السبت 26 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المعمارى المتشدد.. كيف استغلت الدعاية الصهيونية سحر السينما للعبث بعقول العالم؟!

حرف

- ثلاث ساعات ونصف الساعة من استدرار التعاطف مع موهبة معذبة ومنتهكة والترويج لحتمية الهجرة إلى «إسرائيل» باعتبارها المكان الوحيد الآمن لليهود

- الفيلم تم ترشيحه لـ336 جائزة عالمية من بينها 10 ترشيحات أوسكار.. وفاز منها بـ118 جائزة فى أقل من ثلاثة أشهر

فى ذكرى مرور خمسين عامًا على حرب أكتوبر، أنتجت هوليوود فيلم «جولدا» الذى بدأ عرضه بمهرجان برلين فى فبراير 2023، وحشدت له عددًا من نجوم السينما العالمية الموالين للدولة العبرية، بقيادة مخرج إسرائيلى اسمه جى ناتيف الذى سبق له الفوز بجائزة أوسكار أحسن فيلم قصير عام 2019، وبطولة البريطانية هيلين ميرين التى سبق لها أيضًا الفوز بأوسكار أحسن ممثلة عن دورها فى فيلم «الملكة» عام 2007. 

لقطات من الفيلم 

والفيلم لمن لم يشاهده رغم عرضه على كل المنصات العالمية، وتوافره على مواقع «القرصنة الإلكترونية» المجانية وغير المجانية، عبارة عن قصيدة مطولة فى محبة وإنسانية جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية خلال الحرب، ولك أن تكتب اسم الفيلم على أى من مواقع البحث، أو تطبيقات التواصل الاجتماعى لترى كم انبهار من تظن أنهم كتاب ومثقفون مصريون بالفيلم وبالشخصية، بالأداء والسيناريو والحوار، دون أن يرى أحدهم السردية الإسرائيلية الملفقة للحرب، والتضخيم المتعمد لموقعة الثغرة، وما دار خلالها وعلى هامشها.. ودون أن يستوعب أحدهم ما فى ذلك الشريط السينمائى المضلل من غسيل لسمعة واحدة من أسوأ مجرمى الحرب ضد المصريين والعرب، وأكثرهم تطرفًا، وجميعنا يعرف أنها كانت هى العقل المدبر والمحرك الأول لمجزرة «مدرسة بحر البقر» المصرية التى راح ضحيتها عشرات الأطفال الأبرياء، وغيرها من العمليات العسكرية التى لا تقل إجرامًا، ومنها مثلًا تصريحاتها المنشورة والمتداولة بشأن إلقاء ألف قنبلة على المصريين يوميًا خلال فترة ما قبل الحرب.

هذه السيدة هى من كتب نقاد وسينمائيون وكتاب تقول الأوراق الرسمية إنهم مصريون، عن إعجابهم بها وتعاطفهم معها فى لحظات توترها خلال العبور المصرى العظيم، ومساندتها للجرحى والمصابين، ومشاهد تدخينها السجائر لمواجهة التوتر والألم، وعدم قدرتها على الامتثال لنصائح الأطباء لشعورها بعمق مصاب العائلات اليهودية!

هكذا.. صنعت الدراما السينمائية الصهيونية قبل عامين مناصرين ومتعاطفين من أبناء وأحفاد قتلاهم من خلال عدة مشاهد لا يزيد زمن تعرضهم لها عن مئة دقيقة!.

وهكذا.. وفى أقل من ساعة وأربعين دقيقة وجدت قاتلة الأطفال من يتعاطفون معها من أهالى وأقارب ومواطنى ضحاياها، ومن المخطوفين ذهنيًا فى عالمنا العربى!

على أننى لا أظن أن ذلك الشريط السينمائى كان وحده، أو أنه هو مع شرائط أخرى مماثلة، وراء تلك الحالة المشينة.. وأغلب ظنى أنه لا بد هناك عوامل أخرى مساعدة، وأكثر إيلامًا، وأن واجبنا هنا هو البحث عنها، والتفتيش عن مصادرها، وعلاجها إن أمكن، أو على الأقل مراجعة ما يؤدى إليها، وتحجيمه بقدر الإمكان.

لكننى قبل الانتقال إلى تلك العوامل المساعدة، أريد أن أتوقف قليلًا أمام ما حدث قبل عدة أشهر، عندما بدأت الصحف والمواقع الأكثر شهرة وانتشارًا على مستوى العالم تتابع ما قالت إنه تحفة سينمائية جديدة، وفيلم العام، بل والأكثر انتظارًا، والمرشح الأول لجائزة أوسكار أحسن فيلم للعام الجديد.

