صنع الله إبراهيم.. كاتب أحرج نظامًا
- دائمًا كان يعلن عن عدائه للسياسة الثقافية للدولة وتوجهاتها الرأسمالية
- أعقب كلمة صنع الله تصفيق حاد جدًا ومستمر غير مسبوق تمامًا كما فى خطابات الزعيم عبدالناصر
- بعض الكتاب الذين أيدوا صنع الله كانت لهم فيما بعد مواقف معارضة على صفحات المجلات والصحف
ربما كان هذا العنوان غريبًا على الثقافة العربية، فلم يحدث أن كاتبًا مصريًا قال للحكومة لا فى حضرة وزيرها وجميع كبار العاملين والمثقفين والأدباء والشعراء، من مصر والعالم العربى، وفى خضم احتفالاتها بمهرجان الرواية العربية فى نوفمبر ٢٠٠٣، وأمام حشد من أدباء العرب الناطقين بالعربية وغيرها.
كما كانت كلمة- لا - أمام أجهزة الإعلام الرسمية للدولة، من تليفزيون وإذاعة وصحف قومية ومعارضة، وأمام الفضائيات العربية كلها.
أمام كل هذا الحشد، ندد الكاتب بالدولة وسياستها، كما رفض جائزتها.
وهذا ما فعله الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم.
كنت مدعوًا لملتقى الرواية العربى الثانى الذى عقد فى نوفمبر ٢٠٠٣. وهو مهرجان يعقد كل عامين، يشرف على هذا الملتقى وينفق عليه المجلس الأعلى للثقافة التابع لوزارة الثقافة المصرية. وفى نهايته يعلن عن الفائز بجائزة الملتقى وقدرها مائة ألف جنيه مصرى تمنح كل عام لفائز من بين الكتاب العرب.
استمرت فعاليات الملتقى لمدة أربعة أيام. كانت تعقد خلالها الندوات، وكانت الفترات فيما بين الندوات مجالًا خصبًا للتوقعات المحتملة لجائزة الملتقى، كانت هناك توقعات بترشيح الروائى خيرى شلبى «فاز بها عام ٢٠٠٤» كما رشح بعضها بهاء طاهر وجميل عطية إبراهيم.
فى اليوم الثالث من أيام الملتقى زارنى صنع الله إبراهيم فى فندق كان يقيم فيه أعضاء المؤتمر من المصريين فى حى الزمالك الراقى، بالقاهرة، ليسلمنى مخطوط روايتى «خريف الجنرال» التى صدرت فيما بعد عن روايات الهلال فى أغسطس ٢٠٠٥. والتى كنت قد أعطيتها له لقراءتها. أثنى صنع الله على روايتى مجاملًا، وتحدثنا فى كل شىء، كان صنع الله قلقًا لما يحدث فى العراق وقال إن كل شىء مخطط ومدروس تمامًا، ويتم تنفيذه بكل دقة طبقًا للتخطيط الأمريكى، وإن العراق هو البداية، وها هى أمريكا تتحرش بسوريا، وتنظر بغضب إلى السودان، وأجبرت ليبيا على الاعتراف بسعيها إلى امتلاك أسلحة نووية، وقال إن كل ما يحدث يصب فى صالح إسرائيل. وإننا كعرب يجب ألا ننخدع فيما تعلنه أمريكا عن أهدافها لإزاحة صدام حسين، وقال إن خطر أمريكا على الشعب العراقى وعلى كل شعوب المنطقة.
لم يكن هذا الموقف جديدًا على صنع الله إبراهيم، فقد كان كثيرًا ما يعلنه فى جلساته الخاصة مع خلصائه، كما كان يعلن عن عدائه للسياسة الثقافية للدولة وتوجهاتها الرأسمالية، وكان دائمًا ما يذكر أمامى واصفًا الثقافة الحكومية بأنها ثقافة الضجيج والأصوات العالية، وأن سياسة الوزارة من شأنها إفساد المبدعين.
كان صنع الله يقاطع أنشطة الوزارة، فلا يحضر مؤتمراتها ولا ندواتها. كما لم يحاول نشر أى رواية من رواياته العديدة فى هيئات النشر بالوزارة، والتى تنشر الكتب للمبدعين.
ولم يكن صنع الله إبراهيم من هؤلاء الكتاب والمفكرين الذين يعلنون نبذهم للمؤسسة فى الجلسات الخاصة، ثم يسعون سرًا إلى لجانها والحصول على مكافآتها.
