الجمعة 22 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أديب القضاة.. مذكرات المستشار بهاء المرى فى «المحاكم»

المستشار بهاء المرى
المستشار بهاء المرى

 

يعد المستشار بهاء المرى واحدًا من القضاة المعروفين بثقافته ولاباقته السردية على منصة محكمة الجنايات، وله من مقدمات النطق بالأحكام، الكثير من البلاغة فى السرد والإلقاء، منها الحكم على قاتل نيرة أشرف، هذه القضية التى تابعها الرأى العام بكل تفاصيها على مدار أسابيع وقت ارتكاب الجريمة.

يصدر للمستشار بهاء المرى، فى الأيام القليلة المقبلة، كتاب جديد باسم «يوميات قاضٍ.. حكايات من محاكم الجنايات» صادر عن دار الأهرام للإصدارات القانونية.

بدأ «المرى» فى مقدمة كتابه بتخليص وجيز عن أحداث ووقائع عاشها كقاضٍ، وسرد حكايات من الواقع لم يُخامرها خيال، حدثت بالفعل، ثم أتت بحلوها ومُرها وشخوصها لتستقر أمامه على منصات محاكم الجنايات فى عدد من بقاع مصر، من بين آلاف أوراق متكدسة لقَضايا متنوعة.

 يقول «المرى»: «هذه الحكايات نظرتها حينًا بعين إنسان يَرقب إنسانًا من خلال أحداث جسام وضعته لسبب أو لآخر فى براثن الاتهام، وحينًا آخر بعين قاضٍ يُطبق القانون بحرفية تطبيقه، ثم بعين الرحمة وإعمال مقتضاها فى أحيان أخرى، ودائمًا بعين القانون الزاجر متى كان المُجرم عاتيًا فى إجرامه، ولم أهدف من حكايتها إيضاح جُرم، أو ترويع مشاعر قارئ، ولا التهوين من فِعل إذا ما توافرت له مُوجبات استعمال الرأفة مع مُجرم هو فى النهاية إنسان».

وأضاف: «إنَّما كانت غايتى التأمل فى فِعال البَشَر، سواء ما فعلوه بأنفسهم أولًا، أم ما فعلوه بغيرهم وذويهم ثانيًا، جراء ما ألمَّ بهم، وأخيرًا فى مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وُصولًا إلى تَدبُّر يأخذ بأيدينا إلى الطريق الصَّواب، وتنبيه إلى أنَّ أشجار الشرِّ لا يَجنى زارعُها- أبدًا- إلَّا ثمار الندم، ثم إجمالًا دَق نواقيس الخطر».

وشمل الكتاب تقديمًا للأستاذ الدكتور السعيد الورقى، أستاذ الأدب الحديث والنقد، بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، قال فيها: «أحال المستشار بهاء المرى الواقع فنًّا مُستخدمًا صِيغًا سردية أكثر تطورًا فى الفهم والإحساس والتذوق عن حكْيه السابق، فقد اتسعَت الرؤية لتتجاوز حُدود سَرد الواقع كما هو إلى تحويل الواقع المسرود إلى واقع فَنِّى، مع الاحتفاظ بملامح وقائع الواقع المسرود، ساعَده فى هذا وغلَّبه مطاوعة أدوات السَّرد وحِرفية الصَّنعة لإحساس الكاتب، وقد أصبح أكثر تمرُّسًا بأدواته، وأكثر إحساسًا بلغته السَّردية وتملُّكه الأكثر قدرة لجماليات الأداء السَّردى، وأكثر وعيًا للمضمون المُختار وأبعاده الاجتماعية والأخلاقية والفكرية الفلسفية والنفسية، وعلاقة كل هذا بقضايا الواقع وقضايا الفرد وقضايا الإنسان والعلاقة الجدلية بينهما، كما أصبح الكاتب هنا أكثر قُدرة واحترافية مع إدارة مفردات البناء السَّردى والبناء داخل بنية تَعدُّد الضمائر، والسَّرد داخل السَّرد، وحُسن استخدام «تِكنيك» الوعى بأكثر من مستوى أدائى. وأضاف أن «حكايات من محاكم الجنايات»، أو عندما يُعيد الفنان حَكْى الواقع سَرد قَصصى فنِّى مُبدع، فيه الواقع، وفيه الحياة وفيه الفن، استمتعتُ بقراءته، ولا شك فى أنَّ القارئ سَيجد فيه فنًّا سرديًّا جميلًا، وسيجد فيه مُتعة الإفادة ومُتعة الإحساس وسِحر الحكْى.

