أنا بهاء طاهر.. تاريخ ومحطات من جنيف إلى القاهرة
يرحل الإنسان ويسافر بين البلدان من أقصى العالم إلى أدناه، لكنه يترك قطعة من قلبه فى بلاده، وتظل روحه ترفرف فوق منزله القديم وحول مرابع الصبا ولهو الأصحاب، وتظل هذه الروح حية نابضة حتى لو غاب صاحبها.
هذه هى الرؤية التى آمن بها كاتبنا الراحل بهاء طاهر، الذى كان مثل طائر كلما حلق وطار وتجول، أعاده الحنين إلى عشه الأول الذى يعتبره ملاذه الأخير وملجأه من الألم والحزن والضياع.
ورغم مرور عامين كاملين على رحيل بهاء طاهر، تظل روح هذا الطائر محلقة حولنا وكلما أحسسنا بها تذكرنا ما تركه من تراث وما رواه من حكايات، ونظل نفتش فى سيرته فنستخرج الكنوز التى لا تنفد.
من بين هذه الكنوز حوار يعتبر الأول بعد عودته من جنيف عام 1990، وكان عمره حينها 60 عامًا، وجرت وقائعه فى أتيليه القاهرة مع مجموعة من كبار الأدباء والنقاد والشعراء، منهم سيد البحراوى، وأمينة رشيد، ورضوى عاشور، ومحمد مستجاب، وماجى شعيب، ووجيه وهبة.
فى هذا الحوار الفريد يتكلم بهاء طاهر على سجيته ويترك العنان لقلبه ليتحدث نيابة عنه، فيحكى عن غربته وعمله وعن حياته الاجتماعية وعلاقته الشخصية، ويحكى كذلك عن الأدب والجوائز والصحافة وتفاصيل كثيرة، نترككم تطالعونها خلال السطور التالية..
فى العام ١٩٩٨م وفى شهر ديسمبر تقريبًا دعا مجلس إدارة «أتيليه القاهرة» جماعة الفنانين والكتاب، لحفل تكريم بمناسبة بلوغى الستين عامًا من عمرى، مرت فى غفلة رحلة طويلة من الاجتهاد ما بين التحصيل الثقافى والأدبى الإبداعى، وكنت قد عدت من «جنيف» بمفوضية الأمم المتحدة بعد رحلة عمل هناك بدأت مع العام ١٩٧٦م، تاريخ ومحطات فارقة بكل حوادثها أو أحداثها فى مسيرتى الإنسانية أو الأدبية، ما أردت التحدث فيه انطلاقًا من دلالة ذكر هذه التواريخ هو عدة مواقف أردت متعمدًا أن أرصدها بشكل مباشر فى سطورى هذه، وهذا بقصد اطلاع الإنسان العادى، قبل القارئ المتخصص أن يرى كيف كانت بداية رحلة الإنسان «بهاء طاهر» قبل الروائى، فى «أتيليه القاهرة» كان الوقت مساءً، وأنا محاط بالزميلات والزملاء أحبائى فى رحلة الإبداع وقبله الحياة، أحاطنى كل من عاشرتهم بحبهم، وأحبونى كبنى آدم، ثم كاتبًا روائيًا، قدم سبعة أعمال أو ستة على مدار ستين سنة من عمره، وثلاثين ويزيد على بداية رحلة الكتابة، تحدث أصدقائى د. فريال غزول، د. سيد البحراوى، جميل عطية إبراهيم، مارى تريز عبدالمسيح، وصفوة من نقاد الفكر والأدب عن جدوى الرحلة! رحلتى فى الأمم المتحدة بعدما هاجرت من مصر متعمدًا مع بدء العام ١٩٧٦م، وبعد أن اختتمت فترة من أهم فترات حياتى كمحاور ومعد برامج ثقافية فى الإذاعة المصرية أيام زمان ودورها الحضارى المستنير، بدأت فعاليات حفل الأتيليه بكلمة من صديق عمرى الروائى العصامى الجسور الراحل «محمد مستجاب» الذى افتتح حفلًا تكريميًا بكلمات إنسانية فى الحياة والإبداع، نقطة دماء تتساقط من روحى وجسدى عبر رحلتى الشاقة مع الحياة، وقال مستجاب: أحيى بهاء طاهر الإنسان قبل الروائى لأكثر من سبب، أولًا لأنه استطاع أن يجزم أمره فى أيام قليلة وفى محطات فارقة فى حياته، عندما خذلته ظروف حياتية أو قل عاطفية اجتماعية، رومانسية، وكانت سببًا فى أن يترك مصر القاهرة متوجهًا إلى جنيف، بلا عودة، بعد أن اختلف مع من كان قد قرر أن تشاركه الرحلة.
