من مقدمة كتاب «دوائر الخوف.. قراءة فى خطاب المرأة».. أنا أفكر.. أنا مسلم
- إن دينًا يحرض على التفكير الحر بمكافأة الاجتهاد الخطأ لهو دين واثق من نفسه
- لقد أجاز الإسلام الاجتهاد الخطأ وكافأه «من اجتهد فأخطأ فله أجر»
من الصعب على الإنسان فى حالات كثيرة أن يستطيع التغلب على مرارة بعض التجارب التى تمر به فى حياته، ويزداد الأمر صعوبة حين تكون مرارة التجربة ناتجة عن عوامل وظروف كان المفروض أن تؤدى إلى عكس ما أدت إليه بالفعل.
الحديث هنا عن تجربة الكاتب التى دفعته دفعًا إلى أن يهجر وطنه وأهله، وأن يحرم من طلابه، غرس يديه وثروته الحقيقية ويقرر الحياة فى المنفى.
جريمة الكاتب هنا أنه كتب كتبًا وأذاعها على الناس، هدف من ورائها إلى فتح باب النقاش والحوار حول كثير من القضايا والإشكالات التى تهم المسلم المعاصر.
لم ينكر الكاتب فى أى من هذه الكتب أو المقالات التى نشرها شيئًا مما هو من ثوابت العقيدة، لكنه طرح اجتهاداته حول فهمها وتأويلها وتفسيرها منطلقًا من وعى لا يمكن إنكاره بالتاريخ الاجتماعى والسياسى والفكرى والثقافى للمسلمين، ومن دراسات سبق له القيام بها، ونشرها كذلك عن مناهج التفسير والتأويل فى الثقافتين العربية الإسلامية من جهة والغربية المسيحية من جهة أخرى.
ومن الإحساس العميق بمسئولية الباحث تجاه أمته، وواجبات المعلم تجاه طلابه، طرح الباحث اجتهاداته بلغة جسورة غير مراوغة، لغة تقول ما تريد دون لف أو دوران حول المعنى، ودون تحسس لحركة اتجاه الريح أو تلمس لما يمكن أن ينال رضا «العامة» أو رضا وموافقة من يغازلون العامة بخيانة الفكر والضمير، بل وخيانة العقيدة.
ينطلق الباحث فى هذه الجسارة من منطلقين أساسيين:
المنطلق الأول هو الإيمان العميق بصلابة الإسلام وقوته فى نفوس الناس كلما تأسس على العقل وقوة الحجة، وضعفه وتهافته اعتمد على مجرد التسليم والإذعان، ولعل الإسلام هو الدين الوحيد من بين الأديان المنزلة الذى يعطى لإيمان العقل أولوية قصوى، وينحاز له ضد التقليد والتمسك بأهداب الماضى وعبادة ما كان عليه الآباء والأجداد.
أسلوب السخرية الذى يستخدمه القرآن الكريم فى هذا السياق «أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون» و«أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون» أسلوب شديد الدلالة فى إبلاغ رسالة أهمية العقل، فهو السبيل الوحيد للعلم الذى هو بدوره الأساس المتين الذى تتأسس عليه الهداية، من هنا كان إعلانى فى نهاية البيان الذى أذعته ونشرته فى الصحف- عشية الحكم الذى صدر بتكفيرى والفصل بينى وبين زوجتى «أنا أفكر فأنا مسلم».
ولأهمية وأصالة دور العقل فى تأسيس الإيمان والهداية ربط الإسلام ربطًا محكمًا بينه وبين الاجتهاد، ولم يجعل الوصول إلى الصواب- ناهيك بالوصول إلى الحقيقة التى هى ضالة المؤمن دائمًا- شرطًا لإجازة الاجتهاد ومكافأته.
لقد أجاز الإسلام الاجتهاد الخطأ وكافأه «من اجتهد فأخطأ فله أجر»، ذلك أن الخطأ هو السبيل لبلوغ الصواب فى مجال التفكير الحر، التفكير بلا خوف ولا عوائق ولا مناطق آمنة، كما يريد البعض.
