أحمد الخميسي يكتب: الجد الأكبر
منذ قرون طويلة حدث أن عصفورًا صغيرًا كان فى صباح يوم مشمس يتواثب داخل قلعة ضخمة بين أقدام جنود ونساء وسقائين، ويضرب بمنقاره ليفسح لنفسه مجالًا ما بينهم. لم يعر أحد انتباهًا للعصفور ما عدا صبى كان يمشى متشبثًا بكف أمه فى السوق، فهز أمه من ثوبها يصيح بها: «عصفور على الأرض»! شدته أمه ليواصل السير إلى الأمام، فطاوعها لكنه ظل يتلفت خلفه ناحية العصفور. بعد قليل توقفت المرأة عند خان صغير تبادل قمحها بأمتار من القماش، وتساوم التاجر على السعر، وفى تلك الأثناء بلغ العصفور الخان، ولبث أمام مدخله ينقر الأرض، فسارع الصبى إلى العصفور وانحنى عليه وقرب فمه من رأس العصفور يسأله: «هل أنت جريح؟ لِمَ تمشى على الأرض ولا تحلق عاليًا؟». أشاح العصفور بمنقاره فى ناحية وارتعش ريش جناحه وهو يقول للصبى: «كنت أود أن أطير لكن لم تعد ثمّة سماء». رفع العصفور رأسه عاليًا كأنما لينهى الحديث، وانصرف عن الصبى، ومضى يشق طريقه بين الأقدام بوثبات قصيرة سريعة، أما الصبى فقد تطلع إلى أعلى، ليفهم كيف أنه لم تعد ثمة سماء، فلم ير سوى فراغ غائم ممتد.
من ذلك الحين جرى نهر الزمن إلى الأبدية، بينما يتعاقب على سطحه ملوك وأمراء، وتغرقه فيضانات، وتشتعل على سطحه حروب، وتتفشى أوبئة، على حين توهجت واحترقت برقة مليارات المشاعر. وخلال تلك الرحلة الطويلة اعتاد أحفاد ذلك العصفور، جيلًا بعد جيل، أن تكون سماؤهم برك المياه فى الشوارع، والوحل، حتى ألفوا السير بين أقدام البشر بحثًا عن فتات الطعام، وبناء الأعشاش فوق حواف البيوت. وزمنًا بعد زمن تحولت الأجنحة إلى أذرع، والسيقان إلى أرجل، وكبرت الصدور التى كانت تزقزق وأمست رئات تنفخ الضجر، ولم يعد بوسع كائن أن يميز العصافير القديمة من البشر، حين تمشى العصافير فى المدن والقرى بالفساتين والبنطلونات.
اليوم قبيل الغروب بقليل وقف عصفور بقميص نصف كم وسروال أزرق أمام محل يسأل صاحبه عملًا. أجابه الرجل دون أن ينظر ناحيته: «لا توجد لدينا وظائف». أحبط الرد الرجل العصفور فمكث مكانه مهمومًا، ثم استدار، وتابع سيره ببطء على الرصيف يغمغم بشىء ما. وبعد قليل رأى الرجل العصفور محلًا آخر بابه مفتوح، فتوقف أمامه. سأل عملًا، أى عمل. ولم يعتن أحد بالرد عليه. تلفت حوله بألم، وسرت على سطح جلده ارتجافة الجناح القديم يحن للتحليق، اندفع إلى الأمام، بخطوات نزقة متلاحقة أقرب إلى وثبات جده العصفور الأكبر، وفى تلك الأثناء تصلب أنفه كالمنقار تخايله حبة قمح وقطرة ماء. وارتجت فيه فطرته العريقة إلى السماء، فتوقف، وجال ببصره فيما حوله، ثم شب على أصابع قدميه وضرب بذراعيه محلقًا إلى أعلى، وكان ثمة صبى صغير يراقبه بدهشة، فهز أمه من كفها يصيح بها: «إنسان يحلق»!