الحمقى يؤلفون.. ستيفن كينج يعترف بأنه مجرد «مؤلف للحكايات» ويكتب: الكذابون يزدهرون
فى المقدمة الثالثة لكتابه «عن الكتابة»، والذى صدرت ترجمته إلى العربية قبل خمس سنوات بعنوان «مسيرتى فى التأليف.. مذكرات هذه الصنعة»، يقول الكاتب الأمريكى الشهير ستيفن كينج: «التأليف مسألة بشرية، والتحرير مسألة إبداعية»، مضيفًا: «تشاك فيريل حرر هذا الكتاب، مثلما حرر العديد من رواياتى، وكالعادة، يا تشاك، كنت مبدعًا».. وفى المقدمة الثانية لنفس الكتاب الذى وصفته إحدى الصحف الأمريكية بأنه «أفضل كتاب عن التأليف فى التاريخ كله»، يقول: «معظم الكتب التى تتكلم عن التأليف مليئة بكلام فارغ. فكُتاب روايات الخيال، وحضرتى من بينهم، لا يفهمون كثيرًا ما الذى يفعلون»، ويقول فى المقدمة الأولى: «العديد منا نحن معشر الكادحين نهتم بشأن اللغة أيضًا، بطريقتنا المتواضعة، ونهتم بشأن فن وحرفة تدوين القصص على ورق. ما يلى محاولة لأروى لكم، بإيجاز وبساطة، كيف وصلت إلى هذه الحرفة، وما أعرف عنها الآن».. أما فى تصديره لنفس الكتاب فينقل عن مصدرٍ يقول إنه مجهول مقولة نصها: «الكذابون يزدهرون».
لا صوت يعلو فوق صوت «الزبون»
أغلب ظنى أنها هى المرة الأولى التى يتكلم فيها كاتب أمريكى بمثل هذه الجرأة والوضوح، كاشفًا عن أمر أظنه فى غاية الأهمية فيما يتعلق بالثقافة والإبداع الأمريكيين، حيث لا صوت يعلو فوق صوت «الأرباح»، والمكسب المالى الواضح والمباشر والصريح.. وهو مايفسر تلك العبارة التى تصدرت غلاف الترجمة العربية لكتاب كينج «بيع من مؤلفاته أكثر من ٣٥٠ مليون نسخة»، وما يفسر انتشار قوائم «الأكثر مبيعًا» فى الصحف والمجلات الثقافية الأمريكية المتخصصة، وغير المتخصصة.
ربما لم يكن كينج يدرى ما خلف كلماته حين كتبها، أو لم يقصدها بالمعنى الذى ذهبتُ إليه من قراءتى لها، وهو الأمر الذى أستبعده تمامًا، فهو ليس ممن يكتبون «أى كلام»، وإن كان نص عبارته يضعه بين من «لا يفهمون كثيرًا ما الذى يفعلون»، وأغلب الظن أنه يعلم تمامًا ما خطت يداه، وما يحمله من رسائل، أو معاني، ولنجرب معًا تفكيك عبارات كينج لنرى ما يمكن أن تدل عليه، أو تقودنا إلى فهمه.