ثلاثون قصة قصيرة 

تحتوى مجموعة «يوميات قاضٍ.. حكايات من محاكم الجنايات» للمستشار بهاء المرى على ثلاثين قصة قصيرة، ما يشير إلى اكتناز واضح وتكثيف شديد، وقد نهضت هذه المجموعة القصصية بتكريس حضور سمات الأدب القضائى، الذى يعد المستشار بهاء المرى من أشهر كُتابه فى اللحظة الراهنة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق.


ومن هنا، فإن القارئ سيجد فى هذه القصص ثلاثين قضية مختلفة، هذه القضايا منتزعة مما حدث فى الواقع المصرى المعاصر، وكان المستشار بهاء المرى شاهدًا عليها نظرًا لطبيعة عمله قاضيًا.


والملاحظ أن هذه القصص القصيرة المنتزعة من الواقع شديدة الإدهاش للقارئ، لدرجة يظن القارئ معها استحالة حدوث بعضها، بسبب غرابتها الشديدة، وحالة اللدد فى الخصومة، وهنا تظهر مقولة «الواقع أغرب من الخيال» بوضوح شديد.


ولذا فإن المكان المهيمن على هذه المجموعة هو ساحة المحكمة، ما تمثله من ملامح خاصة، فهى مكان له جدران عالية، لا يمتلكه شخص معين، وإنما هو ملك للدولة، يرتبط بفكرة العدالة، وتوقيع العقاب على المجرمين، ومنح البراءة للأبرياء، وينماز بهيبة شديدة وقدسية خاصة، ومثل هذا المكان يجذب بطبيعة الحال سياقات سردية تناسبه، على نحو ما نجد من حضور واضح لشخصيات لها ارتباط به مثل: القضاة والمستشارين والمتهمين وذويهم والمحامين، وغيرهم، ويفرض احترامًا معينًا على الموجودين فيه، من خلال التزام الآداب العامة فى القول والفعل.


وعلى الرغم من أن المحكمة هى المكان المحورى فى هذه المجموعة، فإن الأماكن الأخرى حققت حضورًا قويًّا من خلال عملية الارتداد لإلقاء الضوء على مكان حدوث الجريمة، وما يتسم به من ملامح.


وقد ظهرت الجريمة بملامح متنوعة فى هذه المجموعة «يوميات قاضٍ» للمستشار بهاء المرى، ولكن تغلب عليها جرائم القتل البشع؛ لأسباب مختلفة، يراها القارئ واهية، لا تستحق هذا القتل المدوى، وأشد شطحات الخيال غرابة تقف عاجزة أمام غرابة ما حدث فى بعض القصص.


فقد كانت هذه المجموعة القصصية مَعرضًا حافلًا لجرائم من محكمة الجنايات تشيب الرءوس من هولها، وهى تميط اللثام عن صورة من الواقع الذى ربما لا يدور بخلد أشد المتشائمين فى نظرتهم للحياة، وقد استطاعت ريشة المستشار بهاء المرى أن تأخذنا إلى عالم هذه القصص-القضايا- بحرفية الفنان، من خلال تقنيات سردية جعلتنا فى قلب أحداثها.


ولا شك أن القارئ بعد قراءته هذه المجموعة لن يكون بتاتًا هو القارئ قبل قراءته لها؛ لأنه سيعود من قراءتها وهو أكثر حكمة وأشد رزانة، ولكنه أبدًا لن يفارقه حزن على ما أبصرته عيناه فى عالم هذه المجموعة.
 

علي هامش قصاص

سرد «المرى» ضمن يومياته إحدى القضايا التى عنونها «على هامِش قصاص»، وصف فيها الزوجة المتهمة بأنها وجدَت فى قريب زوجها ضالَّتها، الأنيس والجليس فى أجواءٍ أوشكَتْ فيها عُرَى الزوجية على الانفصام، فالظروفُ مُهيأة لاستمرار العلاقة الآثمة، زوجٌ يَقضِى يَومَهُ خارج بَيتهِ سَعيًا على قُوتِه وقُوت أولاده، وزوجة غَيَّبت نفسها عنه، ونَسَجَت لنفسها الأعذار، وعَشيقٌ عاطلٌ بلا عَمَل.


