رأيت الله فى أوروبا.. لماذا لا يخاف الغربيون من النار وعذاب القبر وحساب الآخرة؟

- يرى أغلب الأوروبيين المسيحيين غير المتدينين أن الله سيكافئهم دون أن يعاقبهم
ليس بأعداد الكنائس التى تشق السماء، ولا بالحفاظ على صلوات الأحد، ولا بالصيام، ولا حتى بالرموز الدينية التى تقابلها فى الطرقات، الدين فى أوروبا يمكن لمسه والشعور به فى طباع الأوروبيين، وعاداتهم، وثقافتهم الفريدة، من احترام الخصوصية، وعدم انتهاكها، ومراعاة الآخرين، وتقبل الآخر على ما هو عليه.
ولكن على الرغم من ذلك، على مدار قرون كان للدين تأثير كبير على المجتمعات والثقافات والتقاليد والفلسفات والقوانين داخل أوروبا، واليوم هناك روايتان حول الله فى أوروبا؛ أنه لا يزال هناك عبر الصلوات والكتاب المقدس، وأنه لا يزال هناك عبر الثقافة المتطورة المُحدثة.. بين الروايتين نحاول أن نبحث عن الله فى أوروبا.

المسيح فى عيون الأوروبيين
قصة المسيحية فى أوروبا مركزها «المسيح»، صوره فى كل مكان، ورمز الصليب مُعلق على الجدران، مثلما نرى النبى محمد ابن بيئته، فالمسيح فى أوروبا وبحسب الثقافة الأوروبية هو «رجل أوروبى أبيض»، رغم أنه فى ثقافات أخرى تم تقديم المسيح على أنه رجل آسيوى، وفى الشرق الأوسط نرى المسيح رجل شرق أوسطى!
فهل نفقد الكثير إذا اعتبرنا النظرة الأوروبية المركزية للمسيح هى النظرة الوحيدة؟، وهل الكتاب المقدس يكتسب عمقًا عندما نقرأه بثقافات مختلفة؟.. بالطبع!
الأوروبيون الذين يزورون كنيسة البشارة فى الناصرة بإسرائيل يتعرضون لصدمة ثقافية فى الساحة: فالصور تصور يسوع كما يصور فى دوائر ثقافية أخرى. مرة بملامح آسيوية واضحة، ومرة أخرى ببشرة داكنة. والرجل الأبيض المعتاد الذى عرفوه ذو العينين الزرقاوين ليس سوى واحد من بين العديد من الرجال هناك.

يقول ديفيد كاستيلو مورا، الذى درس الدراسات الكتابية فى جنوب إفريقيا ويدرس فى جامعة أمريكا اللاتينية فى سان خوسيه بكوستاريكا: «لم يفاجئنى أن أرى يسوع أشقر الشعر فى الأفلام. إن العديد من الكنائس والمؤسسات المسيحية فى أمريكا اللاتينية تستنسخ وجهة النظر الأوروبية المركزية لأنها قُدِّمَت كحقيقة عالمية.
النظرة الأوروبية كما يبدو أصبحت هى النظرة السائدة للمسيحية، وهو ما رأته الدكتورة الهندية شارون جاكوب، الأستاذة المساعدة للعهد الجديد فى مدرسة الباسيفيك للدين فى بيركلى، كاليفورنيا، التى شعرت بهيمنة المنظور الغربى على صورة المسيح سواء فى الكنيسة أو فى الخطاب الأكاديمى.
فى نظر الكثيرين لم ينصف العلماء الأوروبيون وجهات نظر النساء والسود، فى تناول المسيحية، وإلا لكان من المعروف على نطاق واسع أن زوجة موسى الثانية صفورة كانت سوداء، كما أن موسى نال الخلاص أربع مرات على يد امرأة، ولكن على الرغم من ذلك فإن المجتمعات الأوروبية الحديثة تخوض حروبًا من أجل السود وتعزيز مكانة المرأة.. فهل هذا هو نتاج التطور؟ أم رفض من أوروبا الحديثة لما كان فى المسيحية التقليدية؟

