فى صحبة محمود سعيد.. 100 لوحة لرائد فن التصوير الحديث فى الزمالك
- المعرض يضم أعمالًا متنوعة وفريدة لرواد الحركة التشكيلية المصرية
يختلف معرض «فى صحبة محمود سعيد»، الذى انطلقت فعالياته أمس الثلاثاء فى مجمع الفنون بالزمالك، عن غيره من المعارض الكثيرة التى أقيمت بهدف استعادة تراث الفنان السكندرى رائد فن التصوير الحديث.
أوجه الاختلاف تكمن فى أن «فى صحبة محمود سعيد» يمثل فى جوهره عرضًا تأريخيًا وبحثيًا لهذا الفنان، فى وقت مهم يتزايد فيه الاهتمام بالفن المصرى الحديث والمعاصر فى الأوساط الأكاديمية والمتحفية الدولية وفى كبريات المزادات العالمية، وهو ما دفع عددًا كبيرًا من الباحثين إلى دراسة الحركات الفنية فى مصر والكتابة عن أشهر الفنانين والرواد المصريين.
تنبع أهمية هذا التراث فى أن جمالياته متجددة ولا توجد إحاطة كاملة بها، وهو ما حفز كثيرين للبحث والتنقيب فيما تركه رائد الحركة التشكيلية ولدراسة كيف بدأت على يد جيل محمود سعيد الذى يعد الرعيل الأول للفن التشكيلى المصرى، والذى عمل فى مناخ ثقافى رائد وساحر فى بدايات القرن العشرين، وهى الفترة التى بدأت تتشكل خلالها الحركة التشكيلية المصرية متأثرة ومستفيدة من زخم التغيير الثقافى داخل المجتمع آنذاك، ومع بداية نهضة فكرية وفنية مصرية كانت أهم ثمار التفاعل بين الثقافة المصرية والثقافات الأوروبية فى ذلك الوقت.
وتتجلى قيمة «فى صحبة محمود سعيد» فى تأثيره الكبير فى رواد الحركة التشكيلية المصرية التى بدأت تظهر تزامنًا مع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة عام ١٩٠٨ على يد الأمير يوسف كمال، بفيلا فى درب الجماميز لتصبح أول منارة لتعليم وممارسة الفنون الجميلة.
وكان محمود سعيد بجانب محمود مختار ويوسف كامل وحبيب جورجى ومحمد ناجى وراغب عياد، أهم رواد هذه الحركة إذ بدأوا رسم ملامح الهوية الفنية المصرية، بالمزج بين تقاليد وتقنيات مدارس الفن الأوروبية وبين تقاليد وتراث مجتمعهم.
ويشكل المعرض بانوراما نوعية لمجموعة من الروائع الفنية النادرة، لذلك يعد أكثر من مجرد معرض فنى، لأنه يترجم الطبيعة الفنية لفترة مهمة من تاريخ مصر، ويسهم فى إعادة تقييم الإرث الإبداعى للرواد الأوائل، وشرح كيف جسدوا فكرة تبادل الثقافات على أرض الواقع بشكل أسهم فى رسم ملامح مشروع النهضة المصرية، كما أن تلك الأعمال تمثل سردًا دراميًا لتاريخ مصر الحديث من خلال أعمال الرواد الأوائل والجيلين الثانى والثالث من الفنانين التشكيليين الذين أسهموا فى وضع قواعد الفن المصرى الحديث.
وفيما تعرض الفعالية ٤٠ عملًا من روائع محمود سعيد، تعرض كذلك ولأول مرة ٧٥ عملًا لأصدقائه المبدعين، مثل إميليا كازوناتو التى لها بصمة بالغة الأثر فى بداية تشكيل الفن المصرى الحديث، وهى فنانة أكاديمية متمكنة اختارت مصر لتكون وطنًا ثانيًا لها لتمكث فيها ٤٠ عامًا وتؤسس أول مدرسة خاصة لتعليم الفن التشكيلى فى مصر.
ومن بينهم أيضًا الإيطالى المخضرم أورتورو زانييرى، الذى تبنى مشروع التصوير على غرار فطاحل عصر النهضة الإيطالية، وكان مرسمه ملجأ لأبناء الصفوة ممن يريدون تعلم الفن، فيجتمعون فيه يوم الأحد من كل أسبوع ويستقون منه أسرار وتعاليم فنون الرسم والتصوير.