لاحظت أن هناك لحظات من الشرود تنتاب صنع الله، وهو جالس معنا!
لم يدر بخلدنا وقتها أنه مرشح للجائزة. ولكن تبين فيما بعد أنه كان يعلم بترشيحه وفوزه. وكان يضمر رفضها سرًا.
وعندما أخبرته بأنه من المحتمل أن يفوز بالجائزة، وكانت وقتها جائزة الملتقى العربى للرواية أضخم جائزة للرواية العربية فى ذلك الوقت، لكنه كان يبتسم، ويحاول تغيير مجرى الحديث، ثم تركنا وانصرف. على أمل أن نتقابل فى المساء فى قاعة الأوبرا بالمجلس الأعلى للثقافة بحى الزمالك. حيث يعقد الملتقى العربى للرواية.
فى الساعة السادسة توجهنا إلى المسرح الكبير بدار الأوبرا القريب لمقر جلسات ملتقى الرواية فى المجلس الأعلى للثقافة، وقبلها وزعت علينا دعوات الدخول، مع التنبيه مشددًا بضرورة إحضار الدعوة ولن يسمح بالدخول لغير حامليها.
بالفعل وجدنا نشاطًا غير عادى، وحراسًا من الشرطة بملابسهم البيضاء عند باب المسرح، وكانوا يمنعون بأدب من لا يحمل الدعوات بالدخول، حصلت مشاحنات بين الصحفيين ممن لا يحملون تذاكر الدعوة ورجال الأمن. وكان للدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، مع مدير دار الأوبرا، الفضل الكبير فى إنهاء تلك المشاحنات، والتى كان أغلب أبطالها من الإعلاميين الذين حضروا لتغطية وقائع الجلسة الختامية دون دعوات ومعهم زوجاتهم أو صديقاتهم.
كان الصف الأول فى القاعة خاليًا ومكتوبًا على الكراسى أسماء من سيجلسون عليها، وهم من كبار المدعوين وأعضاء لجنة التحكيم.
وبجلوسنا فى مقاعدنا بدأت التكهنات. وسمعنا اسم الأديب إدوار الخراط يتردد كثيرًا، وتأكدت ظنوننا أنه سيفوز عندما شاهدناه يدخل ويجلس فى الصف مرتديًا بدلة كاملة، كما سمعنا اسم الكاتب الليبى إبراهيم الكونى، ورأيناه يجلس بجوار إدوار الخراط فى الصفوف الأمامية.
وصل صنع الله ومعه زوجته ليلى عويس، فى سيارته القديمة اللادا، روسية الصنع، كانت ملابسه عادية كتلك التى يقابلنا بها فى منزله، قميص نصف كُم وبنطلون. وبوصول صنع الله سمعنا اسمه يتردد كفائز للمرة الأولى، ولكنها مجرد تكهنات.
وقد أثار وصول صنع الله عدة تكهنات.
فلم يكن صنع الله معتادًا على التردد لحضور ندوات الوزارة، ولا مؤتمراتها خصوصًا فى السنوات الأخيرة، كانت آخر مرة رأيناه فيها فى الجلسة الافتتاحية لملتقى الرواية الأول فى ٢٠٠١.
جلس صنع الله وزوجته فى الصف الأول.
كان يجلس عن يمينى الصحفى حلمى النمنم، وعن يسارى الكاتب فؤاد قنديل. أبدى فؤاد قنديل وحلمى النمنم ارتياحهما لحضور صنع الله واحتمالات فوزه بالجائزة.
الحق أن التكتم على اسم الفائز حتى اللحظة الأخيرة يحسب للصرامة التى يدير بها الدكتور عصفور المجلس الأعلى للثقافة، فقد حضرت كثيرًا حفلات الجوائز، وكانوا يتظاهرون بالكتمان، وكان كل الحاضرين يعرفون الفائز.
وصل الوزير ورجاله. وصعد الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة على منصة المسرح، وبعده صعد الوزير.
كان الوزير يرتدى بدلة كاملة جديدة يرتديها للمرة الأولى، وكان يبدو منتشيًا، وكان جابر عصفور فى أحسن حالاته، فقد نجح الملتقى، والليلة هى الليلة الختامية، وفى عرف المؤتمرات، فهى ليلة العرس، التى سيعلن فيها اسم الفائز بالجائزة التى ضاعفها الوزير من خمسين ألف جنيه إلى مائة ألف جنيه.