الآلهة القديمة حاضرة
الله فى أوروبا ليس مقتصرًا على المسيحية، ولا على الحاضر، فالآلهة فكرة بالنسبة للأوروبيين، مرتبط أغلبها بالثقافات التاريخية لكل بلد على حدة. ورغم أنه لا يُعرف سوى القليل عن ديانة ما قبل التاريخ فى أوروبا فى العصر الحجرى الحديث، فيما كانت ديانة العصر البرونزى والحديدى فى أوروبا كما فى أماكن أخرى يغلب عليها تعدد الآلهة، إلا أن الديانات القديمة الأكثر شهرة، مثل الدين اليونانى القديم والدين الرومانى القديم والوثنية السلافية والوثنية الفنلندية والوثنية السلتية والوثنية الجرمانية، لا تزال تجد مكانها فى الثقافة الأوروبية الحديثة.
فالأوروبيون يقدسون آلهتهم القديمة، فى إيطاليا توجد تماثيل الآلهة الرومانية ولا يزال الإيطاليون يعتبرونها أيقونات للسعادة والإلهام، ربما بشكل أكبر مما نعامل به هنا فى مصر آلهتنا الفرعونية القديمة.

رغم مركزية شخصية المسيح فى أوروبا، إلا أن بعض الدول الأوربية لا تزال تقدس آلهتها القديمة. فى أثينا قال لى الشاب اليونانى «جورج» إنه أثناء طفولته، وبعد أن تعلم عن الآلهة الإغريقية القديمة الـ١٢، شعر بانجذاب نحوها وبدأ فى عبادتها جميعًا، حتى بعد أن قام والده بشرح الأمر له، إلا أنه ظل يعبد الآلهة الإغريقية جيمعها سرًا، وحتى هذه اللحظة ربما يحمل انجذابًا ما نحو تاريخه الإغريقى بجانب الصليب الذى يحمله. تمامًا مثلما تتشكل هوية الأوروبيين.
بعد أن تبنت الإمبراطورية الرومانية المسيحية رسميًا فى عام ٣٨٠م، وخضعت معظم أوروبا للتنصير خلال العصور الوسطى المبكرة، حيث اكتملت العملية بشكل أساسى مع تنصير ليتوانيا فى العصور الوسطى العليا، باستثناء الأندلس، وعلى مدار عقود ظل الدين يحتل مكانة مركزية فى أوروبا، حيث ارتبط مفهوم «أوروبا» و«العالم الغربى» ارتباطًا وثيقًا بمفهوم «المسيحية»، ويعتبر الكثيرون المسيحية هى الاعتقاد الموحد الذى خلق هوية أوروبية، خاصة أن المسيحية فى الشرق الأوسط تم تهميشها بسبب صعود الإسلام من القرن الثامن.
ورغم فشل الحروب الصليبية، لكنها كانت خطوة مهمة فى ظهور هوية أوروبية قائمة على الدين. على الرغم من ذلك، استمرت تقاليد الدين الشعبى فى جميع الأوقات، إلى حد كبير عن الدين المؤسسى أو اللاهوت العقائدى.
ثم أدى الانشقاق العظيم فى القرن الحادى عشر والإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر إلى تمزيق المسيحية إلى فصائل معادية، وبعد عصر التنوير فى القرن الثامن عشر، انتشر الإلحاد واللا أدرية فى جميع أنحاء أوروبا، كما ساهم الاستشراق فى القرن التاسع عشر فى زيادة شعبية الهندوسية والبوذية، وجلب القرن العشرون تزايد التوفيق بين الأديان.

