فـراس السواح.. ذلك المعلوم المجهول
أعلن السواح ذات يوم عن أنه يرفض قبول صداقة امرأة محجبة وهو ما جُوبه بنيران من الجدال
يبقى فراس السواح بدراساته فى الميثولوجيا واحدًا من هؤلاء المفكرين الذين حثوا على تحريك المياه الراكدة
جُل الجدال الذى يثار بين الحين والآخر تحت مسمى «الترند» لا يعدو كونه ضجيجًا فارغًا، يُحدث جلبة مؤقتة وسرعان ما يخمد دون أثر يُحمد، لكن بعضًا آخر منه يمكن أن يترك آثارًا محمودة، هكذا فى عصر «السوشيال ميديا»، بات بعض المفكرين والمعنيين بالشأن العام يدركون جيدًا قواعد اللعبة، فيجيدون استعمالها فى تسليط الأضواء عليهم أو على أفكارهم أحيانًا، ولو مؤقتًا. من هذا المنظور، يمكن النظر بإيجابية لـ«الترند»، الذى أطلقه الباحث والروائى يوسف زيدان، عن عمد على الأرجح، مثيرًا الكثير من الجلبة، التى يمكن ألا تصير فارغة تمامًا.
من الجوانب الإيجابية للجلبة المذكورة يمكن الحديث عن إعادة التذكير بالجهد الفكرى لعميد الأدب العربى طه حسين ودوره المحورى فى الفكر العربى الذى رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاته لا يزال يحظى بوفاء أحفاده وإيمانهم بجهده المكرس للنهضة العربية، وعن الأسئلة الفكرية التى أثيرت على هامش الجدال، وكذلك، وهذا ما يهمنا الآن، إعادة النظر فى الجهود الفكرية التى قدمها واحد من القطبين المثيرين للنزاع؛ وهو فراس السواح.
فبينما لم يعد الحديث عن أزمة القراءة وعزلة المثقف سوى حديث يتكرر بكل مناسبة، يمكننا القول إن كلًا من قطبى النزاع؛ زيدان والسواح، لا تنطبق عليهما القاعدة المذكورة، فبينما يحتفظ زيدان باتصال نوعى مع جمهوره، سواء من خلال الندوات واللقاءات أو حتى التواصل عبر منصة التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، فإن فراس السواح اسم متداول بين مختلف الفئات العمرية، ويدلل ناشرو أعماله على شعبيتها بالحديث عن النفاد السريع لها. وعلى الأرجح لن يختلف اثنان فى ترشيح أعمال السواح لأى باحث فى «الميثولوجيا» وتاريخ الأديان.
مغامرة العقل الأولى
ولد المفكر السورى فراس السواح فى حمص بسوريا عام ١٩٤١ لعائلة أزهرية، وعلى الرغم من أن مجال دراسته الجامعية كان الاقتصاد، فقد جذبته الميثولوجيا وتاريخ الأديان مبكرًا ليصدر كتابه الأول «١٩٧٦»، الذى حقق نجاحًا واسعًا لا يزال قائمًا حتى اليوم وهو «مغامرة العقل الأولى»، والذى لا يزال من المراجع الرئيسية فى ميثولوجيا المشرق القديم. هذا الانتقال المفاجئ والسريع إلى مجال مستجد بالنسبة لشاب فى مقتبل العمر لطالما كان سؤالًا محيرًا لمن أراد معرفة من هو فراس السواح، وهو ما دفعه لتفصيل الإجابة عنه فى كتابه «الله والكون والإنسان»، فقال: أعتقد بأن البداية انطلقت عندى من التساؤل؛ فالإنسان يُولد ومعه دافع طبيعى إلى التساؤل، وما إن يتفتَّح وعى الطفل حتى يأخذ بطرح الأسئلة حول أصل العالم، ووجود الله، والروح والحياة الثانية، والغاية من الوجود وحياة الإنسان، وما إلى ذلك. وفى الواقع فإن أسئلة الطفولة على بساطة طرحها، هى التى شغلت البشرية عَبْر تاريخها، وتصدَّت للإجابة عنها كلُّ أشكال الحكمة والفلسفة والدين، وكذلك العلم فى العصر الحديث. ولكن الدافع إلى التساؤل يخفتُ تدريجيًّا لدى معظم الأفراد، وذلك بمرور الوقت وضغط الشروط المادية للحياة اليومية، فيلجأون عندها إلى دين آبائهم ليجدوا فيه عقيدةً ناجزة وأجوبةً جاهزة، تُعفيهم من حَيرة السؤال وتضعهم فى طمأنينة الأيديولوجيا، ولكن هناك قلَّة من الناس تبقى أمينةً للسؤال ولأرَق الحَيرة الذى يهبُنا الإحساس بالحرية وبحرارة الحياة، ويبدو أننى كنتُ من هذه القلة التى لم تقنع بالجاهز والموروث، وأعطت لنفسها حرية البحث والتفكير.
