الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أُدباء الإسكندرية.. أصوات فى بحر العباب

الإسكندرية
الإسكندرية

تنوء الإسكندرية بثقل تاريخ أسطورى، وقائمة ألقاب تتراوح فى مدى شاعريتها وأسطوريتها بين مدينة الرب وعروس البحر المتوسط، وغيرها من ألقاب يحلو لأهلها ومحبيها استدعاؤها فى مواضع الاحتفال، والخطب الحماسية، والموضوعات الإنشائية، وكذلك فى معرض التباهى بتاريخ- حقيقى أو متخيل- والتعالى على غيرهم من أبناء المدن الأخرى. لكنها فى واقعها تبدو مدينة مثل غيرها من المدن الكبيرة، تتوزع فيها مساحات الجمال والقبح، ويُعمل الزمن فى أوصالها معوله هدمًا وبناءً. مدينة حبلى بمدن أخرى صغيرة ذات ملامح مختلفة وأعمار متفاوتة فى قدمها وجدتها، وروح تتباين من منطقة إلى أخرى.

كذا يبدو مشهدها الثقافى والإبداعى، ذلك المشهد الذى يستدعى فى دفتر تشريفاته أسماء مهمة فى تاريخ الثقافة والأدب المصرى، مثل عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية وأحد رواد شعر العامية المصرية والصحافة الناقدة والساخرة، وبيرم التونسى عملاق الزجل والأغنية وأحد الآباء المؤسسين لشعر العامية المصرية، بل وقد تزدهى أحيانًا بأدباء عالميين كان لهم أثرهم فى المشهد الأدبى العالمى؛ مثل الشاعر اليونانى قسطنطين كفافيس الذى كان يصر على وصف نفسه بالشاعر السكندرى، ووصفه مجايلوه مثل فورستر وداريل بشاعر الإسكندرية. كلاهما أيضا خلَّد الإسكندرية فى أعماله، سواء فى كتاب فورستر التاريخى الشهير «الإسكندرية.. تاريخ ودليل» أو رباعية داريل الروائية الشهيرة: رباعية الإسكندرية، نختلف أو نتفق حول رؤية كل منهم للمدينة وموقع أهلها المصريين فيها.

قبل ثورة ١٩٥٢، كانت الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر سياسيًا، وثمة من كان يراها عاصمة أولى للثقافة، لكن الحقيقة أن القاهرة منذ بداية الدولة الحديثة فى القرن التاسع عشر هى المركز، لذا كان على أسماء مثل عبدالله النديم والشيخ سلامة حجازى وسيد درويش وبيرم التونسى أن ينتقلوا إلى القاهرة كى يكونوا فى مركز الضوء وبؤرة النشاط. لا ينفى هذا وجود حياة أدبية وثقافية ثرية فى الإسكندرية التى شهدت تشكُّل جماعات أدبية، مثل جماعة الشلالات عام ١٩١٢ التى أسسها عثمان حلمى وضمت أسماء مثل محمد مفيد الشوباشى وعبداللطيف النشار وحسن فهمى، وعندما عاد عبدالرحمن شكرى من لندن انضم إلى الجماعة وصار رائدها. لكن المقررات الدراسية لتاريخ الأدب المصرى ستذكر بالأساس جماعة الديوان أو أبوللو وتتناسى غيرهما. وفى عام ١٩٣٢ مثلًا اجتمع ثلاثون مثقفًا على تأسيس «جماعة نشر الثقافة فى الإسكندرية» التى ضمت لجانًا مختلفة للتأليف والترجمة والنشر والمحاضرات والمهرجانات والفنون الجميلة، كما شهد عام ١٩٣٤ تأسيس أتيليه الإسكندرية- سابقًا على أتيليه القاهرة- الذى ظل يعمل كمكان لتجمع الأدباء والفنانين حتى صدر حكم قضائى بتسليم مقره الفخم إلى ملاكه منذ عامين. 