الإيمان بالله وليس الكتاب المقدس
بعد أن تصدرت المسيحية فى أوروبا، لم تنته الخلافات حينذاك بل ربما بدأت، ليس بسبب الانشقاقات والكنائس والمجموعات المعادية، ولكن فى النظرة إلى الله فى حد ذاتها، فهناك معادلة كبيرة فى أوروبا، مفادها أن أغلب الأوروبيين يؤمنون بالله. ولكن فى أوروبا اليوم لا يعنى الإيمان بالله بالضرورة الإيمان بإله الكتاب المقدس.
بحسب استطلاع لمركز «بيو»، فإن عددًا أقل من المشاركين يقولون إنهم يؤمنون بالله «كما هو موصوف فى الكتاب المقدس» مقارنة بمن يقولون إنهم يؤمنون «بقوة أعلى أو قوة روحية أخرى». كما أن أعدادًا كبيرة من الناس الذين شملهم الاستطلاع فى مختلف أنحاء المنطقة لا يعتقدون بوجود أى قوة أعلى أو قوة روحية فى الكون.
بحسب نتائج الاستطلاع، فإن الإيمان بإله الكتاب المقدس أكثر شيوعًا بين المسيحيين الذين يذهبون إلى الكنيسة منه بين المسيحيين غير الممارسين «أولئك الذين لا يذهبون إلى الكنيسة أكثر من بضع مرات فى السنة». وفى حين يقول معظم المسيحيين غير الممارسين إنهم يؤمنون بالله أو بأى قوة عليا أخرى، فإن معظمهم يقولون إنهم لا يؤمنون بالله كما هو موصوف فى الكتاب المقدس. وبين الأشخاص غير المنتمين إلى أى دين فى أوروبا الغربية، فإن الرأى السائد هو أنه لا توجد قوة عليا من أى نوع.

ولكن حتى المؤمنين بالكتاب المقدس لا يتفقون على كيفية تفسير كتبهم المقدسة. ويعتقد البعض أن الكتاب المقدس يجب أن يُفهَم حرفيًا، كلمة كلمة، بينما يرى آخرون أنه لا ينبغى أن يُفهَم كل شىء حرفيًا.
بينما يتبنى أغلب الناس فى جمهورية التشيك «٦٥٪» وإستونيا «٥٨٪» موقفًا معاكسًا، حيث يقولون إن الكتاب المقدس كتبه رجال. وينقسم الصرب والبلغار والليتوانيون والمجريون واللاتفيون بالتساوى تقريبًا بشأن هذه المسألة.
ما لاحظته- وقد أكون مخطئة- أن فى البلدان ذات الأغلبية الكاثوليكية، خاصة إيطاليا، هناك مستويات أعلى من الإيمان بإله الكتاب المقدس مقارنة بالناس فى البلدان ذات الأغلبية البروتستانتية. ومع ذلك، فإن الإيمان بإله الكتاب المقدس أقل فى كل هذه البلدان منه فى الولايات المتحدة الذى يحتل الكتاب المقدس مكانة مهمة هناك.
فى براغ، التقيت العديد من الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بغير المنتمين إلى أى دين بشكل عام، وأنهم لا يؤمنون، لكنهم يؤمنون بقوة أعلى فى الكون.

الله يحب الجميع
فى الطريق من أثينا إلى القاهرة، جلس بجوارى شاب يونانى متدين لم يكف عن الصلاة طوال الرحلة الجوية المتقلبة التى سببت قلقًا للركاب، وعندما سألته، قال إنه يحضر الخدمات الدينية مرة واحدة على الأقل شهريًا، وهو يرى أنه يؤدى الفروض، ولهذا فإن الله يتواصل معه باستمرار.
فى أوروبا الله يحب الجميع، لا يعاقب أحدًا، هناك ثلاث سمات غالبًا مرتبطة بالإله فى أوروبا: المحبة الكاملة، والمعرفة الكاملة، والقدرة الكاملة، وحسب مستوى الالتزام الدينى يتم النظر إلى تلك السمات، ومن بين هذه السمات الثلاث فإن الأكثر اعتقادًا هو أن الله «يحب كل الناس بغض النظر عن عيوبهم».
فى رومانيا التقيت سيدة خمسينية، بعد حديث مطول معها عن الوحدة والغربة، والأحلام التى لم تتحقق، قالت لى إن الله يحبها على الرغم من كل شىء، فجادلتها وقلت لها: أنتِ غير سعيدة، ووحيدة، وفقدتِ كل المقربين، كيف ما زلتِ تعتقدين أن الله يحبك؟، بكت، وأصرت أن الله يحبها لكنه لم يحبها بالشكل الكافى، وإلا كان أخذها سريعًا عن والدها «الذى توفى قبل عامين».

