الأربعاء 12 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ملك الأقمشة.. نسيج الحضارة فى تاريـخ الحرير

آراثى براساد
آراثى براساد

- الحرير هو مورد طبيعى ومستدام وقابل للتحلل ويُعرف بقدرته على حماية الجسم فى الجراحة

هناك عدد قليل من الأقمشة التى تتمتع بسمعة أكبر من حيث الفخامة أو الشهرة، وعلى رأسها يسود الحرير ملك الأقمشة بلا منازع، بألياف قوية جميلة لامعة وأنيقة لها سحر خاص، ويبدو أنها تتمتع أيضًا بغموض وأثر، لا يمكن إنكاره أو محوه على البشرية والحضارة.

هذا الأثر أصوله تمتد عبر الثقافات والبلاد على مر التاريخ، حيث تم إنشاء طريق الحرير- أول طريق تجارى عالمى- منذ آلاف السنين، لجلب الحرير من الصين إلى أوروبا خلال العصر الرومانى.

وتزايد الهوس بكشف أسرار أقوى مادة بيولوجية على الإطلاق، لتبدأ ممارسة تربية دودة القز إلى أقصى حدود العالم، والتحقيق فى تشريح الحيوانات المنتجة للحرير، وهو ما قاد إلى فراشات الصين وإندونيسيا والهند؛ وعناكب الأرجنتين وباراجواى ومدغشقر، ورخويات البحر الأبيض المتوسط.

فى كتابها «الحرير: تاريخ العالم»، تسلط «آراثى براساد» الكاتبة والباحثة، الضوء على خيوط الطبيعة الأكثر سحرًا، وتأثير هذا النوع من الألياف اليوم، حيث نتجت عنه تقنيات جديدة فى مجالات الموضة والدفاع والمجالات الطبية، لتظهر إمكاناته غير المستغلة لريادة مستقبل أكثر استدامة.

وآراثى براساد حاصلة على درجة الدكتوراه فى علم الوراثة من «إمبريال كوليدج» لندن، وهى زميلة أبحاث فخرية فى قسم علم الوراثة والتطور والبيئة بجامعة كوليدج لندن.

الكتاب صدر فى نهاية أبريل الماضى، عن دار نشر «وليام مورو» الأمريكية التابعة لناشرى «هاربر كولينز» فى 304 صفحات، وتم اختياره كأفضل كتاب تاريخى لعام 2024 لمجلة «سميثسونيان» المتخصصة فى العلوم والطبيعة، وأيضًا كأفضل كتاب واقعى لمجلة المكتبة فى عام 2024.

وتأتى أهميته فى أنه يصور الحرير بوضوح على أنه أكثر من مجرد نسيج فاخر، ولكنه قناة للتبادل الثقافى والتحول الاقتصادى، وذلك من خلال مزج الرؤى العلمية مع رواية القصص التاريخية بسلاسة.

قصة التحولات

تمتد قصة الحرير إلى آلاف السنين مع المخلوقات التى تصنعه، فهو على عكس القطن أو الكتان، يُصنع بشكل شائع عن طريق الحشرات، لكن بالنسبة للكاتبة فالقصة تبدأ منذ الطفولة، عندما فتنت بالحرير وشاهدت خيوطه المضيئة، تُنسج فى نسيج على أنوال يدوية وتزين بأسلاك ذهبية فاخرة.

ومن باب الفضول، قامت بتربية مجموعتها الخاصة من «بومبيكس مورى»، وهى أهم أنواع دودة القز المستأنسة الصينية فى العالم، التى يسميها العلماء: ملكة الأنسجة بلا منازع.

لتبدأ بعد ذلك فى دراسة مجموعة من أنواع الفراشات والعث الموجودة فى متحف التاريخ الوطنى بلندن، الذى يحتوى على أمثلة لـ١٥٧ ألف نوع من هذه الحشرات، وهى نتاج أكثر من ٢٠٠ مليون سنة من التطور.

وتذكر المؤلفة تعبير الطبيب الإيطالى «مارسيلو مالبيجى»، الذى نُشر عام ١٦٦٨، ويقول: «دودة القز هى الحشرة الأكثر شهرة بين مواطنينا، حيث تحدث تحولات رائعة للغاية، ويتألق عمل الطبيعة بشكل كبير، بحيث يكون من الضرورى النظر فى الجوانب الفريدة من حياتها».

وتنتج دودة القز مادة الحرير فى الأساس لحمايتها من الحيوانات المفترسة والأمراض، لكنها أيضًا ليست واحدة، بل متنوعة ومختلفة تمامًا على عكس ما نعتقد، وعن ذلك تقول براساد فى مقدمة كتابها: «لأنه لا يوجد حرير واحد فقط، لا توجد قصة حرير واحدة فقط».

