محمود السعدني| الكاتب «الهجّام»!
فى 17 أغسطس 1967، فوجئ الوسط الثقافى والصحفى بمقال لاذع للكاتب الكبير محمود السعدنى، منشور فى مجلة «صباح الخير» واسعة الانتشار وقتها، سخر فيه من أعضاء الوفد المصرى إلى مؤتمر «اتحاد الكُتّاب الأفروآسيوى» الذى عُقد فى بيروت قبل ذلك بعدة أشهر. قال السعدنى، فى المقال، إن «وفد مصر لم يضم وجهًا أدبيًا مصريًا معروفًا، كطه حسين أو توفيق الحكيم أو حسين فوزى أو لويس عوض. وكلها وجوه معروفة ومشهورة، بل كان الوفد يضم: الأديبة حنيفة فتحى، التى تُرجمت مؤلفاتها إلى اللغات البلجيكية والهولندية والكندية والهواويّة، نسبة إلى لغة هاواى. وأيضًا الأستاذ ثروت أباظة، الذى يعرض له التليفزيون حاليًا مسلسلة بعنوان: «الست اللى أكلت دراع جوزها». والشاب صبرى موسى، وهو صحفى أقرب منه لكاتب، وكذلك عباس خضر، الأديب الذى أراهن بألف جنيه، إذا وجدنا سبعة أشخاص فى أى مكان قرأوا شيئًا من أدبه»!.. لماذا هاجم السعدنى هؤلاء بهذه القسوة؟ ستندهش إذا عرفت أنه كان- آنذاك- على خلاف مع الأديب يوسف السباعى. وأنهم، ما عدا «الأديبة حنيفة فتحى»، التى لا وجود لها، كانوا من رجّالة السباعى!
على هذا المنوال الفريد، خاض السعدنى خلال حياته الحافلة معارك سياسية وشخصية لا حصر لها، سنأتى على ذكر بعضها، لكننا خرجنا منها جميعًا بنتيجة واحدة، أن هذا الرجل الفكاهى، كان فى معاركه الشهيرة لا يتوقف عن التلطيش فى خلق الله، بسبب وبدون سبب، ولا يتورّع أحيانا عن الضرب تحت الحزام.
لم تكن هذه المعارك من قبيل الأسرار، فقد نُشرت فى صحف ومجلات كبرى، مثل «أخبار اليوم» و«روز اليوسف»، بمعنى أن الخوض فيها الآن لا يدخل فى عِداد المحرمات، بل هو نوع من التفتيش فى الذاكرة المصرية، الهدف منه فرز «الغث من السمين»، كما تقول العرب، ولا علاقة له من قريب أو بعيد، بكلام مؤامرات من نوعية السعى إلى «إسقاط الرموز الثقافية».
كان الرجل على علاقة بكبار الصحفيين والسياسيين والمثقفين فى عصره، ودارت بينه وبينهم قصص أدّت إلى حدوث خلافات شخصية. الطرف الأقوى فيها هو السعدنى، الذى امتلك قلمًا حادًا ولسانًا سليطًا، وصحفًا تنشر له وتحتفى بكتاباته الفكاهية، المثيرة للجدل، والتى يتابعها القرّاء بشغف يوما بيوم، وتظهر فى أرقام التوزيع على الفور.
لقد أورد فى بعض كتبه من «تشنيعات» وهمية ومبالغات ساخرة أشبه بالكاريكاتير، عن شخصيات مُعتبرة من النخبة الثقافية المصرية، أوردها السعدنى على سبيل الفكاهة، باعتبارها وقائع حقيقية!
ومن هؤلاء شاعر كبير غنّت له أم كلثوم وعبدالوهاب، وكانت قصائده مُقررة على تلاميذ المدراس الابتدائية والإعدادية، فى وقت ما.
اتهم السعدنى، الشاعر، بأنه كان يتعاطى مخدر الأفيون أثناء جلوسه على «قهوة عبدالله» فى ميدان الجيزة، ويتوّهم تحت تأثير المخدّر أن «القيامة قامت»، فيظل يحملق فى المارة أمام القهوة بالساعات، ويغمغم بلا صوت: هم سُكارى، وما هم بسُكارى!
سخر «الولد الشقى» من الشاعر لمجرد أنه كان يفضّل الجلوس منفردًا على القهوة، ويرفض الانضمام إلى شلة السعدنى التى كانت تضم كامل الشناوى وأنور المعداوى وزكريا الحجاوى، وغيرهم ممن كان الشاعر الرومانسى الحالم يتقى شرهم، فيجلس بعيدًا عنهم ليسرح فى ملكوت الشعر، فما كان من السعدنى إلاّ أن أطلق عليه لقب «الشاعر الأفيونجى»!
أرعب السعدنى معاصريه بكتاباته، لكنه لم يكن يمارس هوايته فى السخرية والتعريض كتابةً فقط، بل كان يفعل ذلك شفويّا أيضًا فى بعض الأحيان، فيذهب الضحية من مجلس السعدنى.. ولا يعود!
حكى لى الصحفى اليمنى الراحل عبد الودود المطرى، وهو كاتب ساخر له كتاب ظريف عنوانه «تائه فى بلاد الإنجليز»، أنه جاء ذات مرة من اليمن مع صديق له يرتاد «نادى الصحفيين» على كورنيش الجيزة.
