الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الحروف الطائرة

لوحة لأحمد عبدالله
لوحة لأحمد عبدالله

كنت فى الخامسة عشرة عندما توقفت عن الكلام، عجز الجميع عن تصديق الأمر، واعتبره البعض تصرفًا غير أخلاقى، لم يسمع أحد من قبل عن حادثة كتلك، بدأ الأمر عندما دخلت فى نوبة غضب صبيانية حين أزعجنى بعض الأشقياء، خرج الكلام من فمى فى هيئة فوج هائل من الحروف الطائرة، تدور حول رأسى ثم تطير بعيدًا ولا تُبقى لها أثرًا، أول ما طار كان الكاف، وتلته الراء، ثم العين والفاء، ثم لحقها ما تبقى من الحروف الأبجدية تدريجيًا، وظلت الكلمات تخرج من فمى غير مكتملة الأحرف، حتى خلتْ تمامًا من جميع الحروف.
حاول الجميع مساعدتى، بعضهم قام بنصب أسيجة من الخيوط المتشابكة، معلقة بين أعمدة الإنارة، متصلة برءوس الأشجار الضخمة وأسطح البنايات العالية، تدور حول الإطار المحيط بى، تترصد كل ما يخرج من فمى، حتى تتمكن من الإمساك به، لكن الأحرف الطائرة كانت تخترق تلك الأسيجة، وتمضى بعيدًا... أحدهم قام بوضعى فى صندوق من زجاج بثقوب صغيرة، حتى يتسرب إلىّ الهواء، فى محاولة منه لشذب أجنحة حروفى الطائرة، لكنها ظلت تأكلنى، بادئة من رأسى، حتى أهلكتنى تمامًا، ونالت حريتها.. وحاول أبى ذات مرة، بنظرة جاحظة منه، خمد حروفى الثائرة، بنظرة واحدة فقط، صار لصدرى قفص من حديد، تتكوم فيه حروفى، لكنها لم تهدأ حتى شقت صدرى، ومضت إلى حيث لا شىء يوقفها.. 
أصبح الأمر حديث الساعة فى المدينة كلها، والأمهات فى بيوتهن، أجبرن بناتهن على السكوت، صرن يَضعن أشرطة على أفواه بناتهن من قماش غليظ، خشية أن تفكر إحداهن بالكلام ذات مرة، وتصبح حروفها طائرة، والفتيان فى الأحياء المجاورة، ابتدعوا لعبة جديدة، من خلالها تُفقد الحروف وتُسترد عن طريق الخدعة، والصغار أيضًا، كانت أحلامهم تصنع منهم أبطالًا خارقين، فى القبض على تلك الحروف العملاقة، ومنهم من كان يرى أنَّ هناك وحشًا يأكل حروفه كلها، وظنَّ البعض أن أمى كانت تطعمنى فى صغرى، حُطام العيدان الصغيرة، الأغصان المتساقطة اللينة، حتى تَكوَّن فى جوفى الكثير من الأعشاش، ونبتت لحروفى كل هذا الكم من الأجنحة. 
لم يكف الناس عن مد يد العون، فقاموا بالاستعانة بكبار صائدى الطيور، والخبراء المختصين، الذين لم يشهدوا من قبل ظاهرة كتلك، لكنهم كانوا يرونَ أنَّه من الصواب وضع الأشياء فى مكانها الصحيح، لذا فكروا فى صنع بيت كبير على شجرة، وأثناء ذلك أعطانى أحدهم قلمًا وورقة.. عمرى خمسة وعشرون الآن، ومن حينها، وطيورى مقيدة بين السطور، تغرد، ولا تكف عن شَدْو الحكايات.