بعد صدور روايته «تاج شمس»
هانى القط: لو جاءت الجائزة فأهلًا بها.. وإن لم تأتِ فلن ألعن الحظ
نجيب محفوظ كتب «الحرافيش» بعد إدراكه عيوب الرمزية فى «أولاد حارتنا»
أنا ابن الكُتَّابِ سمعت فيه القرآن فهزنى جَرْسُ لغته قبل أن أعرف معانيه
للحوار معه متعة خاصة، يكمن سرها فى أن حديثه لا يخلو من الفلسفة الجادة القريبة من الواقع، الفلسفة التى يفهمها الناس العاديون، فهو لا يجلس فوق كرسى عاجى ويلقى بالحكم الفوقية والنظريات، هو فقط يكتب ما يشعر به ويعيشه وما يحسه من أفراح وأحزان، هو الكاتب والروائى هانى القط.
مؤخرًا احتفل هانى القط بإصدار روايته الجديدة «تاج شمس»، عن دار بيت الحكمة للنشر والوسائط الثقافية، وهى عمل اعتمد فى بنائه الدرامى والسردى على الرمزية سواء على مستوى الأحداث أو الشخصيات، فى محاولة لمزج الواقع المعاش بالتراث المعرفى أو الدينى.
عن روايته الجديدة وعن طريقة بنائها وعن آبائه الروائيين ونظرته للنقد والفن والأدب بشكل عام، أجرت «حرف» معه الحوار التالى.
■ كم استغرق العمل على «تاج شمس» وكيف أتتك فكرتها؟
- سيبدو ما أقوله دربًا من الشطط لكن المتأمل فيه سيجد أنه الحقيقة التامة؛ إن كانت هناك حقيقة تامة لشىء، أى عمل إبداعى يستغرق عمر الكاتب السابق قبل خروج نصه، فتفاعلات كل نص هى تفاعلات حياة كاملة، يخرج النص من أحوالها وتراكيبها، من الحزن والفرح، من الانكسار والعزلة، من اليقين والشك، تخرج النصوص من تحولات أرواحنا، وصرخاتها، كل أفكار أعمالنا تخلق بداخلنا، وكأعضاء تتوالى لتشكل جسدًا، وعندما يكتمل يصرخ بداخلنا صرخة الميلاد، ولكى تكتمل حياتنا نتحمل عذابات تدوينه وعندما نخط فيه كلمة النهاية، يصبح غريبًا عنا لا نعرفه، ومن المهم أن نحدث قطيعة بيننا وبينه، كى نسمح لمَوْلود آخر بالخروج.
■ «تاج شمس» مليئة بالرموز والدلالات والتأويلات.. هل لهذه الأسطورة موقع محدد فى الزمان والمكان؟
- اعتقادى أن جزءًا من ملامسة التأويل فى رواية «تاج شمس» يعتمد على انفتاح القارئ نحو رحابة عنصرى الزمان والمكان، إن سؤال التحديد المباشر لهما يجرح تلك الحالة الغائمة التى تحتفى بالغموض والكشف، تلك من ضمن شفرات النص التى تخبئ فى طياتها قصدية التأويل، وكأنها رسالة من الماضى المتجذر إلى الحاضر الذى هو أوسع من الراهن المحدد، وبمباشرة تامة أريد هنا أن أؤكد أنه من بين رسائل النص أن نقع فى فخ ذلك السؤال الذى يحيل لدلالة ما؛ بدءًا من دلالة الاسم المفتوح على التأويلات المتعددة، وسياجات المكان الجغرافية، وزمنيته، بغرض الانتباه إلى وصية الماضى إلى الحاضر فى دوران دائرى يصل بالساعى إلى نفس النقطة وكأنه لا زمن يتحرك، ولا مكان يتغير.