حسب قراءتى للمكتوب، فهذه العبارات فى مجملها، تشير إلى فارق جوهرى أشبه بحائط صلد يفصل ما بين «التأليف» وبين «الإبداع»، فالتأليف، بنص كلامه، مسألة بشرية، والتحرير مسألة إبداعية.. وهو ما إذا مددناه إلى مقاصده، لا ينتهى بنا إلا إلى تفريق واضح ما بين الحكاية أو القصة، أو «الحدوتة»، وبين «الرواية» باعتبارها فنًا، أو عملًا إبداعيًا وإنسانيًا، شهد تطورات وتيارات واتجاهات عديدة على طول التاريخ، ومر بمراحل اتفاق واختلاف وجدال لا حد لها ولا نهاية، وصولًا إلى شكلها الحالى غير المحدد، والمختلَف عليه وحوله، أو غير القائم على «وصفة» أو طريقة، أو تيار.. فمنذ خلق الله الإنسان والحكاية موجودة ومتناقلة ومتوارثة، متخيلة وحقيقية ورمزية، تفنن الإنسان فى تأليف الحكايات، وراح معها إلى كل الاتجاهات.. ألف حكايات عن مجتمع الآلهة، وعن خلق العالم، عن آدم وحواء، وعن نسلهما، عما وراء الطبيعة، وما وراء الحياة نفسها، ما قبلها، وما بعدها.. أنطق الطير والحيوان والجماد، فأنتج قصصًا لتقديم العبر والمواعظ، وأنتج قصصًا لتزجية الوقت، وقصصًا لإثارة المشاعر، واستفزاز الأعصاب، حتى الأفلام الجنسية جعل لها قصصًا، وألف لها الحبكات الدرامية.. ليبقى فن الرواية موضوعًا آخر غير تلك «الحبكة» التى تقوم عليها قصص الجدات، وحكايات ما قبل النوم، فنًا لا يقوم على «تأليف» المواقف أو المشاهد، وترتيبها، والتنقل بينها.
ما كتبه كينج، فى تصورى، هو أصدق تعبير عما حدث، ويحدث فى الأدب والثقافة الأمريكية منذ سنوات طويلة، وانتقل بفعل ماكينات الدعاية الجبارة إلى غالبية بقاع الأرض، فتحولت الكتابة إلى «حرفة»، أو «صنعة»، وبعبارة أخرى، تحولت إلى «طبخة» يحتاج طباخها إلى الطعام، وإلى النقود، ولن يتمكن من الحصول على هذه النقود إن لم يتمكن من بيع «طبيخه»، أو إذا لم يعجب هذا «الطبيخ» الزبون، أو لم يوافق هواه.. فالقارئ هنا، فى الثقافة الأمريكية، مجرد عميل، أو مستهلك، زبون، تتم كتابة الروايات والأعمال الأدبية وفق ما يحب وما يريد، حتى ولو كان جمهورًا من الحمقى، أو المغفلين.. فلا مانع من إنتاج ما يريده ويقبل عليه، فهو الذى يدفع، وهو الذى يضع كتبهم على أرفف وصفحات «الأكثر مبيعًا».. ولأن المكتبات لم تعد غير متاجر للكتب، والقراء مجرد زبائن، أو مستهلكين مستهدفين، فماذا يمنع من أن نجعلهم هم من يكتبون حكاياتهم، هم من يؤلفون الكتب، ولو كانوا مجرد مجموعة من الحمقى والمغفلين؟!
مبنى على أحداث حقيقية
صدق أو لا تصدق.. فهذا هو ما حدث بالفعل، فمنذ بداية القرن الحادى والعشرين، قبلها أو بعدها بقليل، ركبت سوق الكتب والإنتاج الفنى فى الولايات المتحدة موجة «مبنى على أحداث حقيقية»، أفلام ومسلسلات وقصص وروايات يكتبها «محرر أدبى» تستأجره دار النشر، أو يستأجره بطل القصة وراويها.. وهى الموجة التى لاقت صدى واسعًا لدى جمهور القراء، أو «الزبائن» الذين يغلبهم الفضول، فيتناقلون قصص وحكايات جيرانهم، وأصدقائهم، وجيران جيرانهم، ما ساهم فى صعود هذه الكتب، واحتلالها لأرفف وأعمدة «الأكثر مبيعًا»، وهو ما أدى بدوره إلى تراكم الأرباح لمؤلفى هذه الحكايات، وناشريها، ومتاجر الكتب التى تعرضها، لكى تظهر موجة كبيرة من القصص الشخصية التى يرويها أشخاص عاديون، أو مستهلكون سابقون، سواء هؤلاء العائدين من الحروب، أو من مطاحن الأمراض النفسية والعقلية، والجسمانية، والمتحولين جنسيًا، وبعض الحمقى.. هؤلاء ليس عليهم سوى أن يحكوا ما حدث معهم من قصص وحكايات ومواقف، ليقوم من يسمونه «المحرر الأدبى»، بطبخ تلك المؤلفات فيما يشبه الروايات أو الأعمال الأدبية، لتتلقفها شركات الإنتاج الفنى، وتبدأ فى تحويلها إلى أفلام ومسلسلات مشفوعة بتلك العبارة السحرية «مبنى على أحداث حقيقية» التى تشبع فضول ربات البيوت، والمقدمين على تجارب مماثلة، أو من يمرون بظروف مشابهة..