تَنمُو سَريعًا مَشاعر الخيانة، تترعرع ويَصير البَيتُ فى غياب صاحِبه مَرتعًا للرذيلة، لم يَقنَعا بما تَحقَّق، فقد كان الزَّوجُ عَقبةً كَئودًا فى طريقهما، ولا بُدَّ من قَتلِه، شهرٌ كاملٌ يُفكِّران: نقتُلهُ بالسُّم؟ لا؛ إنَّ السُّمَّ سَيتركُ أثرًا، يَصدمه العَشيقُ بسيارة؟ لا، لا؛ قد يَراه الناس فى الطريق، وهم يعلمون أنه من أقاربه، ففى لحظةٍ وهى تُشاهد التلفاز تَنفرج أسارير وجهها، تَبتسم ابتسامة مُنتصر، تمسك بهاتفها النقال، تَستدعيه فورًا للحضور، يأتى على عَجَلٍ، قالت: وجَدتُها: «فوطةٌ مُبلَّلة» كما رأيتُ فى فيلم «ريَّا وسكينة».


تَرُوقُ للعَشيق الفكرة، تَحِين منه ابتسامة ونَظرة خَبيثة، يَسألها متى سَيعُود، تَفهم المَغزَى، تَبتسِم بمثل الخُبث نفسه، تُغادره دون إجابة، تَعُودُ بعد دقائق كعروسٍ ليلةَ زفافها، يَهُبُّ واقفًا فاتحًا أحضانه يُطوِّقها بذراعيه، يُمارسانِ الرَّذيلة حتى يَعود الزوج.


يدُقُّ الضَّحية جرس الباب، يهرع العَشيق إلى دولاب الملابس فى غرفة النوم، تفتح الباب وهى بكامل زينتها السابقة، يَفرُك الزوج عينيه، يسألها مُستغربًا مُتهكمًا: مَن أنتِ؟ تضحك بخُبث، تُداعبه، تُلاطفه، يَشتهيها كزوجة، يقضى منها وطَرًا، يَغلبه النُّعاس، تَستدعى العَشيق من الدولاب- كالخطة المرسومة- عَبْر «رَنَّة» على هاتفه النقَّال، يخرج بالفوطة المُبلَّلة، يَعتليانِ السرير، يُجهزان على الزوج، يُقاوم، تُمسِك بخِصيَتيه بقوة، تَشِل حركته، يَكتُمان بالفوطة المبلَّلة أنفاسه، تَصعَد الروح إلى بارئها.


يلتقطان أنفاسهما، تَنظر فى عينيه، يُبادلها النظرة الماكرة، تُطوِّقه بذراعيها، تَتحرَّك رغبتهما من جديد، يُغادران إلى حُجرة أخرى، يَمارسانِ الرذيلة قبل أن ينصرف.


يَشيعُ النبأ فى الصباح، تبذُل الشرطة جهودها، يَعترفان فى تحقيقات النيابة العامة، يُحالان للمحاكمة، يَحتل المُحامون الصفوف الثلاثة الأُولى، تشغل باقى الصفوف بالأهالى والصِّحفيين، تلتصق أجساد الحُضور بعضها بعضًا، تُخيِّم على الأجواء حرارة الأنفاس، يُخفِّف الحاجب حِدتها بتشغيل مَراوح السقف فى عِزّ الشتاء.


ينتصبان فى قفص الاتهام، يَسألهما القاضى؛ فيعترفان، قتلناه لنَتزوج، تبدأ الإجراءات، يَنبرى أحد المحامين الكبار للدفاع عنهما، يَطلب منه القاضى المرافعة، يَتَملمَل، يَستأجل للاستعداد، يرفض القاضى الأجل: «المتهمان مُعترفان، ناقِش اعترافهما يا أستاذ» يرفض، يَسُوق حِججًا أخرى، يرفض القاضى الحِجج، يدفع المحامى بجنون العَشيقَين، يُثبَت الدَّفع فى محضر الجلسة، ويُصر القاضى على المرافعة.


يَستشعر الحاضرون مَغزَى ما يَحدث، تَسرى فى القاعة هَمهمة رافضة، تَنبعث أصوات مَكتومة تُعرب عن ضَجَر، يَدُق القاضى المنصة بمؤخرة قلمه الرصاص، يَعود الصَّمتُ إلى القاعة.


