الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صـدمـات سميح القاسم.. الإزعاج من القبر

سميح القاسم
سميح القاسم

- آمل أن يأتينى الموت وأنا مُستحمٍ ومرتدٍ ملابس جميلة وفى كامل أناقتى

- أنا الفلسطينى الوحيد الذى دخل إيران بجواز سفر إسرائيلى

- لم نشهد إجماعًا عربيًا بعد النبى إلا على جمال عبدالناصر

- أقول لمن يريد ذبح اليهود باسم العروبة: «حل عن ظهر العروبة»

- أفنيت عمرى فى خدمة القصيدة.. وأكتب لنفسى كى لا أجن أو أنتحر

- الخلافة العثمانية لم تكن إسلامية.. واستغلت الدين للهيمنة على العرب

- ما المانع أن يكتب شاعر المقاومة مشهدًا جنسيًا مع يهودية أو عربية؟

- الشاعر ينبغى أن يسلم نفسه للقصيدة كما يُسلم الراهب نفسه لله 

بعد أقل من 6 أشهر على وفاة الشاعر الفلسطينى الكبير سميح القاسم، فى 19 أغسطس 2014، صدر  كتاب «سميح القاسم فى ظل الغياب»، من إعداد الدكتور يحيى زكريا الأغا، الذى ضم أغلب ما قيل عن «القاسم» من رثاء، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعى، أو المقالات التى نعته مرددة مآثره.

ضم الكتاب أيضًا حوارًا مطولًا مع «القاسم»، نُشر بمجلة «الكرمل الجديد»، فى مارس 2012، أجراه معه مواطنه علاء حليحل، الذى التقى الشاعر الكبير لمدة 7 ساعات كاملة، فى منزله الواقع بقرية «الرامة»، إحدى قرى الجليل الأعلى فى فلسطين المحتلة.

«حرف» تأخذكم فى رحلة إلى هذا الحوار الشيق الملىء بالصدمات والتصريحات المثيرة للجدل، من رجل لم يخش أن يقول: «القصيدة لدىّ أهم من الوطن»، وأن يسخر من الموت ويواجهه بشجاعة «طز فى الموت».

آمل أن يأتينى الموت وأنا مُستحمٍ ومرتدٍ ملابس جميلة وفى كامل أناقتى

استهل سميح القاسم حواره مع «حليحل» بحديث عن الموت، وما «يطلبه» منه، مخاطبًا إياه بقوله: «لا أطلب سوى أن يمهلنى كى أنهى بعض الأمور العالقة. أريد أن أزوّج ياسر (ابنه الصغير)، وأن أصدر عدة كتب أخرى أعمل عليها، ومن الممكن أن أكتب (شغلة) أخرى، ممكن. لكنه إذا جاء (طز عليه)».

وأضاف «القاسم»: «آمل أن يكون الموت مرتبًا. يعنى أن تكون طاولتى وأوراقى مرتبة، أن تكون الكتب التى أرغب بطبعها فى المطبعة، ألا أكون مَدينًا، أن يكون أولادى مرتبين فى أعمالهم وحياتهم، أن يكون بيتى مرتبًا. وليأتِ الموت وأنا مُستحم ومرتد ملابس جميلة ومرتبة. أنا أحب الأناقة حتى فى الموت. أحبه أن يكون أنيقًا ونظيفًا وجميلًا ومرتبًا».

ولم تكن «طز على الموت» الصدمة الوحيدة للشاعر الفلسطينى الكبير فى هذا الحوار، فقد أطلق فيه العديد من التصريحات المثيرة للجدل، خاصة فيما يتعلق بسيرته الذاتية التى كان قد أصدرها قبل عام من هذا اللقاء، تحديدًا فى ٢٠١١، وحملت عنوان: «إنها مجرد منفضة».

حول أصعب المناطق فى هذه السيرة، سأله «حليحل»: هناك مكان واحد فى السيرة أحسست حقيقة أنك كنت مرعوبًا فيه. كتبت أنك بقيت طوال الليل ترتعد من الخوف، عندما استقلت من رئاسة تحرير (الاتحاد)، وتساءلت كيف سأطعم الأولاد؟

رد «القاسم»: «لا، الصحيح أننى لم أستقل. كانت تلك حادثة وتصرفًا سيئًا من بعض القياديين فى الحزب الشيوعى الإسرائيلى، ليس جميعهم طبعًا. كتبت أنه عندما عرض علىّ توفيق وجورج طوبى أن أشتغل فى صحافة الحزب قلت لهما إننى لست حزبيًا، قالا أنت ستكون أول (لا حزبى) يُستغَل فى صحافتنا، وليس شرطًا أن تكون حزبيًا».