مسألة الحساب والجنة والنار هى محل جدل، فقليلون هناك حدثونى عن محاسبة الله للناس، وبحسب الاستطلاعات، فإن الله سيحاسب الناس على أفعالهم، وكما يبدو أن المتدينين هم أكثر إيمانًا بأن الله سيعاقب الناس. يقول معظم المسيحيين الذين يذهبون إلى الكنيسة إن الله سيدين الجميع، بينما يرى أغلب الأوروبيين المسيحيين غير المتدينين أن الله سيكافئهم دون أن يعاقبهم.
فى جمهورية التشيك التقيت رجلًا بريطانيًا فى إحدى الحانات، والذى كان يبدو عليه أنه متدين، وحول براغ دار العديد من التساؤلات بينى وبينه، عن الكنائس الكثيرة والصلوات القليلة فى هذه المدينة الجميلة التى توصف بأنها عاصمة أقل الدول تدينًا فى أوروبا، قلت له بسذاجة: ربما الله لا يراهم، فهم مختبئون تحت القلاع والحصون التشيكية؟
فأجاب بشكل جدى: «الله يرى كل شىء، ويعرف كل شىء، أتخيل الله، إنه جالس هناك وينظر إلينا طوال اليوم ويرى كل شىء ويعرف كل شىء، فلديه مثل الصورة البانورامية التى تلتقط كل الجوانب فى آنٍ واحد والتى يتم تحديثها كل لحظة».
سمع حديثنا رجل أمريكى فتدخل فى الحديث دون استئذان قائلًا: «أنا غير مؤمن بالله، ولكن مؤمن بأن هناك قوة أعلى، شيئًا مثل الطاقة، وأشبه بالملاك الحارس.. بالنسبة لى، الله ليس واحدًا فقط، بل عدة ملائكة. عندما أصلى، أفضل أن أصلى لملائكتى الحارسين المحيطين بى، بدلًا من الصلاة مباشرة إلى الله».

الله أم العين الشريرة؟
مسألة الجنة والنار لا تزال محل خلاف، فبحسب الاستطلاعات، فإن الكاثوليك يمليون أكثر من المسيحيين الأرثوذكس إلى القول إنهم يؤمنون بالجنة والجحيم، وهى المعتقدات المرتبطة عادة بالمسيحية، ولكن يظل الإيمان بالجنة أكثر شيوعًا إلى حد ما من الإيمان بالجحيم فى الدول الأوروبية.
ولكن المسيحيين الأرثوذكس يميلون أكثر من الكاثوليك إلى الإيمان بالعين الشريرة والسحر والشعوذة، وهى ظواهر لا ترتبط عادة بالمسيحية ولا ترتبط عادة بالأديان الإبراهيمية، ولكنها تظهر بشكل وثيق فى العديد من وسط وشرق أوروبا. مثل أن الناس يتجسدون مرة أخرى، وأن السحر أو الشعوذة يمكن أن تؤثر على حياة الناس، وأن بعض الناس يمكن أن يلقوا اللعنات أو التعويذات التى تسبب حدوث أشياء سيئة لشخص ما، أى «العين الشريرة».

حيث أعرب اليونانيون واللاتفيون «٦٦٪ لكل منهما» عن اقتناعهم بهذه الأفكار. وتبلغ النسبة المتوسطة من سكان أوروبا الوسطى والشرقية الذين يؤمنون بالعين الشريرة ٤٨٪.
فى اليونان ودول البلقان لا يمكنك أن تتجاهل الميداليات والرموز والقطع المغناطيسية المنتشرة فى كل مكان، التى تحمل صورة «العين»، والتى ربما لو امتلكتها ستدفع عنك عين الشيطان الشريرة. فامتلكت واحدة ولا أعرف إذا كان الشيطان لا يزال هنا أم لا!