امرأة ما! وإلى هنا سأتوقف عند دلالة ما ذكرت ١٩٧٦م، وبدء الانطلاق نحو جنيف، ورحلة الاغتراب والمنافى المقصودة؛ هربًا من سقطات عاطفية وأزمات نفسية.
أتذكر «مستجاب» وأستعيد ما رواه فى هذه الليلة؛ لأتذكر أنا بدورى ما فعلته لنفسى ومع نفسى.
تحدث مستجاب يومها عن العذابات التى واجهت «بهاء طاهر» وقوته فى اتخاذ قرار الهجرة والسفر بشكل قوى وحازم، ١٩٧٦، وعودة ١٩٩٨، اثنان وعشرون عامًا فى جنيف، ورحلات لأوروبا بعيدًا عن عملى ومهمتى الثقافية المعرفية فى الأمم المتحدة، الآن وبعد مرور عشرة أعوام على حفل التكريم فى الأتيليه، ديسمبر ١٩٩٨ أو يناير ١٩٩٩م على وجه التقريب، كانت المحطات الفارقة، وكيف تستعاد فى سيرة روائى قرر أن يترك وطنه ومكان ميلاده فى لحظة خشى فيها من الضعف نتيجة قلبه ومشاعره وعواطفه التى انجرحت، واهتزت جذريًا بسبب الإخلاص للمرأة والمحاولات الدائمة للتلاقى، تلاقى الذاتى مع الحياتى العاطفى، وبلورته فى شكل أو مشروع اجتماعى وإنسانى طموح بالتأكيد كان سيعود بنتائج مختلفة للطرفين أنا وهى من كانت؟ والتى ستظل محل احترام عقلى وفكرى، لأنها صنعت ما هو متوافق مع موقفها من الحياة.
لن أترك مكانى فى الإذاعة والتليفزيون من أجلك يا بهاء!
عبارات لم أكن أريد استعادتها من الذاكرة، وكم رفضت الخوض فى أسرار حياتى، فلماذا الآن أيها القارئ العزيز، وبعدما بلغت أو قاربت واقترب عمرى من السبعين عامًا، هل لأننا وعندما يوفقنا الله، وتسعدنا الأقدار بتحقيق إنجاز ما أدبى أو علمى، نرى الحياة بشكل آخر حتى أدق التفاصيل المعذبة فى حياتنا؟ ما أغرب الأمس، وما آسى فترات اغترابى على نفسى! وما أسعدنى آنيًا رغم أننى أشكك كثيرًا فى كلمة «السعادة»، ورغم تشاؤمى من مستقبل العمل والفكر والثقافة فى أوطاننا العربية، فإننى والآن تحديدًا وبعد أن عدت لمصر، واستأنفت الكتابة الروائية بشكل أكثر انتظامًا، بحثت فى نفسى وفيمن حولى عن معنى الزهد! كيف تسير وتصبر زاهدًا أو أنت المحب والعاشق للحياة؟!
جاءت احتفاليات عديدة ترجمات لرواياتى بشكل أكثر غزارة. وفى أكثر من لغة بعيدة عن العربية، ثم جوائز مصر التقديرية فى الآداب، جائزة البوكر العربية، لقاءات إذاعية وتليفزيونية وإعلامية عديدة فى أعوامى العشرة الأخيرة ١٩٩٨/ ٢٠٠٨م، وأعود لنفسى لسؤالها: هل أنت سعيدة، متشائمة؟
أنجزت حقًا؟! ماذا بقى فى ذاكرتك من تفاصيل حياتك؟
الرحلات الأوروبية، أسفارك العديدة فى عواصم ضبابية وثلجية باردة بحجم وقوة الخواء، يا لها من رحلة عجيبة ما بين الأمل والرجاء، سطرت أو بلورت أو صورت فى عدة أفلام تسجيلية وروائية أنتجت وقدمت من أجلى، قابلنى مخرج موهوب منذ سنوات عديدة وعرض علىّ فكرة استرجاع ما مضى سابرًا أغوار تجربتى الحياتية والإبداعية مع المنافى والإبداع، واقفًا عند عتبات نصى الروائى الأثير.