■ ما هى مساحات الواقع فى تلك الرواية؟ وهل للمسارات المعيشية أو الحياتية أو الوجودية دور فى دفعك لكتابتها؟
- ربما كان سؤال الخذلان دافعًا أصيلًا لكتابة الرواية، خذلان الناس للمكان، وخذلان الواقع للحالمين، «تاج شمس» هى بالنسبة لى مساءلة للزمان والمكان، قبل أن تكون سؤالًا عن الوجود، إنها المرآة التى مهما هربنا من التمعن فى تفاصيل صورها الشائهة، فإن يومًا سيأتينا حتمًا نكون مجبرين فيه على أن نطيل التحديق فى تلك المرآة كى نرى أنفسنا من خلالها، وفى تلك اللحظة الكاشفة سنصرخ بالحقيقة: للأسف هؤلاء هم نحن! وحينها سندرك أن «تاج شمس» هى ذلك الفضاء الذى يجمعنا من المحيط إلى الخليج.
■ «عبدالجليل وخليل ونجاة ومختار والغفير رضوان ومرزوقة» كيف نفسر دلالات هذه الأسماء التى ترتبط ارتباطًا ما بالنص الدينى؟
- سؤال الاسم سؤال مراوغ، فهل يصنع الاسم دلالته ورمزيته المقصودة، أم أن الشخصية فى فضائها السردى هى التى تدفع إلى ذلك الشَرَك؟ أعتقد أن الرمز شرك، فالرمز المكتمل كثيرًا ما يرتدى لباسًا ساذجًا، يسجن النص فى قالب تأويلى ضيق جدًا، ويشير إلى نقيصة الهندسة التى هى أبعد ما تكون عن حيوية الفن الخلاق، وأعتقد أن ذلك ما دفع أستاذى نجيب محفوظ ليكتب «الحرافيش» بعد أن أدرك نقيصة الرمزية المصاغة بهندسية مفرطة فى رواية «أولاد حارتنا»؛ لذلك يمكن أن أقول إن الأسماء وتأويلات المقدس الدينى منفلتة من قبضة المباشرة إلى المراوغة المشكوك فيها، فالمتأمل للمسارت السردية التى تحوى الحكاية يمكن أن يجد فيها الكثير من المنعطفات التى تحيل إلى رمزية ما، لكنه وسريعًا ما يبتر السرد تلك الأفكارة الجاهزة ليعيد طرحها فى سياقات أخرى أكثر اتساعًا.
■ من يقرأ «تاج شمس» يخيل إليه أنها مرثية لزمن ضائع أو زمن انفلت ما بين الأحلام وأضغاثها.. ماذا وراء دلالات مصائر الشخوص فى الرواية؟
- المتمعن فى الزمن سيجد أنه توالٍ ممتد من اللحظات الضائعة، بسهولة يمكن أن ترى ذلك عبر تاريخنا الطويل، وكأن هناك قصدية أو عمى متوارثًا يجعلنا نغفل عن اقتناص الحلم أو السعى بسذاجة والعمل على انكساره، لذلك رسمت صيرورة الأشخاص وكأنهم يتوارثون مراثيهم، إلا أن بعضهم قاوموا وخطوا أقدارهم رغم التضحية بحياتهم مثل «خليل» الذى كان الصلب جزاءً لممانعته وسط خرس الناس الملطخة جباههم بمذلة الرضوخ المبرر بسذاجة السلامة.
■ نتأمل مثلًا الدلالة فى جملة «القمر محبوس خلف الغمام».. هل تعكس تلك الدلالات تماسًا مع الرؤى الذاتية للكاتب؟
- ربما يتجلى ذلك الترميز من خلال إعادة اكتشاف الموروث الشعبى، ليس فى خسوف القمر فقط بل فى الكثير من الأشياء الأخرى، ففى ثنايا المعاش دائمًا ما نجد أنماطًا من السلوك الدالة على طبيعة الشخصيات وأعراف المكان، أحيانًا ما يكون ذلك إضافة للنص، أما بالنسبة لرؤية الكاتب، فأعتقد أن كل كاتب ينطلق من رؤى ذاتية، تتسع وتضيق تبعًا لطبيعة النص، فما بين المعاش والمتخيل، تنسج ضفائر السرد، بما لا يخل بحقائق الحياة.