وطلب «عبدالودود»، الذى تولى فيما بعد منصب الملحق الثقافى بالسفارة اليمنية لدى القاهرة، من صديقه أن يصطحبه إلى هناك، لرؤية هذا الكاتب العظيم، الذى لا يُشقّ لقلمه غبار، وقد كان.
وأحضر «المطرى» معه، بكل براءة اليمنيين، واحدًا من مؤلفات السعدنى، لكى يكتب له كاتبه العظيم إهداء عظيمًا يفتخر به بين زملائه الصحفيين، عندما يعود إلى صنعاء.
أمسك السعدنى بالقلم، وكتب جملة واحدة، قرأها «عبدالودود» على الملأ بطلب من كاتبها، فانفجر المجلس ضاحكًا. كان الإهداء كالتالى: «إلى الرجل الذى حاول أن يركب الصعب، فركبه الصعب!».
وضحك صديق «المطرى» أكثر من الجميع، لأن تلك سخرية مركبّة، فالسعدنى الصايع القديم كان يعرف العامية اليمنية، ويعلم أن «الصعب» هناك معناه الجحش!
ربما لهذا السبب، ولأسباب أخرى، لم أحاول يومًا التعرّف على السعدنى شخصيًا، رغم أن «نادى الصحفيين» على بُعد شارعيّن من مسكنى، ورغم أن أحد أصدقائى كان يرتاد مجلسه بانتظام تقريبًا، ومن السهل أن يعرّفنى عليه وعلى شلّته، التى ضمّت نجومًا مثل الفنان عادل إمام.
أيامها، الفترة من عام ١٩٩٨ حتى ٢٠٠١، كان أعضاء النخبة المصرية، بمن فيهم كبار المثقفين والصحفيين والفنانين والألاضيش، وحتى وزير الداخلية المرحوم عبدالحليم موسى، يتهافتون على مجلس السعدنى العامر بالحواديت والقصص، وبما لذّ وطاب من مآكل و«مشارب».. شتى!
فى تلك الفترة، كنت أعمل فى جورنال «القاهرة» بالزمالك، لسان حال وزارة الثقافة، مع الكاتب الكبير صلاح عيسى، وكان الرجل يستكتب أصدقاءه ورفاق عمره، ومنهم السعدنى، عمودًا أسبوعيًا صغيرًا، مقابل مكافأة بسيطة قدرها ٦٠٠ جنيه فى الشهر.
تكسّب السعدنى من الصحافة أموالًا لم يكسبها صحفى مصرى، باستثناء محمد التابعى وحسنين هيكل، وامتلك عمارات وأبراجًا وأراضى زراعية واسعة فى الجيزة والمنوفية، وشقتيّن فى أفخم أحياء لندن. لكنه كان يطالب بزيادة «المكافأة» بإلحاح!
يكتب الرجل مقالًا يصلنا بالفاكس فى آخر لحظة دائمًا «يوم تقفيل» العدد، الثلاثاء من كل أسبوع. ويظل الأستاذ «صلاح» يطلبه تليفونيًا أكثر من مرة لحثّه على إرسال المقال، ويخبرنى ضاحكًا أن: السعدنى «يحرُن» لأنه «مستقلل» الـ٦٠٠ جنيه.
و«يحرُن»، هذه، لغة لا يفهمها إلاّ أهل القرى!
غير أننى قابلت بعد ذلك، فى مسيرتى الصحفية، رجالًا أحترمهم وأثق فى أحكامهم على الناس، منهم صديقى المرحوم أبوالعز الحريرى، المناضل اليسارى العفيف، الذى سألته عن السعدنى يومًا، فقال ببساطة: «هجّاص بس دمه خفيف»!
وهكذا، بدأت أراجع قناعاتى عنه، فتوصلت إلى نتائج مختلفة تمامًا غيّرت قناعاتى بشأنه.
اكتشفت، بالصدفة، أنه عاش حياته كاتبًا هجّامًا، يحطّ بقلمه الحاد عند اللزوم على خصومه، ويلصق بهم أبشع التُهم وأشنعها، فيخرج الواحد منهم مبطوحًا فى سمعته، مُحتقرًا بين بنى قومه.
فعل السعدنى ذلك، بمنتهى القسوة، عندما اختلف مع لاعب الكرة المشهور السيد الضظوى، فى أواسط الستينيات من القرن الماضى. كتب مقالًا لمّح فيه- صراحة- إلى وجود «علاقة شائنة» بين الضظوى والكابتن محمد لطيف، المعلّق الكروى اللطيف، الذى أحبّته مصر كلها!
نكتفى بذلك، الآن على الأقل. ونكشف قريبًا عن المزيد من فكاهيات السعدنى، التى إذا تحريتها بقليل من البحث والتدقيق، ستجدها أقرب للكوميديا السوداء، وتتبيّن بسهولة أن صاحبها لم يستطع أن يتلاءم مع الحياة، فتلاءم عليها!
وإلى حلقة مقبلة. والكلام، على رأى المطرب الحكيم، بيجيب كلام!