمع من خلال التعليم، وهو ما نشهده فى كل تفاصيل الحياة المصرية الآن، هو أمر خطير لأنه ببساطة يعنى عدم القدرة على الانسجام بين أبناء الوطن الواحد، والكتاتيب يجب ألا تكون على صورتها القديمة، بل يجب أن يعاد إنتاجها وفقًا لمفاهيم الحياة المعاصرة، وإلا سوف تؤدى إلى مزيد من تشظى القيم والمفاهيم والثقافة بمعناها الواسع داخل المجتمع.