وهو الفيلم الذى أعادنى إلى تفاصيل مأساتنا وقت عرض «جولدا»، فالفيلم الجديد «The Brutalist» أو «المعمارى المتشدد» هو فى ظنى بداية لرحلة جديدة، توظف من خلالها آلة الدعاية الصهيونية سحر السينما للتأسيس لمظلومية جديدة أكثر خطورة، خصوصًا لارتباطه بأحداث معاصرة، تدور الآن، وبمخطط تضغط بقوة وبكل الطرق الممكنة للوصول إليه.

وقتها لم يساورنى شك فى محتوى الفيلم، خصوصًا أنه من بطولة النجم أدريان برودى، الحائز على أوسكار أحسن ممثل عام ٢٠٠٢، عن فيلمه «عازف البيانو»، الذى يصور مآسى اليهود البولنديين خلال فترة الاحتلال الألمانى للعاصمة وارسو أثناء الحرب العالمية الثانية، والمنحاز غالبًا لقصص المظلومية اليهودية سينمائيًا، لكننى بدأت أشك فى وجود سرٍ ما عندما عرفت أن الفيلم الذى أطلق رسميًا فى العشر الأواخر من ديسمبر ٢٠٢٤، تم ترشيحه لـ٣٣٦ جائزة عالمية خلال أقل من ثلاثة أشهر، من بينها ١٠ ترشيحات أوسكار، وفاز منها بـ١١٨ جائزة حتى هذه اللحظة، ولأننى من متابعى أداء برودى، الابن الأكبر لإليوت برودى أستاذ التاريخ اليهودى ذى الأصول البولندية، فهو فى الحقيقة واحد من محترفى فن التمثيل الذين يتمتعون بصفات الجدية والتركيز والاجتهاد فى غالبية ما يقدمونه من أعمال.. لا يمكننى إنكار ذلك، ولا التقليل منه.

على أية حال، شاهدت الفيلم بمجرد توفره، وأعدت مشاهدته مرة واثنتين وثلاثًا، وكان أن تأكدت شكوكى، وبدأت الصورة الكاملة لكل ما خلف ذلك الشريط الدعائى الفج والخبيث تتضح أمام عينى، بداية من التفكير فيه، وفى توقيت إنتاجه وعرضه والاحتفاء به، وكان أن حاصرتنى الأسئلة وعلامات الاستفهام، وفى مقدمتها السؤال عن الكيفية التى تمكنت من خلالها آلة الدعاية الصهيونية من استغلال سحر السينما لتشكيل ذائقة العالم الفنية، وتسييرها وفق هواها؟! وكيف استخدمتها طوال عقود فى العبث بعقل العالم وتوجيهه إلى ما تحتاج وما تريد، وهو ما لا أظن أنه أمر جديد أو مستحدث، فقد سبق ومارست ما استطاعت من جهود لترسيخ مظلومية ضحايا «الهولوكوست» حول العالم، بل وتمكنت من استحداث تهمة عجيبة تطارد بها مفكرى ومبدعى الدنيا فى كل بقاع الأرض اسمها «معاداة السامية»، ناهيك عما تمارسه شركات الإنتاج من اضطهاد وتحجيم لكل من تسول له نفسه انتقاد السيطرة اليهودية على شركات الإنتاج السينمائى، ويكاد لا يمر عام جديد دون إنتاج فيلم ضخم من حيث التكاليف، متقن من حيث الكتابة والإخراج والتمثيل، وتكرسه لإعادة بث المظلومية من المحرقة الألمانية.

الجديد هنا، فى هذا الشريط السينمائى إنتاج ٢٠٢٤، هو استخدام السينما فى حدث على قيد الحياة، ما زالت شواهده ماثلة أمامنا، وما زالت توابعه تحاصرنا، وما زالت القيادات الصهيونية تبحث بسببه عن مخرج من الأزمة التى وضعت حكومة بنيامين نتنياهو العالم فى مواجهتها.. هذا الفيلم باختصار شديد هو ما كانت تحتاجه «إسرائيل» طوال العام الماضى للتخفيف من حدة الرفض العالمى لممارساتها الهمجية فى غزة، ولرافضى عملياتها التوسعية أو تهجير الفلسطينيين منها، هو رسالة موجهة إلى الداخل الأمريكى، وإلى كل من يفكر فى توجيه أصابع الاتهام، أو حتى اللوم لماكينة الحرب الصهيونية.