كانت الطفولة القلقة ثم المراهقة المحملة بالأسئلة إذن هى البذور الأولى التى قادت السواح إلى طريقه البحثى فى الأديان انطلاقًا من المنهج الظاهراتى، الذى استكمله لاحقًا بكتابه الثانى «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة» «١٩٨٥»، وهو الكتاب الذى خاض فيه فى جذور الأساطير القديمة ليكشف عن الطبيعة الجندرية للإله التى تنقلت من الذكورة إلى الأنوثة وفقًا للأطر الاجتماعية الموجودة، وتأثير تلك الطبيعة الجندرية الإلهية وأصول الآلهة القديمة على الأفكار الجنسانية السائدة به.
بعد نشر كتابه الثانى بثلاثة أعوام، تفرّغ السواح لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان، وأصدر الكثير من الكتب المهمة ومنها: «كنوز الأعماق: قراءة فى مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية».
وقبل أن نتطرق إلى التصريحات والأحاديث المثيرة للجدل، سواء عبر حسابه على «فيسبوك» أو فى أحاديثه التليفزيونية، والتى اعتاد السواح على إطلاقها واعتاد متابعوه وقراؤه على استقبالها، من الأجدى أن نتطرق إلى أبرز المحاور التى تضمنتها أعمال السواح التى تظل، اتفقنا أو اختلفنا على مضمونها، جهدًا بحثيًا وفكريًا جديرًا بالاطلاع والاهتمام.
رؤى إشكالية فى مسائل دينية
أتاحت دراسة السواح الظاهراتية لمختلف الأديان على مر العصور إلى التوصل لمفهوم خاص حول ما يعنيه مصطلح «الأديان التوحيدية»، التى يرى أنها لا تقتصر على اليهودية والمسيحية والإسلام، وإنما تضم الزرادشتية والمانوية، ومن بقايا ديانات الشرق القديم: المندائية والإيزيدية.
يوضح السواح ذلك فى كتاب «الله والكون والإنسان» بقوله: لقد خضعَت الأديان التوحيدية للتطوُّر والتبدُّل مثل غيرها من الأديان، على الرغم من تثبيت عقائدها فى كتبٍ مقدَّسةٍ حُفظَت نصوصها من التغيير والتبديل؛ فمسيحية الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد لا تُشبه مسيحية بولس الرسول الذى يحمل لقب مؤسِّس المسيحية، ومسيحية بولس لا تشبه كثيرًا مسيحية قانون الإيمان الذى صاغه مجمع نيقية الذى انعقد فى العام ٣٢٥م، وبعد مجمع نيقية تابعَت المسيحية تطوُّرها، وترسَّخ مفهوم الثالوث الذى لم يقُل به أصحاب الأناجيل ولا بولس الرسول ولا حتى مجمع نيقية، كما ترسَّخَت عبادة السيدة مريم. وفى الإسلام حصل التطوُّر على ثلاثة محاور وهى: الحديث؛ أى ما وصل المسلمين من أقوال الرسول أو أفعاله. علم التفسير؛ أى تفسير ألفاظ ومعانى القرآن الكريم. علم الكلام، وهو علم العقائد الإسلامية الذى يُقابِل اللاهوت فى الديانة المسيحية. ومن خلال هذه العلوم أحدَث العقل الإسلامى ما يشاء على الإسلام من تطوير وتغيير، وتعدَّدَت الطوائف الإسلامية، وكل طائفةٍ تدّعى أنها الصيغة الحقيقية للإسلام فى مقابل بقية الطوائف، وكلها تدّعى أيضًا بأنها تستند إلى القرآن وإلى الحديث الشريف.
من هذا المنطلق، يذهب السواح إلى أن سلطة النص الدينى المقدس خرافة، لا سيما وأن النص المقدس إشكالى يستدعى تدخل المفسرين للبحث عن معانيه، ومن ثم فالأولى أن تكون السلطة الحقيقية للعقل الإنسانى وكيفية فهمه للنص.
ويرى السواح أن ثمة عناصر مشتركة وثابتة بين كل الأديان، فالمعتقد الدينى يقوم على الإحساس بانقسام الوجود إلى مجالين؛ عالم الظواهر المحسوسة الذى يتحرك ضمنه الإنسان؛ وعالم الغيب الذى صدرت عنه هذه الظواهر المحسوسة بما فيها الإنسان وأشكال الحياة الأخرى. وبناء على ذلك، يصل السواح فى كتابه «دين الإنسان» إلى أن الدين ليس وهمًا، والمؤمن ليس واهمًا فى إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة، وبالتالى، فإن الأديان كلها تقف على قدم المساواة، ولا وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة، لأن جميع الأديان نتاج لذلك الشرط المعطى للوجود الإنسانى.
ومن الكتابات المهمة فى مضمار الفكر الدينى، يمكن الحديث أيضًا عن كتابه «القصص القرآنى ومتوازياته التوراتية»، ففيه ارتكز على القرآن والتوراة، ليقدم دراسة مقارنة لنصوص القَصص القرآنى ونظائرها فى التوراة، راصدًا التشابه بين النصين وما ورد فيهما من قصص حول الخلق والقيامة والطوفان وإبليس والحياة بعد الموت، مستعيدًا الأصول الميثولوجية لبعض القصص.