يَصمُت المحامى، ينظر إليه القاضى مُحدِّقًا للحظات، تمرُّ اللحظات رتيبة، أعين الناس مُصوَّبة كالشَّرر إلى الأستاذ، يبدو الحنق على الوجوه، القاضى يُكرِّر الطلب، يَتفتق ذهن الأستاذ عن حيلة جديدة: ضَم حرز الملابس الداخلية للمتهمة، يُبدِّد القاضى مَأربه، يُثبت فى محضر الجلسة طرْحه للحرز كدليل ثبوت، يَحتدُّ المحامى، يُهدِّئهُ القاضى، يُعيد تَوجيهه إلى الموضوعية، يُصمِّم المحامى على المراوغة، تعود الهمهمة، تنقلبُ إلى زَمجرة مكتومة، يَدُق القاضى فى هذه المرَّة على المنصة بيده، يعود الصمت، لا يَمتثل المحامى، يُجادل من جديد، يَرفع القاضى الجلسة، يدخل القضاة غرفة المداولة، يَتبعهم أمين السِّر، يُبلغهم أنَّ الأستاذ طريح الأرض، يَضربه الأهالى!
 

حكاية بعنوان «هوس»

حكاية أخرى سردها المستشار «المرى»، عن جماعة الإخوان الإرهابية، وكيف أنهم مبرمجون على الهتاف ضد النظام، سواء قضاياهم حكم عليهم فيها بأحكام، أو براءات.


وصف المرى هذه المحاكمة بـ«حِراساتٌ مُشدَّدة»، وزحامٌ فى القاعة والقفص، كانوا خمسةَ عشر مُتهمًا، والتهمة: انضمامٌ إلى جماعة إرهابية واستخدام العُنف، أعطوا ظُهورَهم للمَحكمة، راحوا يتفاكهون عامدين ليُحدثوا جَلبة، أسكتهم تحذير القاضى لهم، بأن يسكتوا وإلا أخرَجهم من القاعة.


عددٌ يُجاوز العشرين من جَهابذة المُحامين، مُرافعاتٌ ساخنة امتدت لعدة ساعات، رَفَعَ القاضى بعدها الجلسة، عدَّة ساعاتٍ أخرى وانتهت المداولة، وخَلت الأوراقُ من دليلٍ إلا من التحريات، وهى وحدها لا تصلح دليلًا إلا إذا عَضَّدت أدلة أخرى، وجَهَّزَ الحاجب القاعة للنُّطق بالأحكام، لحظات وصاح: محكمة، نَطَقَ القاضى: براءة، وهلَّلوا، وكبروا، وأخذوا يرددون ضد النظام.
 

حتي لا يناله أحد

فى حديث تليفونى أجريته مع المستشار المرى، وأنا أجهز لهذا التقرير عن الكتاب، حدثته عن أبرز القضايا التى يراها الأكثر بشاعة، لكنه قال كل الحكايات لها قصة وحكاية لو دخلت فى المجال الدرامى لم يأت فى خاطر المؤلف ما تم ارتكابه من أحداث، لكنه أشار إلى هذه القضية التى عنونها «حتى لا يناله أحد» والمتهمة فيها أم بقتل ابنها لأنها كانت مَجنونةٌ بهِ، هو كلُّ شَىءٍ فى حياتها، حتى بعد أن تَخرج فى الجامعةِ، والتحقَ بوظيفة منذ ثمانى سنوات، وكأنه لا يَزال ابن العام الواحد حين ماتَ والده منذ ثلاثين عامًا، تُرافقه فى ذَهابه وإيابه، تنتظره أمام محل عَملِه، تخرج معه حتى فى لقاءاتِ أصدقائه، لا تنام إلا وهو فى حضنها.


قال «المرى» أبت على نفسها إلا أن تهبها إياه، رفضت الزواج ممن تقدموا لها من أزواج أرامل أو مطلقين، واصلت الكفاح ليل نهار حتى جعلت منه هذا المهندس الناجح، وتَحرَّكت مَشاعره نحو إحدى زميلاته، حدَّثها فى أمر زواجه منها، لم تَهتم، بَحَث عن غيرها، فلم تُوافقه، فوَّضَها فى أن تختارَ له، فما اكترثت، أعادَ عليها الطَلَب، أمْهَلَتهُ دون رَد، ألمَحَ إلى إحدى قريباتها، قالت: إنها لا تُحبها، يَسألها: لماذا ترفض؟ تقول: ماذا يَنقصك؟ حاولَ إفهامها، فأغلقَتْ عينيها، وصَمَّت أذنيها، ونَحَّت عَقلها.


