تلويحة الوداع
البنايةُ كانت قصرًا أثريًا، عاد لأحفاد ورثته بحكمٍ قضائى، الجدران مرتفعةُ، الأبوابُ والنوافذ هائلةُ الأحجام، لكل حجرة حمامٌ مُلْحَقٌ بها، يعَالِجٌ السقفَ جَصٌّ ناصعُ البياض، يتشَكَّلُ على هيئة ورودٍ وطيور، تتخلَّلُها شِباكٌ عنكبوتيةٌ قديمة، فراغاتُ البنايةِ هائلةٌ، البردُ مُشَاعٌ، يتَسَلَّمُ العظامَ قبلَ الجلود.
بدا سريرُها ضئيلًا، كَنَورَسٍ يحومُ حائرًا، قُرْبَ سطح البحر الممدودِ بلا نهاية، ملامحُها مُستكينةٌ مستسلمة، عيناها واسعتان كحيلتان، خطفتا نظرى خَطْفًا، صدرُها الناهدُ أقرب، إلى صدور البنات البِكْر، ساقاها مكشوفتان، مذمومتان على عورتها، كأنهما تستدعيان الحياء.
أيُعْقَلُ أن تُتْرك مثل هذه؟ - هكذا بدأ الوسواسُ لعبته معى –
هل يتَوجَّبُ علىَّ خوضَ التجربةَ أولًا، قبل إصدار أية أحكام؟
من فوق سريره المقابل، أرسلتْ عينا رفيقها الرضيع، نظراتهما نحوى، حاولتُ جَلْبَ تفسيرٍ لها فلم أستطع...
قالت: هيا يا أستاذ. دورك.
احتلنى الشرود، لمحتُ صرصورين قادمين من ناحية الحمام، وهما يتطاردان، لم أندهش لوجودهما بهذا المبنى العتيق، رغم مظاهر الفخامة، خَمَّنْتُ أنهما ذكر وأنثى، وربما كانا زوجين.
تراجعتُ قليلًا، لأحتل حافةَ سرير الصغير، احتويتُ رأسى بين كَفَّىّ، متجنبًا النَّظَرَ فى عينيه.
همسَتْ بدلال مصطنَع: هيا يا أستاذ. الله يسترك. دورك.
الله يسترك! ما هذه الدعوة.. وهل هذا وقتها المناسب؟
سؤالان يُعَدان امتدادًا لأسئلة سبقَتْ دخولى إلى الحجرة.
إنها تجربتى الأولى، التى أعتبرُها إجبارية؛ فوجودى بالقاهرة جاء عارضًا، وتواجدى بسكن طالِبَىَّ الجامعة بلدياتى، لم يكن سوى للمبيت، كى أتمكن باكرًا، من الحصول على تأشيرة السفر، إلى إحدى البلاد العربية.
تمكنَتْ منهما الحيرةُ لمجرد رؤيتى، نظر أولُهما نحو غرفتها المواربة، وتردد فى شرح الأمر، بسمل ثانيهما ثم بدأ الشرح بكل صراحة.
هممت بالانصراف قائلًا: لا عليكم، دعونى فقط أجوب الشوارع ساعة ثم أعود.
واجهانى بكل حسم، مُقْسِمَين ألا أتحرك، قبل مشاركتهما الوليمة. مُفيضَينِ فى وصف مفاتن صيدهما هذه المرة، فمشاركتى لهما تضن، عدم إفشاء سرهما بقريتنا النائية.
قفزَ برأسى على الفور، الحَدُّ الفاصل بين قناعاتى السابقة، وبين ما سأكون عليه بعد المشاركة؛ التى سأدخل بعدها بالتأكيد، فى مجال المساومات والمبررات الواهية، لقبولى هذا الفعل؟
انتهى رفيقاى من مهمتيهما كما اتُّفِق، خرج كل منهما عارقًا لاهثًا، راسمًا ابتسامة غامضة على شفتيه.