إن دينًا يحرض على التفكير الحر بمكافأة الاجتهاد الخطأ لهو دين واثق من نفسه، وهو دين يمنح المؤمن به ثقة وجسارة فى الاجتهاد وجرأة فى البحث والفكر لا تبالى بغضب الغاضبين ولا تعصب المتعصبين.
المنطلق الثانى الذى ينطلق منه الباحث أن ثوابت الإيمان الدينى هى «العقائد والعبادات- الإيمان بالله وملائكته ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا»، والإيمان لا يستبعد الفهم والشرح والتأويل.
ففى مجال العقيدة اختلفت اجتهادات العلماء المسلمين مثلًا حول فهم طبيعة الإيمان، واختلفوا حول تعريفه، وما إذا كان التعريف يتضمن العمل- أى العبادات- أم أنه مقصور على إيمان القلب.
وأكثر من ذلك اختلفوا حول عقيدة التوحيد بين من يفصل بين «الذات الإلهية» و«الصفات»، وبين من يوحد بينهما، كما اختلفوا حول طبيعة القرآن الكريم هل هو محدث مخلوق أم أزلى قديم، وكل تلك الخلافات لم تكن خلافات حول الأصول، وإنما كانت اجتهادات مختلفة فى فهم تلك الأصول وشرحها، فلم ينكر أحد منهم وجود الله عز وجل، أو ينكر التوحيد، فضلًا عن أن ينكر أن «القرآن» منزل من عند الله.
وكان من الطبيعى وقد اختلفوا حول طبيعة القرآن أن يختلفوا فى تفسيره وتأويله بين متمسك بالمعنى الحرفى مع التسليم بما وراءه وبين متأول يرى فى قواعد اللغة والبلاغة مدخلًا طبيعيًا لفهم لغة القرآن الكريم وتأويلها، لأن القرآن ليس فى التحليل الأخير إلا تنزيلًا «بلسان عربى مبين»، وكل من هؤلاء وأولئك لم ينكر إعجاز القرآن الكريم رغم نزوله بلسان العرب وعلى مقتضى مواضعاتهم وأعرافهم اللغوية.
ومن الجدير بالذكر فى هذا السياق أن المئولة كانوا هم الأقدر على كشف بعض حجب الإعجاز وإبراز بعض معالمه، يكفى أن نذكر اسم إمام البلاغيين «عبدالقاهر الجرجانى» وكتابه «دلائل إعجاز القرآن الكريم»، وهو من المدافعين عن «التأويل» والمهاجمين لأولئك الذين يتمسكون بظواهر القرآن، وبناء على نظرية «عبدالقاهر» فى تفسير إعجاز القرآن الكريم بنى جار الله «الزمخشرى» تفسيره المعروف للقرآن والذى ينطلق من أساس معتزلى تأويلى مكين.
وإذا كان الإيمان بثوابت العقيدة لم يمنع من الاجتهاد فى شرحها وتأويلها، فمعنى ذلك أن مجال الاجتهاد لا سقف يحده ولا شروط تعوقه سوى التمكن المعرفى، أى تمام العلم بشروط وأدوات المعرفة والتمرس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التى وصل إليها التقدم المعرفى فى عصر الباحث، وليس معقولًا ونحن على أبواب القرن الحادى والعشرين أن نتمسك بشروط وقواعد الاجتهاد التى وضعها أسلافنا تمسكًا حرفيًا، وهى فى مجملها شروط وقواعد بائسة بمقياس تطور أدوات المعرفة فى عصرنا هذا.
علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن تاريخه وتدوينه، أسباب النزول، والمكى والمدنى، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ من العلوم الأساسية التى اعتبر أسلافنا- على حق- أن الإلمام بها شرط من شروط التأهل للاجتهاد، فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة فى القرن الخامس أو السادس الهجريين وأن نتجاهل مستوى التقدم المذهل الذى تحقق فى مجال هذين العلمين؟
وبعد... لعل هذه الدعوة لفتح باب الاجتهاد على المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة، أن تكون تحريضًا للقارئ على قراءة هذا الكتاب الذى بين يديه متخليًا عن استراتيجية البحث عن العفريت فيه، وهى الاستراتيجية التى لاحظت أنها بدأت تسيطر على بعض القراء بتأثير الحكم القضائى الذى صدر فى مصر ضد كتاباتى.