المنشور الدعائى للفيلم يقول إنه عن «قصة هروب المهندس المعمارى صاحب الرؤية لازلو توث وزوجته إرزسيبت من أوروبا لإعادة بناء تراثهما، وشهود ولادة أمريكا الحديثة، وكيف تتغير حياتهما إلى الأبد على يد عميل غامض وثرى، إذ يقدم رجل الصناعة الساحر هاريسون فان بورين للازلو وعائلته الحلم الأمريكى على طبق من فضة، من خلال تكليفه بتصميم نصب تذكارى حديث كبير، والمساعدة فى تشكيل المناظر الطبيعية للبلد الذى يعتبره الآن موطنًا له، ليكون المشروع الأكثر طموحًا فى حياته المهنية، وهو المشروع الذى يأخذ لازلو وإرزسيبت إلى ارتفاعات هائلة، ويهبط بهما إلى مستويات مدمرة».

إلى هنا تبدو القصة وكأنها عبارة عن حكاية درامية عادية، بها بعض الميزات والمحطات المهمة والجاذبة، غير أنك لن تحتاج إلى جهد كبير لاقتفاء أثر أحداث الحرب الإسرائيلية على غزة فى التعجيل بإنتاج مثل هذا الشريط الذى يستدعى تاريخ المحرقة اليهودية ليبنى من خلالها بكائية جديدة، فيما يشبه عملية غسيل مخ عنيفة وموجهة إلى الداخل الأمريكى، ومنه إلى جميع أنحاء العالم!.

لنحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، لن تجد أكثر وضوحًا من عبارة «لا أحد يريدنا هنا»، لن ترى سوى لازلو وزوجته وابنة أخته يصارعون الرفض والإهانات المتلاحقة، لن تجد سوى ثلاثة يهود بولنديين غرباء، هاربين من جحيم الحرب إلى جحيم الرفض العالمى، حتى ممن يبدو أنهم مساندون وداعمون.. فهذا الثرى، صاحب المشروع الكبير لا يتردد فى اغتصاب لازلو والاعتداء عليه فيما لا يملك الآخر مقاومته بسبب معاناته من الألم وضعف المقاومة تحت تأثير المخدر والسكر الشديد.. وهذا ابن عمه الذى يوفر له مكانًا للإقامة والعمل بمجرد وصوله إلى الولايات المتحدة، لا يتردد فى طرده من العمل والمنزل باتهامات لا يدخر السيناريو وسعًا لوصفها بأنها اتهامات ملفقة.. هنا لا يجد الثلاثة أى مساحة آمنة إلا عن طريق الهجرة إلى إسرائيل، الرغبة التى تتردد على طول الفيلم، مرة من خلال «زوفيا» الصامتة أبدًا، تحت تأثير ما تعرضت له من أهوال خلال رحلة هروبها إلى أمريكا، فلا تأتى أولى كلماتها فى الفيلم إلا من خلال إعلان رغبتها وزوجها الهجرة «إسرائيل»!

هنا.. لا يقول لك المنشور الدعائى إنه يؤسس لهولوكوست جديد، لمظلومية جديدة، ولا يريد تغيير قناعاتك، أو التعاطف مع قاتل أطفالك «كما فى فيلم جولدا.. هو فقط يدعوك للتعاطف مع ذلك المعمارى المعتز بعمله والمتفانى فيه، بل والمضحى بمكاسبه المالية حين يتعلق الأمر بتوفير الموارد والنفقات، والذى يتعرض للرفض من «الكاثوليك» وغيرهم، يدعوك لالتماس العذر لزوجته القعيدة المتمسكة بكرامتها وكرامة عائلتها، الرافضة لاتهام زوجها بالتحرش بزوجة ابن عمه، والتى لا تجد أمنًا لها ولعائلتها فى غير الهجرة إلى «إسرائيل»!!

هنا.. ثلاث ساعات ونصف الساعة من البكاء على الموهبة المعذبة والمنتهكة.. والترويج لحتمية الهجرة إلى «إسرائيل» باعتبارها المكان الوحيد الآمن لليهود حول العالم.

وهنا تبقى بعض الأسئلة التى أريد توجيهها إلى نقادنا السينمائيين، ومحترفى الاستضافة فى المهرجانات العالمية، والعمل مع لجان تحكيم المهرجانات الدولية، لعل فى مقدمتها: هل يجرؤ أحدهم على التضحية باستضافاته تلك فيكتب مفندًا ما فى هذه الميلودراما المطولة من عيوب خلقية أو يقارنها على الأقل بأفلام أخرى من إنتاج نفس العام ولم تحظ بمثل هذه الاحتفاليات؟!

على أية حال.. لنا وقفة أخرى مع هذا «المعمارى المتشدد» والأكاذيب التى روجت لها آلة الإعلام الصهيونية على مدى قرون طويلة حتى تحولت بعضها إلى مقولات راسخة وحان وقت مراجعتها.