وتضيف: «لم يكن هناك طريق واحد، ولا شعب واحد وجده، ولا أمة واحدة صنعته. ولا يمكن لدولة واحدة أن تصادر مصدرها. فى الحرير العلم والتاريخ والأساطير والمستقبل، وما يلى هو قصص من التحولات العديدة للحرير: اليرقة إلى العثة؛ شرنقة للسلعة. وسلاسل البروتين البسيطة إلى خيوط ذات قدرات غير عادية للغاية».

هذه الخيوط ذات القدرات الاستثنائية، كانت أساس صناعة الملابس من قبل المزارعين الصينيين فى العصر الحجرى الحديث، الذين قاموا بتربية وحصد دودة القز واستخدموا أيضًا البيض واليرقات فى الأدوية التقليدية والأصباغ والأسمدة والنكهات. ومع ذلك، فإن صناعة الحرير لم تنشأ فقط فى الصين.

حيث عثرت البعثات الأثرية إلى الهند على أدلة على وجود الحرير فى المصنوعات اليدوية فى الفترة بين ٢٤٥٠ و٢٠٠٠ قبل الميلاد، ليس من دودة «بومبيكس مورى»، ولكن من أنواع أخرى متميزة من العث، عبر شبه القارة الهندية.

وتلفت الكاتبة إلى أن الحرير الصينى دائمًا هو الأكثر شهرة، الذى يأتى من فراشة «بومبيكس مورى»، التى لم تتمكن الدراسات الجينية من التحقق من عمرها بالضبط، لكن من المرجح أن يكون عمرها حوالى ٤ إلى ٥ آلاف سنة.

وتحدث عملية إنتاج الحرير خلال طريقة تسمى «التحول الكامل» عندما يتطور العث، من يرقة صغيرة، وذلك حيث تفقس اليرقات من بيض صغير. وعلى مدى بضعة أسابيع، تأكل كميات وفيرة من أوراق التوت الأبيض، طعامها المفضل، حتى تصبح يرقات طرية، يبلغ طولها حوالى ثلاث بوصات.

ثم تتوقف عن الأكل والحركة. وفى هذه المرحلة، تفرز «الحرير» السائل الذى يتكون فى الغدد الموجودة على طول أجسامها، والذى يخرج عبر الغدة اللعابية. عندما يضرب سائل الحرير الهواء، فإنه يتصلب فى الخيط ويشكل شرنقة، تحميها أثناء تحولها إلى عث.

وتلفت المؤلفة إلى أن فى المجمل، تصنع كل يرقة خيطًا متواصلًا يبلغ طوله حوالى نصف ميل. هذا الخيط أدق ١٠٠٠ مرة من شعرة الإنسان، ومع ذلك فهو يتمتع بقوة شد لا تصدق.

شخصيات تاريخية

هناك قصص غير عادية لعديد من الذين يمكن أن نطلق عليهم العلماء المواطنين فى القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، الذين كرسوا أنفسهم للتحقيق فى هذه العملية الغامضة للتحول، وتشريح دودة القز، وخصائص خيوط الحرير، وقاموا برحلات جريئة بحثًا عن اليرقات.

وتذكر براساد أسماء هؤلاء العلماء ومنهم، «توماس واردل»، الذى عمل عماله فى مصنع «ميدلاندز» على كيفية تبييض حرير القيصر والطباعة عليه، ما أدى إلى طفرة فى صادرات الهند من الحرير.

وأيضًا «ماريا سيبيلا ميريان» العالمة والرسامة الهولندية، التى بدأت دراسة ورسم الحشرات فى عام ١٦٦٠ عندما كانت فى الثالثة عشرة من عمرها، وأنتجت لاحقًا نقوشًا جميلة ومطلوبة لتحول اليرقات. وقادتها ملاحظاتها إلى استنتاجات دقيقة حول دورة حياة العث، التى كانت تتعارض مع الحكمة القياسية للعديد من رجال العلم المدربين.

وسافرت ميريان فى عام ١٦٩٩ إلى مستعمرة «سورينام» الهولندية، لمواصلة ملاحظاتها وجمعت عينات من أنواع العث المنتجة للحرير، التى ساعدت هولندا لاحقًا فى التنافس مع صناعة الحرير الصينية، والاكتشاف الأثرى فى القرن العشرين لاعتماد روما القديمة على حرير الرخويات.

