إحساس لا يقبل القسمة
لا أعلم كيف تسلل لى هذا الإحساس الخريفى بأن ربيعًا مزهرًا لا يبرح شقتها الصغيرة، تمر عيونى لتُعبِأ راحة تبدو كالقطيفة التى يرتاح لملمسها يداى، لا توجد بيننا أى ضغينة تجعلنى أحقد عليها مطلقًا، تمر الساعات وهى تحاول دائمًا أن تقنعنى أننى على صواب حين وقفت لقارئ عداد الكهرباء أراجعه قراءة الشهر الماضى، بعد أن كبدنى مبلغًا وقدره، وساعات أخرى تضع جناحها فوق ظهرى المنكسر حتى لا تحطمة قسوة، أو تحرقه مرارة أيام لا يعلمها إلا الله.
أجلستنى فى الصالون كعادتى، بعد أن زاد ترحابها بى عن كل مرة لقيتها، اختلست النظر فى هدوئها المستفز، وهى ترتدى جلبابها الأبيض الوردى، وقعت عينى على آية الكرسى المعلقة فى برواز نحاسى كبير، سلبنى روحى التى كانت تلف الشقة بحثًا عما خبأته من جمال لم يصل إلى، أو دسته بعيدًا عما اشتمته من حسدٍ لم أقصده.
كحت كحتين شديدتين، أفصحتا عن جرح فك خيطه، وعن ألم بدا نافرًا لا يستوعبه أى قيد، قمت أربت على ظهرها برفق كان صادقًا، صببت لها كوبا من الماء كان على طاولة الصالون فلم يسعفها، جلست وهى تمسك بمقدمة رأسها كأن حزنًا قد حطت سفنه فوقه، قالت ودموعها تحمل سخونة فاضحة...
• مازال الدوار يلازمها ولا تعرف سببه
طمأنتها، وأنا تقترب خُطاى من شجرة مكتوب عليها لا تقربا، سألتنى بحنو...
• هل تشتمين رائحة كريهة بالمكان؟
أجبتها باندفاع:
• أبدًا.. عطرك الياسمينى يغلف شقتك من الباب حتى الشباك
هزت حاجبيها مستغربة وصول تلك الرائحة التى تلازم أنفها، أجبتها وأنا أقرصها خلف أذنها مداعبة:
• ربما هو الوحم يا صاحبة الجلباب الوردى.. جمالك وهندامك ورائحتك يوقظون فى الرجال ذاكرة كادت أن تنسى.
تميل بابتسامة باهتة وهى تقول:
• وحم!
كادت أن تبوح لولا أن رأت برهانًا لا أعرفه، استقر حزنها، دمعت عيناها، زاد احمرارها، تلعثمت كلماتها، تقول برعشة.. الرائحة تقترب، تمسك رقبتها كأن حبلًا حولها، تصارع ما لا أراه، لا أغفر لنفسى، تسقط أوراق ربيعها أمام خريفى لا أدرى ماذا أفعل....
أحاول أن أعدل جسدها الذى تخشب، وروحها التى يبست، صرخت فزعة مستنجدة:
• أريد من يسعفنى ويسعفها
تنبهت لشبح رجل بدا تحت عينيه سوادًا كالحًا، بيده سيجارة لها دخان رث، ملابسه تبدو أطلالًا، خرج وهو يهذى كأنه يغنى، غير مهم فقط لينقذنا استنجدت به، هز رأسه وهو يقول اتركيها ستفيق بعد أن تزول الرائحة، قالها وهو يغرق فى ضحكات جنونية.. غير أنه اقترب منها، تركتها وابتعدت.. دس يده فى جيب ورودها يقطفها دون شفقة، أخرج مفاتيحًا كثيرة ألقى بها، وروشتة طبيب طوحها، وصورة لها وهى صغيرة ضاحكة فداس عليها ومبلغا من المال عده وهو يقول:
• فرجت يا معلم والليلة ليلة أنس
خرج من الشقة وهو ينظر لصورة له ولها فى الصالون يوم كان فرحهما منذ سنوات طويلة، مستغربًا ذلك الواقف بجوارها كأنه يسأل من هذا؟ وكيف جاء هنا؟ بينما تخشبت روحى وأنا أراها تقوم بعد خروجه من الشقة كأن عفريتًا قد انصرف، تبكى وتتأسف وتصلح من هندامها الذى ابتلت جدرانه، أستأذنها الرحيل بينما آية الكرسى تنظر لى بشجن كثيف.