هكذا.. صار من الوارد أن تقرأ رواية، أو تشاهد مسلسلًا تليفزيونيًا منقولًا عنها، تحكى عن قصة مدرسة أغوت تلميذًا لديها فى المدرسة الثانوية «مراهق يعنى»، ودخلت معه فى علاقة جنسية، مع مجموعة من المشاهد، والتفاصيل التى يطبخها أديب غير متحقق، أو متقاعد، ولكنه يتكسب من «ترويق» حماقات الآخرين، وقصصهم، وتزيينها، ومدها بما يلزم من أسرار «الصنعة».. ولأن القصة بعد تحويلها إلى مسلسل، «شاهدت بعض حلقاته بالمناسبة»، تتضمن الكثير من المشاهد، أو المناظر، فإنها تحظى بمشاهدات كبيرة، وتتم ترجمتها بالطبع إلى نقود وأرباح، تجتذب منتجيها نحو الرغبة فى المزيد من القصص المشابهة، ومن ثمة تنتقل تلك الموجة إلى باقى دول العالم، إلى أوروبا وآسيا، ومصر.. ولا عزاء للأدب، ولا الفن، فهؤلاء لن تجدهم فى «متاجر الكتب»، ولا على أرفف «الأكثر مبيعًا»، ولن يشترى طبيخهم أى زبون.
اعتبارات أخرى لـ نوبل
هنا، فى الولايات المتحدة الأمريكية، الوضع مختلف تمام الاختلاف عن القارة المجاورة، حيث الإنتاج الثقافى والمعرفى الكبير، وحيث الملامح المهيمنة لآداب أمريكا اللاتينية وفنونها، وموقع كتابها وأدبائها ومفكريها الكبير فى سلم الإبداع العالمى، شعرًا، ونثرًا، وموسيقى، حتى فى الفنون البصرية كالسينما والمسرح والفوتوغرافيا، هناك بصمة شديدة الوضوح للإنتاج الأمريكى اللاتينيى، تقابلة بصمة أخرى، شديدة الوضوح أيضًا، فى الإنتاج الهوليوودى الأمريكى الأكثر ارتباطًا بالأرباح، وبالتجارة، وبماكينات عد النقود.. لا مانع من بعض الفن أحيانًا، وبعض التجريب أحيانًا، وبعض القيم الجمالية والإنسانية والفكرية أحيانًا، على أن هذه «الأحيان النادرة» غالبًا تأتى منقولة من باقى قارات العالم، ودول العالم القديم، من فرنسا وإيطاليا واليونان، من مصر وروسيا والصين.. ورغم الارتباط الزمنى بين القارتين الأمريكيتين، باعتبار تزامن اكتشافهما تاريخيًا، لكن ما حدث فى الجنوب لا يمكن أن تجده فى الشمال إلا نادرًا، ونادر جدًا أيضًا.