وتشير الكاتبة إلى أن العديد من النساء والرجال من السكان الأصليين الذين أسهموا فى دراسة الحيوانات المنتجــــــــــة للحـــريـــــــر بطرق مختلفة، لا يزالون مجهولين، وأن هناك شخصيات تاريخية عملت على استكشاف مصادر أقل شهرة للحرير، بما فى ذلك الرخويات والعناكب.

ومن هؤلاء «الشيخ زين الدين»، وهو فنان هندى من القرن الثامن عشر رسم رسومًا توضيحية لفراشات الحرير، و«رامون ماريا تيرميير»، وهو كاهن إسبانى درس الحيوانات المنتجة للحرير، خاصة العناكب، فى أمريكا الجنوبية فى منتصف القرن الثامن عشر.

الكأس المقدسة

تقول المؤلفة إن اكتشاف أن العث ليس هو وحده مصدر إنتاج الحرير، فتن العلماء بدراسة حرير العناكب، وفى عام ١٧١٠ كلفت أكاديمية باريس للعلوم عالم الحشرات فى القرن الثامن عشر «رينيه أنطوان فيرشولت دى ريومور» بذلك.

حيث كان حرير العنكبوت ولا يزال الكأس المقدسة للحرير، بفضل قوته ومرونته المذهلة. وذات يوم كتب «ريومور»: «إن الطبيعة لا تقتصر على بضعة أمثلة، حتى على إنتاجاتها الأكثر تفردًا». وكان الحرير أحد تلك المنتجات الفريدة.

وتلفت براساد إلى أنه لو كان حجم العنكبوت بحجم الإنسان، لكانت شبكته قوية بما يكفى لإيقاف طائرة نفاثة فى طريقها. لكن العناكب لا تحب، لسبب وجيه، التعاون مع البشر الذين يريدون حريرهم. لقد كانت هذه مشكلة أبدية. 

وفى السنوات القليلة الماضية، سعى مختبر البروفيسور «راندى لويس» فى جامعة ولاية يوتا الأمريكية إلى إيجاد طرق للتغلب على ذلك، مثل تعديل البكتيريا والخميرة وفراش الحرير وحتى الماعز، لإنتاج نوع من حرير العنكبوت.

لكن «ريومور» كان أيضًا منغمسًا فى دراسة تشريح حيوان آخر، يُعرف باسم «صدفة القلم النبيلة وبلح البحر المروحى»، هو نوع كبير من المحار أو رخويات البحر الأبيض المتوسط على شكل مروحة، ويصل طوله إلى ما يزيد قليلًا على ثلاث أقدام. 

وتوجد فى قاعدته المدببة صدمة من الخيوط الطويلة والناعمة التى تشبه خصلات شعر الإنسان، ولكنها أدق بثلاث مرات. وتأتى الخيوط بظلال من البرونز أو النحاس، ومن الأصفر الذهبى إلى البنى، ومن الأخضر الزيتونى إلى الأسود. 

ويعرف ذلك باسم حرير البحر، وقد تم نسجه منذ العصور القديمة على الأرجح لصنع الملابس. وفى أقدم الأمثلة المتبقية، تظل الألوان الملفتة للنظر لخيوطها سليمة تمامًا، لكن بعد أن كانت هذه الأنواع من الرخويات وفيرة، أصبحت الآن مهددة بالانقراض بشدة. 

بينما قضى «فريتز فولراث»، الأستاذ الفخرى فى جامعة أكسفورد، حياته المهنية فى العمل مع حرير العناكب والعث البرى والحيوانات الأخرى، تضمن بحثه حيوانًا صغيرًا يشبه الجمبرى يغزل خيطًا، من حيث القوة والمرونة، يقع فى مكان ما بين حرير العنكبوت وحيوان البرنقيل «محار يعيش فى المياه المالحة يلتصق بالأشياء تحت الماء».

سلعة عالمية

توضح الكاتبة أن الشعوب المختلفة قامت بزراعة الحرير ونسجه، حيث انتشرت هذه الممارسة غربًا على طول الطريق الذى عُرف لاحقًا باسم «طريق الحرير» من آسيا الوسطى إلى شمال الهند وتركمانستان وإيران وسوريا والعراق والبحر الأبيض المتوسط. 

ووصلت دودة القز إلى أوروبا فى حوالى القرن السادس الميلادى، وبحلول أواخر القرن الثالث عشر كان إنتاج الحرير على نطاق واسع راسخًا.

وتشير المؤلفة إلى أنه من المرجح أن تكون مدينة «ميرف»، وهى مدينة كبيرة ومثقفة تقع اليوم فى تركمانستان، هى المكان الذى نقلت فيه ديدان القز الصينية لأول مرة إلى الغرب، وبعد ذلك بدأت صناعات عظيمة فى إيطاليا وفرنسا، واشتهرت بحريرها.