نودى على أعضاء اللجنة التى قررت منح الجائزة وهم: الكاتب الطيب صالح رئيسًا للجنة، والنقاد: سيزا قاسم، عبدالله الغدامى، فريال غزول، فيصل دراج، محمد برادة، محمد شاهين، محمود أمين العالم.
بعد أن اكتمل صعود أعضاء اللجنة نودى على رئيسها الروائى الطيب صالح ليلقى كلمة يعلن فيها اسم الفائز.
وبدأ يتكلم عن هموم الإبداع والتأليف الروائى، ومتاعب الكتابة، وفى نهاية كلمته أعلن أن الفائز هو صنع الله إبراهيم.
دوت القاعة بالتصفيق المستمر القوى والحاد، كان التصفيق هادرًا وغير معهود.
وقف صنع الله فى مكانه وبدأ يحيى الحاضرين، ثم صعد على المنصة ببطء، وصافح أعضاء اللجنة وحضنهم واحدًا بعد الآخر. وعندما وصل إلى الوزير صافحه وعانقه محتفيًا.
تسلم صنع الله من الوزير مظروفًا أبيض به شيك المبلغ، ومع الشيك تمثال يعبر عن شعار الملتقى، كما فى مهرجانات السينما، واتجه إلى منصة الخطابة.
وضع المظروف والتمثال أمامه على منصة الخطابة. وببطء شديد أخرج من جيبه ورقة وبسطها أمام عينيه وبدأ يقرأ:
- «لست قادرًا على مجاراة الدكتور جابر عصفور فى قدرته على الارتجال، ولهذا فقد سطرت بسرعة كلمة قصيرة أعبر فيها عن مشاعرى، وصدقونى إذا قلت إنى لم أتوقع أبدًا هذا التكريم، كما أنى لم أسعَ يومًا للحصول عليه، فهنا من هم أجدر منى به، بعضهم لم يعد بيننا مثل غالب هلسا الأردنى وعبدالحكيم قاسم المصرى ومطيع دماج اليمنى، وعبدالعزيز المشرى السعودى وهانى الراهب السورى. والبعض ما زال يمتعنا بإبداعه مثل الطاهر وطار الجزائرى وإدوار الخراط وإبراهيم الكونى، ومحمد البساطى وسحر خليفة، وبهاء الطاهر ورضوى عاشور وحنا مينا وجمال الغيطانى، وأهداف سويف وإلياس خورى وإبراهيم أصلان وجميل عطية إبراهيم وخيرى شلبى، وفؤاد التكرلى وخيرى الذهبى وكثيرون غيرهم.
لقد جرى اختيارى من قبل أساتذة أجلاء ورواد للإبداع يمثلون الأمة التى أصبح حاضرها ومستقبلها فى مهب الريح، وعلى رأسهم أستاذى محمود أمين العالم الذى زاملته فى السجن، وتعلمت على يديه وأيدى رفاقه قيم الوطنية الحقة والعدالة والتقدم.
وهذا الاختيار يثبت أن العمل الجاد المثابر يجد التقدير المناسب دونما حاجة إلى علاقات عامة أو تنازلات مبدئية، أو مداهنة للمؤسسة الرسمية التى حرصت دائمًا على الابتعاد عنها.
على أن لهذا الاختيار قيمة أخرى هامة. فهو يمثل تقويمًا لنهج فى الإبداع اشتبك دائمًا مع الهموم الآنية للفرد والوطن والأمة. إنه قدر الكاتب العربى. فليس بوسعه أن يتجاهل ما يجرى من حوله، وأنه يغض الطرف عن المهانة التى تتعرض لها الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، عن القهر والفساد، والاحتلال الإسرائيلى والاحتلال الأمريكى، والتواطؤ المزرى للأنظمة والحكومات العربية فى كل ما يحدث.
فى هذه اللحظة التى نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضى الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال ويتشرد الآلاف، وتنفذ بكل دقة ومنهجية واضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطينى وتهجيره من أرضه. لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بُعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكى حيًا بأكمله بينما ينتشر جنوده فى كل ركن من أركان الوطن الذى كان عربيًا. ولا يراودنى شك فى أن كل مصرى هنا يدرك الكارثة المحيقة بوطننا، وهى لا تقتصر على التهديد العسكرى الإسرائيلى الفعلى لحدودنا الشرقية ولا على الإملاءات الأمريكية وعلى العجز الذى يتبدى فى سياسة حكومتنا الخارجية إنما تمتد إلى كل مناحى حياتنا.
لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمى أو تعليم.. لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات، وصندوق أكاذيب، لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة منا الروح، الواقع مرعب، وفى ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسئوليته، لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدى، لن أطالبكم بشىء، فأنتم أدرى منى بما يجب عمله. كل ما أستطيع هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتى الأجلاء الذين شرفونى باختيارى للجائزة وأعلن اعتذارى عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك- فى نظرى- مصداقية منحها وشكرًا.
انتهت كلمة صنع الله.
دوى تصفيق حاد جدًا ومستمر غير مسبوق، تمامًا كما فى خطابات الزعيم عبدالناصر، وحفلات أم كلثوم، وهيمن الحماس على الحاضرين، ووقف بعضهم على الكراسى التى يجلسون عليها، ودوت هتافات مرتجلة وغير مفهومة، كأننا فى مسرحية محكمة البناء.
ترك صنع الله المظروف والتمثال عند المنصة، ونزل متجاهلًا اللجنة والوزير المصدوم. وفوجئ الحاضرون بمحمود أمين العالم يعانق صنع الله بطريقة ودودة تلقائية، وعانقه عدد من أعضاء اللجنة قبل أن ينزل من على المنصة.
نزل صنع الله يبطئ على درجات السلم المؤدى الى الصالة الرئيسية مرتكزًا على كتف زوجته.
أسرع الوزير إلى منصة الخطابة. تناول الميكروفون. يحاول إنقاذ الموقف، ويعيد النظام إلى القاعة التى ما زالت تعج بالتصفيق والهتافات.
تظاهر الوزير بالثبات، وقال إنه يأسف لموقف صنع الله، وأنه لولا الحكم الديمقراطى الذى نعيش فيه لما استطاع صنع الله أن يقول هذا الكلام.
وقال مرتجلًا: أتقدم بكل الاعتذار للجنة الموقرة التى أمضت وقتًا مضنيًا لاختيار من كتب أحسن الكلام، وتكبدت هذا الجهد فى مشروع لا طائل من ورائه!
كان أعضاء اللجنة لا يزالون مندمجين فى موجة التصفيق تضامنًا مع موقف صنع الله. ثم وجه الوزير كلامه إلى أعضاء اللجنة وقال:
- هو لم يحرجنا نحن، ولكن أحرجكم أنتم.
ولا شك أن الوزير فى إشارته إلى الديمقراطية يريد أن يذكرنا بما كان يمكن أن يحدث لصنع الله دون أن يصرح به، ثم هيمن على الوزير الاضطراب. وعندما ترك الميكروفون لم ينس أن يأخذ المظروف الذى فيه الشيك وناوله للدكتور جابر عصفور.
عندما نزل صنع الله من على المنصة، كانت زوجته تنتظره عند السلم المؤدى إليها، تحدثا معًا بضع كلمات، هو من أعلى المنصة وهى من أسفلها تفصل بينهما درجة السلم.
لم أعرف فيما كانا يتحدثان، ولكنها مدت له يدها استند عليها ونزل.
اخترق صنع الله صفوف المدعوين الذين ما زالت الصدمة تثير حماسهم، وكان التصفيق متواصلًا.
بعد نزول صنع الله نزل محمود أمين العالم، تاركًا الوزير وجماعته، ثم تبعته الدكتورة فريال غزول، وتوالى نزول أعضاء اللجنة.
بقى الطيب صالح رئيس اللجنة ووقف يتحدث مع الوزير، صعد أحد رجال الوزير وهمس فى أذنه بكلمات، وبعدها نزل الوزير.
عندما غادر الوزير القاعة لم يكن عدد الموجودين فيها يزيد عن العشرة أفراد، فقد خرج كل الموجودين خارج القاعة خلف صنع الله، والتفوا حوله خارج القاعة.
فى الفناء خارج القاعة أعدت إدارة دار الأوبرا موائد عليها غلايات المياه الساخنة، وأكياس الشاى والبن والسكر، وبعض الأطباق الخفيفة ليتناولها المشاركون بين الفترة التى تعقب تسليم الجائزة، والفقرة التالية لها، والتى تتضمن حفلًا غنائيًا وموسيقيًا له طبيعة خاصة، حيث سيقوم بالغناء شباب من المتدربين فى دار الأوبرا على الأداء الأوبرالى، وسيؤدون أغنيات أم كلثوم.