وأضاف: «عندما وقعت الخلافات بعد مؤتمر جورباتشوف فى موسكو، دعا قرابة ٨٠٠ شخص من العالم، وبالصدفة وصلتنى دعوة شخصية باسمى الشخصى موقعة من جورباتشوف نفسه. كان محمود درويش فى المؤتمر أيضًا. دعا فنانين وكتابًا وسياسيين ورجال دين لمؤتمر من أسبوع، للتشاور فى مصير الاتحاد السوفيتى».

وواصل: «عندما تساءلوا فى الحزب: (لماذا أنا؟)، قلت لهم هذه دعوة شخصية لى كشاعر. ناقشوا جورباتشوف أنا لا علاقة لى بالموضوع. بعدما عدت رفضوا أن أكتب عن مشاركتى، أو عن قضية البروستريكا. قلت لهم: العالم يتغير، يوجد زلزال، يجب أن نعطى إجابات للناس والشارع وجمهورنا. قسم أيدنى وقسم عارضنى. سألتهم: ماذا تريدون منى؟ قالوا: نريدك أن تمشى كما نريد نحن، فقلت لهم: لا، أنا أمشى كما أريد أنا. واستقلت».

وأكمل: «بعد الاستقالة أوقفوا عملى فى (الجديد)، قلت لهم: يا رفاق ما الذى تفعلونه أنا لا أملك مصدر دخل غير عملى؟ لدىّ أطفال فى البيت، كيف تفعلون ذلك؟، قالوا: هكذا القرار. وفعلًا كنت أحيانًا أستيقظ فى الليل عرقان، كيف سأطعم الأولاد؟ كانت لدىّ سيارة فبعتها، واشتريت سيارة أخرى بنصف سعرها كى أصرف على الأولاد. وبدأت العمل فى الترجمات، فترجمت كتب جغرافيا وغيرها، وعملت فى مجلات بسيطة».

وتابع: «أنا أقول دائمًا إن المبادئ ليست ربطات عنق وقمصانًا نبدلها على راحتنا. إما أن يكون مبدأ وإما ألا يكون. حتى لو أساء لى فلان أو علان من المكتب السياسى، فإن هذا لا يغير موقفى من تاريخ الحزب بخيره وبشره، بسلبه وإيجابه. لا أتبرأ من هذا التاريخ ولا أخون ذاكرتى ولا أخون العشرة بالتعبير البسيط. أنا قلتها وأكررها، رغم أن زوجتى وأولادى لم يعجبهم هذا الحديث من قبل، لكن أهم شىء فى الدنيا لدىّ قصيدتى، أهم من صحتى ومن أسرتى ومن الوطن، قصيدتى عندى أهم من الوطن».

وعندما يراجعه محاوره «حليحل» بأن «هذا تصريح خطير»، كرر سميح القاسم ما قاله، مشددًا: «لا لا لا، ليس خطيرًا أبدًا. قصيدتى بالنسبة لى أهم شىء فى الدنيا، إذا قلت غير هذا الكلام سأكون دجالًا ومهرجًا على شاكلة (أنا أكتب من أجل الشعب ومن أجل الوطن)، هذا كلام فارغ، أنا أكتب بالدرجة الأولى من أجلى، من أجل سيكولوجيتى، من أجل أن أحافظ على عقلى وتوازنى. أكتب كى لا أجن وكى لا أنتحر».

وأضاف: «أنا لا أحب جُملًا مثل (أفنى عمره فى خدمة الشعب والوطن). أنا أفنيت عمرى فى خدمة القصيدة، ويبدو أن هذه القصيدة مهمة للشعب وللوطن. لكن القصيدة أولًا. من دون هذا، أشك فى أن ينجح أديب أو شاعر أو فنان إذا لم يكن يملك ما أسميه أنا (شيئًا من الرهبنة). الراهب أو الراهبة يسلمان نفسيهما لله، الشاعر يجب أن يسلم نفسه للقصيدة».

عاد «حليحل» ليسأل «القاسم» من جديد: هل تعرف مدى الاختلاف بين حديثك هذا كشاعر، والصورة التى تحف شاعر المقاومة بالشعارات والكلام الكبير. أن تقول إن «قصيدتك أهم من وطنك» فهذه المقولة بالغة الأهمية؟

أجاب «القاسم»: «لا تؤاخذنى، الشاعر الذى لا يتعامل مع قصيدته على أنها أهم شىء فى الكون أشك فى صدقه بصراحة. من يقول لى الوطن أهم من قصيدتى أقول له بارك الله بك، لكننى لا أصدق ذلك. وهذا قد يُساء فهمه، لكنه قد يُفهم أيضًا. قد يُساء فهمه باعتباره نوعًا من الأنانية أو الغرور. لكن أبدًا، أقولها بمنتهى التواضع والصدق والعفوية. ولدىّ إضافة: لو لم أكن هكذا لم يكن الجمهور ليحتضن قصيدتى، ولن يحبها».