بعد قيام ثورة يوليو، وبدء تأميم النشاط الثقافى ودخول الدولة بقوة، ممثلة فى وزارة الثقافة ومؤسساتها مثل قصور الثقافة، صارت نوادى الأدب بهذه القصور مساحة أساسية لممارسة النشاط الأدبى والتعرف على الوسط ونيل الاعتراف، وأنتجت هذه النوادى بالطبع أسماء بارزة انتقل بعضها إلى القاهرة كالعادة ليكون فى بؤرة الضوء. ونجد فى الخمسينيات أسماء سكندرية مهمة فى المشهد الأدبى لم تخرج من هذه النوادى فى الحقيقة، مثل إدوار الخراط ومحمد حافظ رجب، وبعد ذلك فى الستينيات والسبعينيات إبراهيم عبدالمجيد مثلًا الذى ارتاد فى شبابه قصور الثقافة، ثم عمل موظفًا بها فى القاهرة بعد انتقاله إليها. كما نجد أسماء ظلت فى المدينة تحفر لنفسها اسمًا دون أن تغادرها، مثل الروائى والقاص مصطفى نصر وسعيد سالم وغيرهما. بالتأكيد كانت نوادى الأدب مساحة مهمة للنشاط الأدبى، لكنها أنتجت كذلك حالة من التراتبية والأستاذية مالت إلى الكلاسيكية، ووقفت موقفًا عدائيًا من محاولات التجديد، ربما كان للتكوين البيروقراطى الذى يعتور تشكيل هذه النوادى ومساحة عملها وسقف الحرية فيها دورهم فى خلق وترسيخ هذه الحالة عبر كل هذه العقود. وهو ما حدا بكثير من المبدعين إلى التحرك خارجها فى مساحات أهلية، مثل الأتيليه أو الجمعيات الأهلية مثل جماعة أصيل فى النادى النوبى العام منذ بداية التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من الألفية، بالإضافة إلى الصالونات والجماعات المستقلة مثل «الأربعائيون» التى تأسست فى منتصف التسعينيات على يد الشعراء الراحلين عبدالعظيم ناجى ومهاب نصر وحميدة عبدالله والشاعر المهاجر ناصر فرغلى، وصدر عنها مجلة وكتاب «الأربعائيون»، أو مجلة «خماسين» ذات التوجه الأقل نخبوية التى أسسها مجموعة من الشباب فى منتصف التسعينيات، منهم الشاعر محمد عبدالرحيم والقاص ماهر شريف والشعراء حمدى زيدان وأحمد عبدالجبار وغيرهم من أبناء جماعة أصيل. وفى سنة ١٩٩٩ أسس الشاعر والكاتب علاء خالد مع الراحل مهاب نصر والفنانة سلوى رشاد مجلة «أمكنة» التى احتلت مكانة كبيرة وسط المجلات الثقافية ليس فى الإسكندرية وحدها بل فى العالم العربى.

يبدو المشهد الآن عصيًا على الإلمام والإحاطة، فما زالت نوادى الأدب- رغم خفوتها الملحوظ- تمارس عملها باجتهاد، وكذلك فرع اتحاد الكُتاب فى الإسكندرية، وندوة مختبر السرديات فى مكتبة الإسكندرية التى يديرها القاص منير عتيبة بدأب كبير منذ حوالى خمسة عشر عامًا. ومع خفوت دور المراكز الثقافية الأجنبية وقلة اهتمامها بالأدب نجد من وقت لآخر ندوة فى المركزين الثقافيين الفرنسى أو الألمانى. ومع انتشار المكتبات الخاصة ومساحات العمل والكافيتيريات وبعض المبادرات الخاصة يتناثر العمل الثقافى وتتشكل ملامح جديدة له. وخارج كل هذه المساحات تبرز فى الإسكندرية أسماء رسخت وجودها على مستوى المشهدين الأدبيين المصرى والعربى، مثل الشاعر الكبير إبراهيم المصرى والأستاذ حجاج أدول والشاعر والكاتب علاء خالد، ناهيك عن عدد من الكاتبات والكتاب الشباب الذين حققت أعمالهم نجاحًا وانتشارًا جماهيريًا ونقديًا.

لذا كانت مهمة عمل هذا الملف صعبة إلى حد كبير، فأى ملف سيقصر عن الإحاطة بأطراف هذا المشهد الواسع، وأى اختيارات سيقابلها اتهام بالتحيز والتجاهل. لكنى أعتقد أن أى محاولة لتقديم ملف كهذا ستخضع لانحيازات صاحبها الجمالية، وحدود معرفته بأطراف المشهد وقدرته على التواصل معها. ويضم هذا الملف أسماء من جيل التسعينيات «أحمد عبدالجبار ومحمد عبدالرحيم» المقل فى إصداراته «لكل منهما ديوان شعر واحد رغم وفرة كتاباتهما، لكن لعبدالجبار رواية أيضًا»، ومن جيل الألفية «أمانى خليل وتامر أنور ومصطفى زكى وهالة الصياد» الذى قدم عددًا أكبر من الإصدارات ونال جوائز عديدة، ومن جيل ما بعد ثورة ٢٠١١ «كريم على ومينا ثابت» الذى بدأ يرسخ وجوده عبر توالى الإصدارات والحصول على الجوائز أيضًا، ثم جيل عقد العشرينيات من الألفية «مصعب السيد وبسمة جاهين» بطموحه الجمالى وخطواته التى تتلمس الطريق بقوة. هذا الملف محاولة لتقديم أصوات سكندرية وسط بحر يضج بالأصوات.. المطربة منها والرتيبة. وعلى الله قصد السبيل. 

اقرأ من إبداعات أدباء الإسكندرية

أحمد عبدالجبار يكتب: حياة أخرى

محمد عبدالرحيم يكتب: أريد

مصطفى زكى يكتب: خدمة ليلية

بسمة جاهين تكتب: الطريق

تامر أنور يكتب: قمر الموت

كريم على يكتب: مساومة للموت

أمانى خليل تكتب: قانون الحزن

مصعب السيد يكتب: الغرق فى المياه المالحة

هالة صلاح الصياد تكتب: قاتل الفئران