يصل السواح من دراسته للميثولوجيا إلى أن ليس ثمة دين بدون أساطير، ويبين ذلك فى كتابه «الله والكون والإنسان: نظرات فى تاريخ الأفكار الدينية» قائلًا: فى الديانات التوحيدية لدينا أساطير رئيسية وأخرى ثانوية؛ فمن الأساطير الرئيسية هنالك أسطورة الخلق والتكوين، وجنة عدن، وعصيان الإنسان الأول وسقوطه، وتمرُّد الملاك إبليس وتحوُّله إلى شيطان، ويمكن اعتبار مشاهد اليوم الأخير والجنة والنار بمثابة أساطير تعليميةٍ تهدف إلى تزويد المعتقد بصورةٍ حيةٍ نابضة. ومن الأساطير الثانوية التى تُروى عن مسيرة التاريخ البشرى لدينا أسطورة الطوفان الكبير، وقصص الأنبياء، وما جرى لهم مع أقوامهم، وتدمير المدن العاصية التى لم تستجب لرسالة الأنبياء.
تصريحات نارية لا تعرف المهادنة
إضافة إلى العمل البحثى الدءوب والجاد الذى اضطلع به السواح فى أعماله المتتالية، والتى يمكن اعتبارها جميعًا مغامرات فى النظر العقلى الذى يجابه بمناهج علمية أفكارًا مكرسة وراسخة، فإن منشورات السواح عبر «فيسبوك»، ولقاءاته الإعلامية ربما أكثر مباشرة وبطبيعة الحال صدامية بدرجة أكبر.
يظل رأى السواح فى «الحجاب» من أكثر الآراء التى أثارت جدلًا واسعًا فى حينها، ففى منشور صادم أعلن السواح ذات يوم عن أنه يرفض قبول صداقة امرأة محجبة، وهو ما جُوبه بنيران من الجدال لم يسع السواح إلى إطفائها بل تمسك بما قاله وبرّره فى لقاءات إعلامية تالية أشار فيها إلى أن الحجاب غير منصوص عليه بالقرآن وأنه ليس فرضًا. وفى منشور آخر له، عبر حسابه، استكمل الحديث فى المسألة بقوله: الحجاب مرة أخرى: فى القرآن الكريم نصوص توقف العمل بها بعد عصر الرسول الكريم ومنها «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم . . . » التوبة ٦٠ . والمؤلفة قلوبهم جماعة جعل لهم الرسول نصيبًا من الزكاة ليستميلهم إلى الإسلام أو ليكف أذاهم عن المسلمين. ولكن الخليفة عمر توقف عن الدفع إلى هؤلاء بعد أن اشتد عود الإسلام ولم يعد بحاجة لاستمالة أحد. أى أن عمر قد أوقف العمل بنص آية قرآنية لأن الزمن قد تغير. فما بالكم بمسألة ليس فيها نص ولكنها تعتبر اليوم من أولويات الدين وهى الحجاب؟ إن للتطور قوانينه، والأمة التى لا تعى هذه القوانين معرضة للاندثار، لأنها ترى مستقبلها فى ماضيها.
ومما تحدث فيه بكتبه ثم بمنشورات مباشرة عبر حسابه كان ما يعنيه «الإسلام» كما ورد فى القرآن، فالإسلام برأيه يعنى الأديان التوحيدية جميعًا. ويفصل ذلك قائلًا: «إن الدين عند الله الإسلام» - آل عمران ١٩. «ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين». لقد لعب تفسير هاتين الآيتين دورًا فى تكوين الأيديولوجيا التكفيرية وفى الأعمال العدائية التى قام بها التكفيريون ضد أهل الديانات الأخرى ومقدساتهم. فقد فهم المفسرون كلمة الإسلام هنا على أنها دين محمد بن عبدالله، ولكننا إذا بحثنا فى المواضع التى وردت فيها هذه الكلمة لوجدنا أنها فى ٩٠٪ من الحالات تعنى دين التوحيد بشكل عام، فإبراهيم الخليل كان أول المسلمين «البقرة ١٣١ و١٣٥ وآل عمران ٦٧»، ويوسف الصديق كان مسلمًا «يوسف ١٠١». وكذلك إسحاق ويعقوب وإسماعيل «البقرة ١٣٢ و١٣٦» وكل الأنبياء والمرسلين. لذلك كان الخطاب القرآنى إيجابيًا تجاه بقية الأديان التى يصنفها سماوية: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا هم يحزنون».
يبقى فراس السواح بدراساته فى الميثولوجيا واحدًا من هؤلاء المفكرين الذين حثوا على تحريك المياه الراكدة وعدم الارتكان إلى معتقدات وتفسيرات تخالف العقل والمنطق الإنسانى وتقود إلى تحويل الحياة البشرية إلى جحيم مطلق، فربما ليس هناك خلاف على أن ثمة منجزًا للسواح يستحق معه التقدير والنظر، رغم أى حديث مبتذل؛ جدًا كان أم مزاحًا.