وأضاف: أعتقد أن سر العلاقة الاستثنائية يكمن فى هذا الإحساس: القصيدة أولًا، القصيدة أولًا. الوطن هناك من يقاتل من أجله ويحرره، والأسرة تعمل وتعيش. لكن القصيدة كائن خاص جدًا جدًا، وإذا لم تتعامل معه بهذا التكرس وهذه الرهبنة الكاملة والمطلقة، فإنك تخونها وتخون نفسك فى ذات الوقت».

أنا الفلسطينى الوحيد الذى دخل إيران بجواز سفر إسرائيلى

ينتمى سميح القاسم إلى عائلة من «الموحدين الدروز»، وهو ما تطرق إليه محاوره، الذى سأل عن الأسباب التى أبعدت أبناء الطائفة العربية الدرزية عن المجتمع العربى، على عكس ما كان قبل ٨٠٠ سنة، وقتما كان لهم دور مركزى آنذاك.

أجاب «القاسم»: «طبعًا. لم تكن الحساسيات الحالية قائمة. كان طبيب الخليفة يهوديًا، ووزير ماليته مسيحيًا، وكاتبه الأول بوذيًا. لكن هذا انتهى منذ نهايات القرن الرابع عشر، منذ مأساة ابن رشد كما أسميها. مأساتنا بدأت بالتنكر لابن رشد، ووقوعنا فى أسر نظريات تبدو دينية لكنها قومية».

وبمزيد من الشرح أضاف: «تجد من يدافع عن الإمبراطورية العثمانية التى حكمتنا باعتبارها خلافة إسلامية. لا. أدرسها فى العمق وستجد أنها إمبراطورية تركية استغلت الدين حتى تفرض هيمنتها على الأمة العربية. الأتراك أقل حضارة وتاريخًا من العرب، فكيف سيطروا علينا؟ باسم الدين. هذا ما أخشى أنه يتكرر الآن».

وأضاف: «الفرس لديهم مشروع قومى فارسى، ويعتبرون العراق والخليج كله جزءًا من فارس. يوجد مشروع فارسى قومى، وأنا قد أكون الوحيد من بلادنا الذى ذهب إلى إيران بدعوة رسمية وبجواز سفر إسرائيلى. أكيد الوحيد، لم يذهب أحد غيرى. لا قبلى ولا بعدى».

وواصل: «بعد الثورة الخمينية فى إيران، كان خاتمى وزير الثقافة وقتها، دعانى فذهبت. كان أمرًا مدهشًا حقًا وجودى فى إيران، وردود أفعال الطلاب والجامعات كان عرسًا. لكننى أحسست فى لقاءاتى مع المثقفين الكبار أن المشروع هنا ليس دينيًا».

وأكمل: «إيران لا تريد أن تُشيّع العرب (تجعلهم شيعة). إيران لا تستطيع تشييع ٣٤٠ مليون سنى، هذا جنون. فالمشروع هو تجديد الإمبراطورية الفارسية، مشروع قومى. وأنا أقولها دائمًا: بعد أن استعبدنا الأتراك قرابة ٥٠٠ سنة باسم الخلافة، قد يأتى الفرس لاستعبادنا ٥٠٠ سنة أخرى باسم الخلافة».

وتابع: «لكننى قلتها مرة: أتريدون خلافة؟. أنا موافق، لكن أنا سأكون الخليفة. حدث هذا فى لقاء صحفى مع (الشرق الأوسط) على ما أذكر، فسألونى: وإذا لم تكن أنت الخليفة، فقل: جورج حبش، كان الحكيم لا يزال على قيد الحياة».

هذه تجريتى مع التجنيد الإلزامى فى جيش الاحتلال

عن تجربته فى التجنيد الإلزامى بجيش الاحتلال الإسرائيلى، التى سجلها فى سيرته «إنها مجرد منفضة»، قال سميح القاسم: «لكل حادثة منطق. أنا تبيّن لى منذ البداية فى قضية التجنيد الإجبارى أنها قضية سياسية».

وأضاف «القاسم»: «لدىّ مكاتبات بينى وبين الكلب بن جوريون. أحسست بأنها قضية سياسية، وأنا شاب صغير عمرى ١٨ سنة. فبن جوريون قال عام ١٩٥٤ إننا سنجند كل العرب، وذهب آلاف الشبان العرب إلى مكاتب التجنيد. لكن الأشخاص الذين من حول بن جوريون خافوا أن يتحول العرب بأنفسهم إلى جيش».