هيا يا بطل لم يبق سواك، لم يعد أمامك سوى دقائق معدودة، تشهق فيها عدة شهقات عميقة، حالَما تنتهى السيدة، من إعادة ترتيب أمرها. هيا هيا، لا مجال للتردد أو التقاعس، ما عليك إلا دفع الباب العتيق بهدوء، لتَعْبُرَ نهر التجارب الجديدة، من شاطئ معلوم تظنه آمنًا، إلى شاطئ مجهول غامض، ترتاده لأول وآخر مرة - هكذا هتف هاتف بداخلى - وربما تدمن ارتياده، وتصبح مرغمًا على البحث والاستقصاء لتكراره، لتنضم إلى صعاليك البلدة، المعروفين فى هذا المجال، الذى ليس منهم شريكا ليلتك هذه – هكذا يرد هاتف آخر.
ظلتْ عينا صغيرها تتابعانى، وأنا أرتكز على حافة سريره المواجه لسريرها، تُرى هل كانتا تتابعان شريكىّ السابقين؟ وهل تنبَّه أىٌّ منهما لذلك؟
احتلنى شعورٌ مريرٌ، بأنه ناقم علىَّ تحديدًا، راغبًا فى سؤالى: ألم تجد سوى أمى، لتجرب معها فِعلتك الأولى؟ وانشغلت للحظات، فى افتراض حوار جدلى مع الصغير، لأفاجأ بعودتها من الحمام، دون أن أتنبه متى ذهبت، ينساب شعرها الفاحم المبلول على كتفيها، تابعتْ عيناى آليًا تقاسيمها الآسرة، دهِشًا لكونها فى هذا الوضع المريب، اعتلتْ سريرها بهدوء، هامسة: ليتك تسحب الغطاء على ساقَىّ.
انتقلت كالمُغَيَّب، من سرير الطفل إلى سريرها، بدتْ وكأن أنينًا مكتومًا يربضُ داخلها، وأن كلامًا ماسورًا لديها، يريد أن يتحرر، تعلقتْ يدها بيدى لتعتدل، ركَنَتْ ظهرها على شباك السرير، بعثتْ يدها إلى يدنى بشىء من السخونَةٍ، فى ما كانت أصابعُها ترتجف بوَهَنٍ. ارتجلَ لسانها همسًا كالخَرَفِ فى بوادره، عن زوجها الذى فَرَّتْ وراءه إلى القاهرة، وتَرْكِه لها نَهْبًا لكلاب الطريق، مُدَّعيًا شكَّه فى أبوة هذا الطفل، و...
شد تصاعد حرارة يدها تركيزى، وانتقالها آليا إلى يدى، وسرعان ما احتلنا معًا ارتجاف غريب، انتقل بدوره إلى سريرها.
وقع بصرى ثانية على الصرصورين الزوجين – على تخمينى - بعد انتهاء مطاردتهما، وبدا غريبًا أن يتوجها إلى الحمام، من طريقين مختلفين.
سحبتها نحوى ببطء، ارتكز رأسها المبلول على كتفى، لففتُ يمناى حول كتفيها مطبطبًا. كانت قدما الطفل تُبدِّلان فى الهواء، كأنه يركب دراجة متناهية الصغر...
لحظات واحتال ارتجافها، إلى مجرد هزهزات خفيفة، سرعان ما تلاشت، لفحتْ أنفاسُها الساخنة جانب عُنُقى، بعد أن عاد لها الانتظام – أو هكذا ظننت - استعدتُ يمناى المطوقة لكتفيها، وأنا أرجعهما إلى الخلف، استكان رأسها فوق الوسادة المنتفخة، دسستُ شيئًا من العُملة تحت إبطها، سحبتُ الغطاء الخفيف، على صدرها الناهد المرمرى، ثم استدرتُ مغادرًا، وأنا أُلَوِّحُ لطفلها الباسم تلويحةَ الوداع.