ومنهم أيضًا جوزيبى سيباستى، الذى جاء من روما إلى الإسكندرية وهو فى سن ١٨ عامًا وأحدث فيها حراكًا ثقافيًا بالغ الأثر، وأسس مع صديقه محمد ناجى أتيليه القاهرة وكان الصديق الأقرب لمحمود سعيد، واشتركا معًا فى تأسيس متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية.
وكذلك روجيه بريڤال الفرنسى الذى اتخذ من مرسمه مقرًا يجتمع فيه فنانو «جماعة الخيال» بعد ذلك، فاجتمع فيه محمود سعيد ومحمود مختار وأحمد هدايت وأندريه قطاوى ومحمد ناجى، وغيرهم من الفنانين والكتاب فى مكان واحد يستمعون للموسيقى ويهيمون فى رحاب الكلمة، ويتناقشون فى تفاصيل الصورة البصرية المصرية الوليدة.
ومن هؤلاء الأصدقاء أرستيد باباجورج، اليونانى الأصل السكندرى المولد، الذى فتح لنفسه آفاق الحرية التى استلهمها من روح «ديلاكروا»، وأثرت على كثير من الفنانين الذين اقتربوا منه وتأثروا بأسلوبه بعد ذلك.
ولدينا أيضًا أرستومينيس أنجلوبلو اليونانى، الذى شارك بابا جورج وجوزيبى سيباستيانى فى وضع بذرة فن التصوير فى جاليريهات أتيليه الإسكندرية، وكان عضوًا مؤسسًا لجمعية الصداقة المصرية الفرنسية.
وكانت كليا بادارو، السويسرية المولودة بالقاهرة، واحدة منهم، وكانت تعمل وقت الحرب فى المستشفيات والمطاعم التى كان يرتادها الجنود العائدون من المعركة فسجلت جو الحانات والملاهى، وأعطت للنساء المصريات دور البطولة فى كثير من أعمالها.
أما لويس جوليان، الذى ولد بالإسكندرية ودرس الفن بفرنسا، فقد تتلمذ على يد بابا جورج، لينقل بدوره فن المنظر الطبيعى فى منطقة مغايرة عن السائد فى تلك الفترة.
ومن هؤلاء أيضًا شارل بويجلان الذى رافق روجيه بريفال فى التجوال فى شوارع القاهرة لينقلا بكل حب مناظر ومظاهر الحياة فى شوارع أحيائها الشعبية، وكان له تأثير أيضًا فى وضع حجر الأساس لعدد من التجمعات الفنية كونه كان سكرتيرًا لجمعية محبى الفنون الجميلة بالإسكندرية.
وكذلك إنريكو براندانى، الذى حذا حذوًا مختلفًا وأثر بشكل مغاير على من لحقه من فنانين أرادوا الذهاب إلى مناطق غرائبية فى التعبير، حيث تميزت أعماله بالخيال الجامح.
وكان بول ريتشارد، أحد هؤلاء الأصدقاء، وألقى محاضرات مع محمد ناجى وسليم حسن فى جمعية الصداقة المصرية الفرنسية بالإسكندرية، فانخرط فى المجتمع بفنه وبعمله العام.
ولدينا أيضًا كارلو سوارس، الأديب الفرنسى سكندرى المولد، الذى قرر أن تنتهى حياته ككاتب ويغيّر مسار إبداعه للفن التشكيلى، حيث كان يتجه المزاج العام آنذاك، لتقترب أعماله من المدرسة الرمزية فى منطقة بين التشكيل والأدب.
وكان جوزيف مزراحى، المصرى الوحيد بين مجموعة مولود فى المحلة الكبرى ١٨٩٥، وهو أول فنان مصرى يدرج اسمه فى موسوعة الفنانين العالميين «بينيزيت».
وشكّل كل هؤلاء وغيرهم باختلاف ثقافاتهم وأعراقهم وباقترابهم أيضًا من المبدعين المصريين الأوائل، ملامح الفن فى مصر آنذاك، ليمتد تأثيرهم بتتابع الأجيال إلى يومنا هذا، وأسهمت الطبيعة الكوزموبوليتانية لمصر، خاصة فى الإسكندرية فى هذه الفترة فى الدمج بين المصريين والأجانب بشكل صعب حتى التفريق بينهم فى العادات والتقاليد.