■ هناك الكثير من التفسيرات للنص الدينى ولمجازاته ولدلالاته.. ليتك تفسر للقارئ أو المتلقى سبب ولعك بتلك الحالة الصوفية الشاملة فى الرواية؟
- كتابة المغاير بالنسبة لكل كاتب هو الحلم الدائم الذى ما إن ينتهى حتى يتجدد، والمغاير لا يأتى إلا عبر نضوج الوعى، والنضوج لا يقتصر على فعل الكتابة، بل النضوج فى رؤيتنا الأشمل للحياة، والنضوج لا يتوقف ولا ينتهى عند مرحلة ما، أنا ابن الكُتَّابِ الذى علمنى الكتابة والقراءة قبل المدرسة، سمعت القرآن فهزنى جَرْسُ لغته قبل أن أعرف معانيه، كان نداءً عذبًا صافيًا انشقت السماء لتتلوه على، حفظت الآيات فى قلبى فدلتنى على سحر اللغة العربية وسرها، وها أنا ذا لا أزال هائمًا مع جمالها المتجدد، أما بالنسبة للحالة الصوفية فقد تزودت بشغفى عبر موالد الأولياء الذين كنت أزورهم، هناك كنت أرى فى عيون الدراويش دموعًا وكلامًا كثيرًا، فانفتح أمامى المعنى واتسعت الحقيقة، وهذا أجمل ما يمكن أن يلاقيه كاتب.
■ هناك تناص مع سير بعض الأنبياء حتى وإن جاءت بشكل خاطف وخاصة مع النبيين «يونس» و«موسى».. هل قصدت هذا التماس؟ وهل هو محاولة لإثراء الحياة الواقعية التى يحياها الشخوص؟
- ألا تتفق معى أن النص الجيد هو ذلك النص المنفتح على التأويلات غير النهائية، إن سجن النص فى تأويل أحادى هو شهادة وفاة له، أما التأويلات المتعددة والمتجددة فهى تلك التى تتفق وتختلف معها، بل والتراجع عن دلالات كنت تراها فى النص واستبدالها بدلالات أخرى هو عين النجاح للنص.
■ فى ظل حروب الهويات والتاريخ والجغرافيا.. كيف ترى أو تتنبأ بمستقبل كل الفنون والآداب؟
- أتصور أنه مهما طغت العولمة والحروب التى تحاول فرض حقائق جديدة، فإنه لا بد أن يأتى الفن والأدب ليقولا كَلِمَتَهُمَا التى أراها أبقى وأشد هيمنة من قوة السلاح، لا أحد يمكن أن يُقْتَادَ إلى هوية أخرى بالقوة، والذين يهربون من هويتهم يصبحون مسخًا، الهوية تتسرب تحت جلودنا، ولا يمكن محوها حتى ولو انتزع الجلد، أما بالنسبة لمستقبل الفنون وسط تقنيات العولمة وبالأخص قدرات الذكاء الاصطناعى المذهلة، فإننى أرى أن الإبداع البشرى سيظل فارقًا عن إنتاجات تلك الآلة مهما كان إتقانها، فالإبداع لصيق بالروح البشرية وأبعد ما يكون عن انضباط الآلة، التى لا تنتج إلا ماهو مكرر.
■ يقال إن حلم الروائى بالخلاص ينتهى مع انتهائه من كتابة نصه.. هل هناك مفهوم للخلاص يخصك ككاتب؟
- أعتقد أن الخلاص فرض حتمى عند الانتهاء من النص، عليك أن تقفل على أبطالك زنزانة النسيان الأبدية، اهرب بعيدًا ولا تستمع إلى صرخات ندائهم، لأنك إن أنصت لندائهم فإن أبْطَالها سيتلون عليك حكايتهم التى فرغت منها لتجد نفسك واقعًا فى فخ التكرار. المؤكد أن الهروب من أبطالك وقصصهم هو عين النجاة، ذلك الهروب هو ضرورة حتمية من ضرورات التعرف على آخرين وسبر غور خطاهم وحكاياتهم، وليس ذلك بالسهل بعد أن كنت قد توحدت مع أبطالك السابقين.