وليعلم القارئ العزيز أن وظيفة القضاء ليست محاكمة الفكر، وإنما تطبيق مواد القانون ونصوصه فى حالات النزاع بين الأفراد والجرائم التى يرتكبها الفرد أو الأفراد ضد فرد أو أفراد آخرين أو ضد المجتمع.
ولأن التفكير بذاته ليس جريمة، ولأن نشر ثمرة التفكير وهو الاجتهاد واجب يمليه ضمير الباحث ومسئوليته إزاء دينه ومجتمعه، فإن إدخال القضاء طرفًا حاكمًا فى شئون الفكر هو الجريمة بعينها.
ومن العجيب أن كثيرًا من الذين صمتوا فى مصر إزاء تدخل القضاء- أو بالأحرى إدخاله- طرفًا فى خلاف فكرى كانوا هم أنفسهم الذين أعلنوا فى بيانات موقعة ومنشورة أن «المحاكم ليست وظيفتها الفصل فى شئون الفكر»، كان ذلك اعتراضًا على محاكمة المفكر الفرنسى «روجيه جارودى» بتهمة معاداة السامية أمام إحدى محاكم «باريس» بسبب كتابه الذى أنكر فيه المبالغات الصهيونية فى أرقام ضحايا المحارق النازية.
وهكذا ينطبق على كثير من «أهل الحل والعقد» فى مجتمعاتنا ما قاله السيد المسيح «إن أحدكم ليرى القشة فى عين أخيه ولا يرى الخشبة فى عين نفسه»، لقد رأوا الظلم الواقع على جارودى فى فرنسا والذى حكم عليه بغرامة ولم يروا الحكم بالردة والفصل بين الزوجين فى مصر، والجريمة واحدة هى مخالفة الإجماع.
لكن الأمر أعقد من ضعف الرؤية أو قوتها، إنه النفاق الفكرى والتواطؤ السياسى والاجتماعى الذى يصل إلى حد الجريمة فى حق الله عز وجل وفى حق دينه وكتابه العزيز، ودليلى على ذلك ما أثاره نشر حوار صحفى أجراه أحد محررى جريدة «الأهرام ويكلى» مع القطب الإخوانى المعروف مصطفی مشهور، فقد كانت إجابته عن سؤال حول مكانة الأقباط فى مجتمع الدولة الدينية فى حالة نجاح الإخوان المسلمين فى الوصول إلى السلطة فى مصر هى الإجابة الفقهية المعروفة والمتداولة: أهل ذمة يتمتعون بحماية المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين إلا تولى مناصب القضاء والمناصب القيادية، بالإضافة إلى عدم تجنيدهم للخدمة العسكرية فى جيش إسلامى، حتى لا يتعرضوا لامتحان فى قضية انتمائهم فى حالة الدخول فى حرب ضد دولة مسيحية ولهذا السبب الأخير- يواصل القطب الإخوانى- يتوجب على الأقباط دفع «الجزية».
وبصرف النظر عن المموهين الذين حاولوا أن يدافعوا عن القطب الإخوانى ويفسروا كلامه تفسيرًا جديدًا، متهمين المحرر بأنه شوه كلام الرجل وتقوّل عليه بما لم يقل، فقد كان رد الفعل عنيفًا ضد هذا الكلام لم يأت رد الفعل من جانب الأقباط فقط، بل كان رد فعل المسلمين أعنف، حتى تصدى كثير من الشيوخ والمفكرين والكتاب الإسلاميين للرد على هذا الكلام الذى من شأنه أن يهدد الوحدة الوطنية والاجتماعية.
كان من أشد الردود شجاعة ما قاله شیخ الأزهر من أن شأن الجزية أمر يتعلق بالماضى ولا يصح الحديث عنه اليوم، ولما كان أمر الجزية أمرًا قرآنيًا صريحًا، فمعنى الكلام أن الأمر القرآنى الذى كان جاريًا تنفيذه فى المجتمعات الإسلامية، وفى مصر خاصة حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لا يلزم المسلمين تنفيذه اليوم.