ورغم احتلال الولايات المتحدة لمركز متقدم فى قائمة الحاصلين على جائزة «نوبل للآداب»، بأحد عشر فائز وفائزة، لكن هذه حسبة أخرى، تتداخل فيها كثير من الاعتبارات، منها ما يخص ما تحدثنا عنه فى مقال سابق حول لا معايير الجائزة الأشهر عالميًا، والأكبر من حيث القيمة المالية. فبنظرة سريعة على أسماء الفائزين بالجائزة من الأمريكيين، تجد أنه بعيدًا عن أسماء مثل أوجين أونيل، ووليم فوكنر، وجون شتاينبيك، الذين فازوا بالجائزة فى السنوات ١٩٣٦، و١٩٤٩، و١٩٦٢، هناك اعتبارات أخرى لعبت دورًا حاسمًا فى ذلك الفوز، مثلًا إرنست هيمنجواى الذى فاز بها فى عام ١٩٥٤، لن نتوقف كثيرًا للحديث عما تداولته الصحف وبعض الوثائق بشأن ارتباطه بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، لكن لننظر إلى بقية القائمة، لدينا مثلًا سنكلير لويس، الذى فاز بها عام ١٩٣٠، وقالت لجنة الجائزة أنه حصل عليها «لقدرته على خلق التخيلات، والفكاهة، وتقديم أنواع جديدة من الشخصيات»!!، ولدينا أيضًا بيرل باك التى فازت بالجائزة عام ١٩٣٨، وجاء فى حيثيات منحها: «لتوصيفها الملحمى الغنى والعميق لحياة الفلاحين فى الصين»!!، والمغنى بوب ديلان الذى فاز بها عام ٢٠١٦، ولويز جيلوك التى فازت بها فى ٢٠٢٠، وتحدثت لجنة نوبل عن «صوتها الشعرى الذى لا لبس فيه»، وغيرها من أسماء لا أظن أنها تحظى بموقع على خريطة الأدب الحقيقى، غير أننى أظن أننا بحاجة إلى العودة للوراء قليلًا، لكى نرى الصورة بشكل أوضح.
يقول بول جونسون فى كتابه «المثقفون»، بترجمة الراحل الكبير طلعت الشايب: «رغم أن الولايات المتحدة قد نمت عددًا وعدَّة خلال القرن التاسع عشر؛ لتصبح أكبر وأعظم قوة صناعية فى العالم مع نهاية القرن، إلا أن وقتًا طويلًا قد مر قبل أن يبدأ مجتمعها فى إنتاج مثقفين من النوع الذى تناولناه»، والكتاب لمن لا يعرف يتحدث عن كبار المثقفين والكتاب فى العصر الحديث، من تولستوى إلى إبسن وبرخت وكارل ماركس.. وحتى إرنست هيمنجواى، الكاتب الأمريكى الأشهر، والذى جاءت الفقرة السابقة من مدخل الفصل الذى يتحدث فيه عنه، حيث يفسر جونسون غياب ذلك النوع من المثقفين عن الولايات المتحدة بقوله: «أمريكا المستقلة لم يكن لها أبدًا ما يمكن أن يُسمَّى بالنظام القديم»، و«كان معظم الناس مشغولين بالحصول على الأموال وإنفاقها، بالاستثمار والاندماج، مشغولين عن التفكير فى الهموم الأساسية للمجتمع»، وهو ما يفسر المكانة التى حصل عليها رالف والدو إيمرسون «١٨٠٣–١٨٨٢» واعتباره ممثلًا للمثقف الأمريكى النموذجى للقرن التاسع عشر، وأول ممثل لهذه الروح، وهو الذى كانت الشركات تغلق أبوابها مبكرًا، حتى يتسنى لصغار الموظفين الذهاب إلى محاضراته العامة للاستماع إليه، أملًا فى أن تؤدى إلى دعم النزعة التجارية لديهم، إذ كانت فلسفة إيمرسون تميل إلى تقديم الدليل على أن المعرفة إلى جانب الشخصية الأخلاقية يمكن أن تؤدى إلى نجاح العمل التجارى، ويخلص جونسون إلى أنه «فى نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، كان إيمرسون معلمًا وبطلًا قوميًّا، مثلما كان هوجو بالنسبة لفرنسا، وتولستوى بالنسبة ﻟروسيا.. كان قد وضع نموذجًا أمريكيًّا».