عزيزة
وأنا فى طريقى مررت بجوار الحوض الكبير، خلع طفل ملابسه وألقى بنفسه فى الماء، جسده النحاسى اختفى برهة ثم شهق وظهر عاريًا، الشمس فى ظهره يزيح الماء من على رأسه يتصاعد الدخان من جسده ورأسه المبلل بالمياه وكأنه إله إغريقى يخرج من وسط الدخان لأتباعه، ثم جلس القرفصاء كما أجلس أمامك يا عزيزة بلا خجل، تتعهد يداك كل جسدى تصبين الماء على رأسى وأنت تغنين.
حين وصلت، نزلت من فوق الحمار أمسك المنشار الذى صنعته أنا وأنت، أتذكرين؟
ذلك المنشار المربع الذى أزلت من عليه الصدأ البارحة، لكنى نسيت أن أشد حبله المصنوع من ليف النخيل.
أذكر يومها يا عزيزة جلست ألصق باطنى قدمى بقدميك نفتل ذلك الحبل الذى لم يرتخ من يومها.
صاح أحدهم: تأخرت يا يونس
قلت: تأخرت!!
عاتبونى على التأخير مثلما كنت تعاتبيننى إن تأخرت حتى لو كنت فى العمل، تخافين علىّ وكأنى طفل صغير.
أنا لم أتأخر عنهم بل هم من تأخروا كثيرًا، سبع سنوات منذ أن بدأت تغور مياه العيون التى كانت تجرى بأمر الله دون جهد، وأنا!! أنا الذى كنت أقسَّم الخير فيهم أوزعه بالعدل حين كانت العيون تجرى، يداى البيضاء تعطى لكل واحد منهم حقه من غير زيادة أو نقصان، أصنع سدًا خشبيًا فى مجرى الماء المتدفق، أزنه حتى لا يميل، أصنع فيه فتحات لكل واحد على حسب حصته من المياه.
يجلسون تحت شجرة السنط العجوز فى جمع كبير يضعون الخشبة أمامهم، رغم أنى أعرف أنها آخر عين جار وأنها ربما تكون آخر مرة، حملت منشارى، أقبلت عليهم فى زهو وتبختر، لكنى لم أكن كذلك يومًا معك يا عزيزة، أصبح طفلًا أمام عينيك، فتبتسمين ابتسامة أعرفها عندما ترين عينىّ ترقص فى محجريهما أتفحصك وأنت تمرين أمامى.
فى الظهيرة جلسنا تحت الشجرة الكبيرة نتناول الغذاء، نظر إلىّ ذلك الرجل الذى دعانى إلى لقائه البارحة نظرة غضب، كان يريد أن يميل منشارى قليلًا لتتسع الفتحة التى تخصه فتزيد حصته من المياه، لو كنت أعرف يا عزيزة، ما قبلت دعوته على العشاء وما تأخرت البارحة وما كنت سبقتنى إلى النوم.
بعد الغداء عدنا إلى العمل، وضعت الخشبة بين أقدامى المفرودة وأقدام الرجل الجالس أمامى يمسك كل واحد فينا طرفًا نتبادل القرب من الخشبة والابتعاد بينما تعمل المنشار فى الخشبة، لأول مرة يرتخى الحبل فتنحشر المنشار، أعدت رباطه وشددته ثم تابعت.
مرت بجوارنا سيدة تمتطى حمارها فى الطريق، انحسر رداؤها عن ساقها فظهر خلخالها، لكم أحب أن أرى ساقيك البضتين والخلخال يخصر كاحلك يا عزيزة، لا أعرف أيهما يزين الآخر!.
عندما قاربت الشمس الغروب كنت قد انتهيت، صنعت الفتحات فى الخشبة لكل واحد منهم على قدر حصته من المياه، وصنع كل واحد منهم قناة صغيرة بالطين تقود الماء بقدر حصته إلى أرضه، وقفت أنظر إلى شمس الأصيل تلون الغيوم بالأحمر قبل أن أسمع همهماتهم تتوقف من خلفى، ثم وقف أمامى أحدهم، ربت على كتفى ووضع النقود فى جيبى فلم أنبس تبسمت فقط.
كان حمارى قد مل الوقوف فاستراح راقدًا تحت ظل السنطة منتظرًا أن أتم عملى، لكزته فوقف، قدته نحو حجر كبير ركبت من فوقه، خبطت جانبيه بكعبى فتحرك، ضربته على مؤخرته أستحثه على الجرى، خفت أن تغرب الشمس وأتأخر، أنا الآن فى طريقى إليك يا عزيزة.