ترك المشاركون الموائد بما عليها وتحلقوا حول صنع الله إبراهيم، وبعضهم تجمع على شكل حلقات يتحدثون عن هذا الحدث غير المسبوق. لم يكن الصحفيون يكتبون ولا يسجلون الأحاديث كعادتهم، ولكنهم تركوا أوراقهم وتسجيلاتهم وشاركوا فى الحديث.
انقسم الكتّاب والمبدعون ما بين مؤيد ومعارض لموقف صنع الله.
بعض الكتاب الذين أيدوا صنع الله كانت لهم فيما بعد مواقف معارضة على صفحات المجلات والصحف.
من قال إن صنع الله رفض الجائزة الصغرى فى انتظار الجائزة الكبرى، وهى جائزة نوبل.
وعارض ذلك جميل عطية إبراهيم، ورءوف مسعد، وكلاهما يعيش ويكتب فى الخارج، ويعرف اتجاهات الجائزة، وقالا إن هذا لن يحدث، لأن صنع الله هاجم أمريكا وإسرائيل، وبالتالى فهو قد فقد مقومات ترشيحه لجائزة نوبل العالمية.
كما كانت لبعض المعارضين مواقف مؤيدة، فبعد أن عاد كل من الفريقين إلى بيته ووازن مصلحته بعدها غيّر موقفه إلى الاتجاه الذى تتطلبه تلك المصلحة، ولكن الجميع كانوا متفقين مع ما فعله صنع الله.
فى لحظة الحدث كان الموقف طازجًا وعفويًا وينبع من رؤية تتسق مع المنطق.
أما رجال الإعلام من تليفزيون وإذاعات محلية فقد تحلقوا حول الوزير، رفض الوزير أن يتحدث، وقال لهم بحسم:
- لا. لا. الوقت لا يسمح.
فضل الوزير أن يقف مع رجاله فى مكان منعزل بعيدًا عن تجمع المدعوين يتحدثون فيما ينبغى عمله بعيدًا عن أجهزة الإعلام.
تحلقت الإذاعات والفضائيات العربية والأجنبية حول صنع الله وزوجته، وكان صنع الله يتحدث بانفعال، لم يكن فى أحسن حالاته، كان يرتجل الكلام محاولًا تبرير موقفه الرافض الجائزة، والذى أعلنه رسميًا فى كلمته الرائعة والمعبرة التى ألقاها بنفسه منذ لحظات.
كان بعض المحطات يستدرجه ليتحدث عن المزيد ويهاجم الحكومة بكلام غير الذى قرأه من الورقة.
أعاد صنع الله كلامه مرات عديدة للفضائيات العربية.
سألوه عن مظاهر الفساد، ولكن صنع الله كان رائعًا، لم يشتم ولم يسب، ولكنه انتقد، وتحدث عن قضية التواجد والتغلغل الأمريكى والإسرائيلى، وهو ما يتسق مع موقفه الثابت الذى كافح كثيرًا من أجله ولم يتنازل عنه.
لم يقترب التليفزيون المصرى من صنع الله ولا الإذاعة المصرية.
وقف الوزير وسط رجاله تخيم عليهم حالة من الوجوم مدة طويلة، وجّه الوزير خلالها عتابًا إلى الدكتور جابر عصفور الذى كان الاكتئاب مهيمنًا عليه. ولا شك أنه كان يستشعر جسامة ما حدث ويتذوق مرارة الفشل ربما للمرة الأولى، وشعر بأن مشروعه الثقافى مهدد بالانهيار.
صارح الدكتور جابر عصفور عدد الحاضرين حوله بصوت خافت، بأنه يريد أن يعود إلى الجامعة، ويترك العمل الثقافى.
وقال الوزير: «لا ذنب للدكتور جابر فيما حدث، لكن صنع الله تعمد تخريب الملتقى، ولن أعمل أى أنشطة ثقافية، كفاية كده..».
سأل أحد الصحفيين الوزير عما إذا كان فى نيته أن يلغى المهرجان، فقال إنه يفكر فى ذلك.
فيما بعد عاد وأعلن أن فكرة إلغاء المهرجان غير واردة.
كان صنع الله لا يزال يتحدث للصحافة العربية والفضائيات. كان يبدو مرهقًا ومنهكًا، وبدا عليه الإعياء، وبدا الإرهاق على وجه زوجته التى أرهقت عينيها كشافات الإضاءة المصاحبة لكاميرات التصوير.
بعد فترة توقف صنع الله عن الكلام، وأمسك يد زوجته وقادها خارجًا من المكان متوجهًا إلى سيارته اللادا روسية الصنع، وغاب بها فى زحام القاهرة.