لم يجد بُدًّا من المُواجهة: أُمَّاه قرَّرتُ الزواج، ولا أجد مُسوِّغًا لرفضِك، ولا أريد فِعل شىء إلا وأنتِ راضية، تزَمْجرَتْ، كادت تفقد عَقلها، التزمَت الصَّمت، وأخذت تتحاشاه حتى لا يُحدِّثها، فعاد ليَطرح الأمر مَرات ومَرات، قالت: لن يَحدُث ما دُمتُ حَيَّة، لن تأخذكَ مِنِّى واحدة، يُطمئنها، تَصُمُّ أذنيها. 


يَنصحهُ أحدهم بأن يُفاجئها، لن يُجدى معها إلا سياسة الأمر الواقع والمباغتة، أُمَّاه خَطَبتُ زميلتى ولَسَوفَ تُعجبك، تُغادره قبل أن يُكمل، تُغلق عليها حُجرتها، وتُقاطعه عدة أيام، وحاول مِرارًا أن يَسترضيها فلم تُعطهِ فرصة، طمأنهُ أحدهم إلى أنها الغَيرة المُفرطةُ عليه، وسوف تتأقلم مع الوضع الجديد رُويدًا رُويدًا.


يبدأ الشاب فى تَجهيز شَقَّته، يُبلغها لعلَّها تَرجع، تتَّسع عيناها إلى حَدِّ الجُحُوظ، تَقومُ من أمامهِ إلى غُرفتها، تَسيرُ وكأنها مُتخشِّبة، خَاف من نَظراتها، أوَى إلى حُجرته يدعو ربَّه أن يَهدى حالها. 


جَنَّ الليلُ- فى هذا اليوم- جُنونه، تَزَيَّنت، ارتدت ملابسَ فاضحة، اقتحمَت عليه حُجرته، فاجَأته: سأُعطيكَ ما تَبحث عنهُ، خذهُ الآن فورًا، سأمنحكَ إياه كل ليلة، بل كلما تريد.


لم يُصدِّق الابنُ عينيه، يُكذبُ سَمْعَه، ينهض من سَريره مذعورًا، تتسع عيناه، يُحدثُ نفسه: يا إلهى، إنها لوثة عقلية، يُحاول تهدئتها، تحتضنه، تنهالُ عليه تقبيلًا، يدفَعها، تَقترب، يَتملَّص منها، تُحكِم عليه قبضتها، تُوالى ما تَفعَل، تَستمر، تَنهار مُقاومته، يَضعف، يصيران كزوجين.
شَهران.. ثلاثة.. يُعود إلى رُشده، يَشعر بندم فادح، يكرَه نفسه، يَرفض العلاقة، تُصمِّم، يَمتنع، تُصِرُّ، قال: لن أعودَ ولو كان الجزاء قَتلِى.. سأتزوج.


تتركه، تقف مُتصلِّبة، تَسيرُ ببطء إلى غرفتها، تجلس على حافَّة السَّرير بمَلابسها الداخلية، ينبلج الصباح، تتوجَّه إلى حَظيرة الماشية، تفتح علبة سُمِّ آفات القطن «لانيت»، تأخذ منها مِلعقة، تضع الملعقة فى كوب اللبن، تُعِدُّ له الإفطار كالمعتاد، تُقدِّم له اللبن، يُنقل إلى المُستشفى، تَصعد الروح إلى بارئها، يُقبَض عليها، تعترف، تحال إلى المحاكمة، يسألها القاضى: لماذا؟!، تقول: حتى لا يَناله أحد!


C.V
المستشار بهاء المرى 

تَخرَّج فى كلية الحقوق جامعة الإسكندرية فى العام ١٩٨٤م، وهو عُضو اتحاد كُتَّاب مصر، ونادى القصة بالقاهرة، عمِلَ وكيلًا للنائب العام فى أريافِ مصر فى منتصف الثمانينيات؛ معاونًا للنيابة العامة فى نيابة منوف، ثم مديرًا لها حتى عمل فى القضاء، ثم قاضيًا بمحكمة الإسكندرية الابتدائية، فرئيسًا لنيابة الدخيلة وغرب الإسكندرية الكلية، وكفر الشيخ الكلية، ثم مستشارًا، فرئيسًا فى محاكم جنايات: بنى سويف- طنطا- العريش- الإسكندرية - الإسكندرية الاقتصادية- بورسعيد الاقتصادية- كفر الشيخ- والمنصورة، وانتدب لتدريس التدريبات العملية بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية ٢٠٠٥ - ٢٠١٩.