«الحب فى المنفى» عنوان رواية من رواياتى، رأيت حصاد تجربتها الذاتية قبل كتابتها فى مخيلتى، كانت الفكرة ملحة قبل الكتابة وانكتبت الرواية فترة الثمانينيات، بالإضافة لأعمال أخرى «بالأمس حلمت بك»، «خالتى صفية والدير»، و«الخطوبة» أعمال روائية وقصصية أولية وفارقة فى رحلتى مع الإبداع، وتأتى صور المخرج الذى حدثنى: لتجيب عن بعض الأسئلة بداخلى، ومن خلال مشاهدات مئات أو آلاف الأصدقاء الذين شاهدوا هذا الفيلم تحديدًا صور المخرج خطواتى، ترجلى، خطوى، ترحالى فى جنيف وسويسرا، فجاءت الصور والسيرة جزلة وعميقة وموحية ولكنها ضبابية! فهل حياتى كانت ضبابية بالفعل أو هى فلاتر أو مرشحات المخرج صاحب الفيلم والرؤية واللغة البصرية، الوسيط المختلف الذى رصد ثمة خطى أو محطات فى حياة بهاء طاهر الإنسان، خمسون عامًا مع الإبداع أتذكرها الآن، وفى «مايو» ٢٠٠٨ ميلادية، وأستعيد أطياف السيرة، وأسأل نفسى: أى الأشكال الفنية أو الحقيقية الواقعية هى الأقرب إلى سيرتك الحقيقية يا بهاء؟ هل هى صورة المخرج فى فيلمه الروائى التسجيلى البديع الذى عرض عشرات المرات فى كل المحطات أو القنوات المصرية والعربية والدولية؟ هل هذه حقيقتك وأنت تمشى هائمًا على وجهك قرب محطة الباص فى «جنيف» تاركًا الأشجار العارية، والعمارات العالية والبشر المحدقين فى وجهك ببرود وغرابة وقد ارتسمت على ملامحهم شتى الانطباعات ما بين الحب والفتور والرغبة فى المراقبة عن بعد لحركات هذا الرجل الأسمر وقت ترجله، الآن أسأل نفسى من جديد: كيف نرى أنفسنا، كيف نرى صورتنا وملامحنا الحقيقية؟ هل هى فى الكتابة والرؤى أم عبر الوسائط صورة فى التليفزيون والسينما، أم عبر حكى الأصدقاء الحميميين عنك؟! أم عبر حكيك وسؤالك لنفسك عن جدوى ما حققت فى خطى ودروب ومحطات الحياة.
أنا الآن أقترب من سن ٧٠، وما زلت أبحث عن صورتى داخليًا فى نفسى وعيون وحفاوة الآخرين وكتاباتهم عنى بل ومصافحتهم لى، من يحب ومن يكره، ولكن أين بهاء الحقيقى؟ سؤال صعب وليس للتشاؤم دور فى طرح أو استنتاج الإجابات المناسبة أو اللائقة فى نهاية الرحلة أظننا كلنا كفنانين- مجازًا - كلنا ككتاب ومبدعين فى احتياج دائم لكل هذه الوسائط؛ لكى نرى أنفسنا! أنا فى حفل الأتيليه فى جنيف فى ندوة فى صورة إذاعية تليفزيونية تحمل لغة بصرية، أين أنا فى كل هذا ومتى يرسو الفتى؟ وكيف ستكون الخاتمة مع الحياة والإبداع؟ أسأل نفسى السؤال الأخير، وبعد كل هذه التفاصيل: هل كل منا قد رأى وحدد ملامحه بشكل حقيقى من خلال علاقته بنفسه، أم أن الآخرين والمحبين تحديدًا هم الأدق والأصدق فى رسم صورتنا الحقيقية؟ وهل هناك فارق بين حياتنا فى الإبداع والفن ورؤية الإبداع والفن فى رؤية الآخرين لحياتنا؟! أيهما أصدق، سؤال موجه للقارئ العزيز فإذا توصل لإجابة فعليه أن يهاتفنى، يجوز أن تتخلق أفكار أخرى عن الناس، ودلالات الأزمنة والمحطات الفارقة فى الحياة والأماكن.