التطبيقات العسكرية

على الرغم من تحول الحرير إلى سلعة عالمية مربحة جدًا فى التجارة الدولية، فإنه- خاصة حرير العنكبوت- قوى للغاية ويمتلك قوة شد ملحوظة، مما جعله مفيدًا فى خياطة وتضميد الجروح وللاستخدام العسكرى، بما فى ذلك صناعة الشعيرات المتقاطعة، والمظلات والسترات الواقية من الرصاص.

وتوضح براساد أن استخدام الحرير فى التطبيقات العسكرية، جاء بدءًا من الدروع الواقية للجسد للجنود المغول والصينيين فى العصور الوسطى، وحتى السترات الواقية من الرصاص فى القرن التاسع عشر فى شيكاغو، لإطلاق المظلات النازية المثبطة.

وتذكر الكاتبة أن فى عام ١٨٩٣، صنع كاهن بولندى يُدعى «كازيمير زيجلين»، ومقره فى شيكاغو، سترة حريرية مضادة للرصاص، قيل إنها مملوكة للإمبراطور الألمانى، وملك إنجلترا، ورئيس فرنسا.

وتقول المؤلفة إنه لسوء الحظ، لم يرتدِ الأرشيدوق «أحد أمراء العائلة المالكة فى النمسا وفى عهد الإمبراطورية الرومانية المقدسة كان يحكم أرشدوقية النمسا» فرانز فرديناند أو زوجته فى اليوم الذى أصيبوا فيه بالرصاص، السترة الواقية المصنوعة من الحرير، وذلك فى ٢٨ يونيو ١٩١٤، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وتضيف: فى عام ٢٠١٤، تم تصنيع نسخ طبق الأصل من السترة الحريرية التى ربما تمكن «فرديناند» من الوصول إليها فى إنجلترا بواسطة مستودعات الأسلحة الملكية، وفقًا لمواصفات براءة اختراع «زيجلين». وكانت الذخيرة والأسلحة مماثلة لتلك التى استخدمها قاتل «فرديناند»، وقد ثبت بشكل واضح أن الطبقات الحريرية أوقفت الرصاصة فى مسارها.

استخدامات مستقبلية

تقدم براساد نظرة سريعة على مستقبل الحرير واستخداماته المحتملة- على سبيل المثال، فى اللقاحات، وأعضاء الجسم الاصطناعية، وحتى أجهزة استشعار الدماغ القابلة للزرع أو البلع، حيث إن البراعة المذهلة للحيوانات التى تصنع الحرير وخصائصها المميزة والاستثنائية لها أهمية حيوية للتطبيقات المستقبلية.

وتلفت الكاتبة إلى أن الحرير هو مورد طبيعى ومستدام وقابل للتحلل، ويُعرف بقدرته على حماية الجسم فى الجراحة وفى شفاء الجروح، باعتباره بروتينًا حيوانيًا طبيعيًا.

وتضرب مثالًا على ذلك بأن فى جامعة تافتس فى بوسطن الأمريكية، أنتج مختبر تابع للبروفيسور «فيورينزو أومينيتو» لقاحات مثبتة الحرارة ولا تحتاج إلى تبريد؛ والبنسلين الذى تم تثبيته باستخدام الحرير لعدة أشهر؛ وعقار العلاج الكيميائى الذى ظل أيضًا مستقرًا ويعمل بكامل طاقته فى «مايو كلينيك» لأكثر من عقد من الزمان.

وتمت الموافقة بالفعل على منتج آخر من منتجاتها المعتمدة على الحرير، لإعادة بناء الحبال الصوتية، وعلى حد تعبير أومينيتو: «إن حقيقة أننا نبدأ من مادة ذات أساس طبيعى تدفعنا إلى وضع التكنولوجيا فى مكان لا تذهب إليه التكنولوجيا عادة، ويجمع بالفعل بين البيولوجيا والتكنولوجيا». 

وتشير المؤلفة أيضًا إلى الابتكارات القائمة على الحرير لحماية الكوكب، ومنها الإلكترونيات المعتمدة على الحرير، وهى قيد التطوير بالفعل.

وبالنسبة للنفايات البلاستيكية، تتم دراسة كيفية بناء بوليمرات الحرير، مع اهتمام علمى كبير بإنتاج بروتينات حرير العنكبوت الاصطناعية التى يمكن أن تقدم «ترياقًا قابلًا للتحلل للبلاستيك».