هل يمكن أن أضيف لأنه أمر كان مناسبًا للعصر الذى نزل فيه وللعصور التى تلته، خاصة أن شأن الجزية لم يكن إنشاءً إسلاميًا، بل كان متابعة لتقليد راسخ فى العلاقات الدولية، حيث تدفع الشعوب المغلوبة للغزاة الغالبين ضريبة الرأس، ولكن التطور الذى حدث فى طبيعة العلاقات الإنسانية وفى بنية المجتمعات أدى إلى اعتماد المواطنة وليس الدين أساس الاجتماع البشرى وجعل المساواة بين المواطنين أساس العقد الاجتماعى، ومعنى ذلك أن الإصرار على تطبيق الأمر القرآنى بإرغام أهل الكتاب على دفع الجزية يمثل خطرًا على وحدة المجتمع، دمجت هنا عامدًا بين الكلام الذى جرمتنى على أساسه المحكمة وبين الدفاع المجيد عن مبدأ المساواة بين الأقباط والمسلمين فى خطاب الذين تصدوا للرد على كلام القطب الإخوانى وعلى رأسهم شيخ الأزهر.
وتقتضينى مقتضيات الأمانة العلمية أن أبرز الفارق بين صياغة خطابى وبين صياغة الخطاب الدفاعى المشار إليه، وهو فارق فى الصياغة وليس فارقًا فى الدلالة، إن دلالة الخطاب الدفاعى التى لا يصرح بها أن شأن الجزية شأن تاريخى، وأن ما ورد عنها فى القرآن يجب النظر إليه والتعامل معه بوصفه حكمًا مجمدًا- انتهت مدة صلاحيته- ينتمى للتاريخ وهذا قريب جدًا مما قلته عن «تاريخية» القرآن، وهو مفهوم لا يعنى دائمًا الزمانية، بل يعنى أننا ملزمون باستعادة السياق التاريخى لنزول القرآن من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة، فنستطيع التمييز فى مجال الأحكام والتشريعات بين مستويات لم يتنبه لها أسلافنا.
فإن كان المدافعون عن المساواة بين الأقباط والمسلمين قد خالفوا الإجماع وأتوا باجتهاد جديد، فذلك لأنهم اجتهدوا فى فهم النص، وتجاهلوا القول الشائع غير المحرر المعنى لا اجتهاد فيما فيه نص، لكن الأمر يجب ألا يكون دائمًا الاجتهاد فى سياق دفاعى، إذ لا بد من تأصيل منهجى واع لمسألة قراءة النصوص وتأويلها من منطلق معرفى معاصر خدمة لدين الله وسعيًا للمساهمة فى مناقشة إشكاليات الحياة الإسلامية أو حياة المسلمين فى عالم تزول فيه الحواجز وتختفى فيه المسافات، وتزداد فيه الأخطار.
إن التمسك بالمعاصرة على مستوى الحياة المادية، والإصرار فى نفس الوقت على التفكير كما كان يفكر السلف، يمثل حالة من الانفصام المرضى، وهى نفس الحالة التى لم تحاول كنيسة العصور الوسطى فى أوروبا مواجهتها إلا بعد أن كفر الناس بسلطتها وثاروا عليها.
إن المدافعين عن حالة الانفصام تلك فى مجتمعاتنا، والذين يتفاخرون دائمًا- ونحن معهم- أن تاريخ الإسلام لم يعرف سلطة دينية مثل سلطة الكنيسة يتجاهلون أنهم هم أنفسهم أقاموا بالفعل سلطة لا تقل شراسة وتخلفًا عن سلطة الكنيسة فى العصور الوسطى، يفعلون ذلك حين يزعمون أنهم يدافعون عن حقوق الله، ويفعلون ذلك وهم يصرون على ضرورة وجود سلطة سياسية ترعى شأن الدين وتفرض تعاليمه بسلطة الدولة على الأفراد.