■ أين هانى القط من جوائز الدولة أو غيرها من جوائز الوطن العربى؟
- الجوائز مهمة بلا شك، مهمة فى الإضاءة على العمل، بالرغم من أنها ليست علامة للجودة أو للرداءة، فكل عمل يحصل على جائزة يسلط عليه الضوء، وهو سعى محمود وفوز للكاتب وللكتاب، لكنى أعتقد أن الحكم الأبقى على العمل، هو حكم الزمن، الزمن لا يحمل فى طياته مجاملة أو آفة يصاب بها البشر حين يحكمون، أنا رجل وحيد أكتب لأنى أحب الكتابة، ليست لى شلة أو مدافعون ولا أسعى لذلك، إن أتت الجائزة فأهلًا بها، وإن لم تأت فلن ألعن الحظ.
■ أىّ من الكتاب العرب أو فى العالم العربى كان له دور فى دفعك نحو الكتابة الإبداعية؟
- مع بدء تشكل الوعى تهمس فينا ذواتنا غير المدركة والمنبهة أننا غير الآخرين، لتأتى القراءة لنكتشف بها ذواتنا التى هى جسر يعبر بنا نحو الكتابة، يسحرنا فى الكلمة شىء مبهم، ويتجدد السحر طوال الطريق، لقد سحرتنى اللغة فى البدء، ثم سحرتنى الحكاية، ثم العمق فيما وراء الحكاية، والآن تسحرنى وجوه الناس، فى وجوههم حكايات لم تكتب، ولغة لم تدون، وها أنا أبحث فى وجوههم على ما أتمنى أن أجده.
■ من هو كاتبك المفضل؟
- أستاذى الذى أدين له بكل شىء هو نجيب محفوظ، بعد ذلك يمكن القول إن هناك الكثير من الكتاب الذين أفادونى وأقدر ما يكتبونه، مثل خوسيه ساراماجو خاصة فى قدرته على سبر غور الأشياء العادية التى ينظر لها بعين فيلسوف، وكيف يقيم عالمًا مبنيًا على فعل يبدو اعتياديًا، لنرى العالم عبره بعين مختلفة، وكذلك «ماركيز» وجملته المشدودة فى قصص كسهم مصوب نحو غزالة شاردة، تصطاد المفارقة والشاعرية المؤطرة والعالم الذى يمرر من ورائه الحكاية الممتعة وما تود الفلسفة أن تقوله، و«ياسونارى كواباتا» الذى يذيب روحه فى الكلمات التى يكتبها كى يكشف هشاشتنا أمام الجمال النائم.
وهناك عبدالرحمن منيف الذى حكى أثناء عبور مدن الملح حكاية القهر المتواصل، والطيب صالح الذى أزاح عنا فجاجة تصوراتنا الذكورية المسجونة فينا تجاه الآخر، وأقدر ما أحدثه الأستاذ الكبير يحيى حقى فى الترويض الجمالى للغة، كما أقدر التجربة المتفردة لـعبدالحكيم قاسم، وحساسية اللغة عند إبراهيم أصلان.
الحق أن بيتنا متخم بالكثير من الكتاب الملهمين وهؤلاء ما هم إلا ما استدعتهم ذاكرتى المثقوبة، وبالنسبة للأحياء فكثيرون أيضًا لكن نسيان شخص واحد منهم سيؤجج حربًا شعواء تجاهى، لذلك آثرت السلامة لأنى لا أملك دروعًا لمجابهة السهام الطائشة.
■كيف ترى المشهد النقدى المصرى والعربى انطلاقًا من تعامله مع نصوصك وتحديدًا مع عملك الأخير «تاج شمس»؟
- أستشعر أن تلك الرواية ستحظى بتقدير نقدى، أستشعر ذلك وها أنا أنتظر، تمامًا كما ينتظر أبطالى فى «تاج شمس»، الحق أننا جميعًا ننتظر ما لا يجىء.