الوادى الجديد.. إبداعات من الواحات
تبدو إقامة مبدع فى محافظة بعيدة أمرًا ليس سهلًا، ومع ذلك تبزغ كل يوم أسماء لمبدعين من أقاليم مصر كُتب لهم الحضور والتواجد دون حاجتهم إلى الإقامة فى القاهرة، وأصبح لمعظمهم مصداقية ومكانًا فى عالم الأدب، رغم أنهم لم يبرحوا البقعة التى عاشوا فيها حياتهم، وما زالوا.
أدباء الواحات يواجهون عائقًا جغرافيًا وعزلة مكانية، يعيشون فى واحات صغيرة متناثرة لا تقع على أية خريطة، لكنها أماكن هادئة ومستقرة، بلا ضغوط نفسية. تقع محافظة الوادى الجديد فى عمق الصحراء الغربية، وهى عبارة عن مجموعة متناثرة من الواحات، كل مكان فيه كتلة سكانية تحيطها مساحة من النخيل ثم مساحة من الكثبان الرملية ثم كتلة سكانية أخرى- وإن كنا مبالغين فى وصف التجمعات السكانية القليلة بالكتل- والآن هناك طرق إسفلتية، كانت ذات يوم مدقات للحمير والدواب ليس أكثر. لكن الأمر تغير كثيرًا فى السنوات الأخيرة. وقد عاصر رواد الحركة الأدبية فى المحافظة هذه الأجواء، حيث عاشت فى كنفها كتاباتهم التى ظلت تمتح من الإنسانية المفرطة لهذه الأماكن النائية، من عبق تاريخها السحيق، وترابط ناسها الطيبين، فأنتجوا إبداعًا فارقًا له طعم ورائحة لا تُعرف إلا فى مثل هذه البقاع.
كان أمر التواصل والاتصال بالعاصمة والأقاليم أمرًا صعبًا، ولم يكن ثمة مفر من ابتكار حل نتغلب به على ذلك، فكنا نجمع مبالغ زهيدة من بعضنا البعض، نحن أدباء الواحات الشباب- فى ذلك الوقت- ونطبع كتابًا لواحد منا كل عام، ومجلة ورقية أيضًا نوزعها بالأيدى على من نتوسم فيهم الميل إلى القراءة.
ظهرت الإرهاصات الأدبية، فى المحافظة، متمثلة فى أدباء كتبوا شعرًا وقصة بالفطرة، فما من رافد يمدهم بالإلهام سوى موهبتهم، والطبيعة التى ظلت تحفزهم وتشعل خيالاتهم. لم يكن هنا مكتبات ولا كتب ولا يحزنون، ناهيك عن تلك المسافات الشاسعة من الصحارى القاحلة التى تحول بينهم وأول معمور قد يصلوا إليه وهو «محافظة أسيوط» التى تقع على بُعد ما يقرب من ٦٠٠ كيلومتر تقطعها الحافلة الوحيدة- فى ذلك الوقت- التابعة لشركة الوجه القبلى للنقل «أولاد دُنقُل سابقًا»، فى ست ساعات أو يزيد. لكنهم استطاعوا أن يصمدوا. لقد كان «بدر سفينة» و«عبدالوهاب السيد» و«أنور محمود منصور» وأمين أبوبكر ومن جايلوهم أبطالًا خارقين؛ إذ كتبوا واستمروا زمنًا طويلًا دون أمل فى أن يقرأ أعمالهم إنس ولا جان. كانت الأمور قد تغيرت نوعًا ما، عندما بدأنا نشق طريقنا الصعب. ورأيناهم هناك فى اجتماعاتهم الهادئة وقد أنهكتهم السنوات، فوهنت عظامهم وابيضت رءوسهم، لكنهم استقبلونا كما يُستقبل فاتح عظيم.
يمكن القول إن الحركة الأدبية فى الوادى الجديد بدأت تؤتى ثمارها منذ مطلع التسعينيات، مع الجيل المؤسس، ثم تطورت مع تقدم السنوات من خلال الأجيال الجديدة، ليكتمل المشهد على ما نراه الآن حيث أسهمت قلة من المبدعين والمثقفين فى دعم تلك البنية، والتدشين لحركة أدبية صحيحة، وكان على رأسهم الشاعر بدر سفينة- وهو من الرعيل الأول لكنه استمر فى عطائه لفترة ليست بالقليلة- وأحمد دياب، ناصر محسب، قدرى عبدالعزيز، عبير فوزى، حسام المقدم، ماهر حسين. لحق بهم بعد فترة وجيزة: مصطفى معاذ، طارق فراج، عماد القضاوى، أحمد المقدم، طه على محمود، أحمد البدرى، عبدالعزيز وافى، محمد الصياد، كمال كوكب، سمير موسى.
بدأ أحمد دياب وفريقه يكتبون ويرسلون أعمالهم بالبريد للجرائد والدوريات الأدبية وينشرون فى المطبوعات المختلفة، ونحن دخلنا عليهم فوجدنا الأيادى ممدودة، وعناوين الجرائد موجودة، ففعلنا مثلما فعلوا والتحمنا فريقًا واحدًا، تحملُنا الأحلام والطموحات وتجوب بنا الآفاق. هؤلاء هم الذين حملوا على عاتقهم عناء البدايات، وأسهموا بشكل كبير فى إثراء الحركة الأدبية.
جاء فى أثرهم جيل جديد بزغ منهم: انتصار أحمد حسن، إسلام سلامة، محمد فتحى زاكى، أسماء عبدالله متولى، سيد عبدالشافى، أحمد عميرة إبراهيم، أيمن أنور، عاطف حسن، مصطفى ضبع، عمرو بحر وغيرهم. وجاء فى أثر هؤلاء جيل من الشباب استطاعوا الاستفادة من الثورة المعلوماتية الكبيرة وثورة الاتصالات التى كبروا بين ثناياها وما احتاجوا- مثلنا- إلى وقت ليكتسبوا مهارة استخدامها والتعامل من خلالها؛ ومن هؤلاء: محمد كمال الشريف، مؤمن الرفاعي، أحمد حسن جمعة، نادية عبدالمحسن، أمل البنا، محمد حسن الشافعى، هدى علام، ندى البكرى، حسين بشندى، إسلام عاشور، أحمد عيسوى، فريال فاروق ومازالت الحركة الأدبية هنا تزداد توهجا يومًا بعد يوم.