وواصل: «عندها قرروا عدم تجنيد كل العرب، وضرب عصفورين بحجر واحد، من خلال تجنيد الطوائف الصغيرة، الدروز والشركس والكاثوليك والبدو. هذه قضية سياسية معروفة سلفًا، والهدف منها تمزيق شعبى».

وأكمل: «فى ظل هذه السياسة الخطيرة جدًا أحسست بمسئولية كبيرة جدًا أمام هؤلاء الشبان الدروز الذين كانت غالبيتهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. تمسك فىّ هؤلاء الشبان فى المعتقل العسكرى وكأننى جئت إليهم للخلاص. أحسست بمسئولية».

وتابع: «عندها بدأت قيادة المعتقل بالترويج ضدى: هذا من عائلة معروفة وراقية ومتعلمة، عائلة أرستقراطيين يحتقرونكم، لا يريد أن يكون مثلكم أو معكم، ثم يأتى الشباب من يركا ودالية الكرمل وعسفيا وبيت جن، ولا يخاطبوننى إلا بكلمة أستاذ، ويسألوننى: أستاذ صحيح أنك من عائلة متعلمة وتتكبر علينا؟ ماذا كان ردى؟.. فشروا.. كلاب، أنا واحد منكم. غدًا يوجد تدريب وأنا قادم إليكم إلى التدريب».

وأتم بقوله «إذن، نعم، سأكون براجماتيًا. هذه قضية سياسية، ولم أبحث عن البطولة فيها أبدًا. البطولة لم تشغل ذهنى فى حياتى أبدًا، لا فى الحياة ولا الشعر ولا السياسة».

الله «أعقل» من «فتح دفاتر» لـ7 مليارات إنسان

الله بالنسبة لسميح القاسم، وفق ما قاله فى الحوار، «ليس هو من يتحدثون عنه فى الكتب الدينية»، مضيفًا «يوجد قانون علمى: لا شىء يأتى من لا شىء. هذا الكون الهائل جاء من شىء. هناك شىء أبدعه. هذا الشىء بعض الناس يسمونه الله، وآخرون يسمونه إلوهيم، وفريق ثالث يسميه God، وغيرها من الأسماء».

وواصل: «يسألوننى: من صنع الله؟ أجيب: هذا الله اللا نهائى أكبر من أن أستطيع إدراكه كإنسان. أنا أسميه الله، لكننى لا أتعامل معه كعقاب وثواب. لا، الله أعقل من هذا. ثم هل لديه الوقت لمراقبة ٧ مليارات إنسان، وفتح دفتر لكل واحد؟ لا، الأمور ليست كذلك».

وأكمل: «لكن هذا الشىء الخالق اللامحدود واللامُدرَك هو الله بالنسبة لى، أومن به، لكن ليس بطرائق الأديان، قوة الإيمان وقوة الحياة هما ما يثبتاننى فى الحياة والعمل».

وتابع: «ما زلتُ أكتب وأجرى مقابلة معك، ومن يومين أو ثلاثة اتصلت صاحبة محمود درويش الحقيقية (اليهودية) التى كان يريد الزواج منها، وجاءت لزيارتى، لديها منه رسائل جميلة، واقترحت عليها إصدارها فى كتاب»، مختتمًا بقوله: «ما زال فى الحياة ما نعمله. ما أتأمله الآن ألا أصير مُقعدًا. أفضل الموت على ذلك. لا أريد أن أفقد وعيى. أعوذ بالله».

غضبت من درويش عندما غادر حيفا.. وكدت أضرب شاعرًا اتهمه بالهروب

تطرق «حليحل» فى حواره مع سميح القاسم عن علاقته بمحمود درويش، وسر غضبه منه، وهل شعر بخيانته عندما غادر البلد «حيفا»، قائلًا: «خلافى مع أخى محمود درويش- رحمه الله- معروف، ليس سرًا. فنحن اختلفنا بشكل جدىّ».

وأضاف: «فى (الرسائل) كتب (أنا نادم على خروجى). نظرية أنك إذا خرجت إلى الخارج فإنك ستتطوّر هى (حكى فاضى). ومحمود فى السنوات الأخيرة رجع إلى جذوره، إلى العفوية، إلى الصدق الفنى، وكان يأتى إلىّ هنا وعند أهله».

وواصل: «محمود أعاد اكتشاف ذاته، وفى فترة من الفترات كان على وشك أن يضيع بسببهم. كنت أقول له: على وين رايح؟ ما تكتبه ليس أنت، ليس شعرك، وفى فترة معينة كنت أصرخ عليه وأقول له: والله أتبرأ منك! هذا ليس أنتَ!».

وأكمل: «الصورة التى كانت شائعة عن محمود أنه شرس وعنيف صورة ظالمة وغير حقيقية. كان طفلًا طيبًا وبريئًا ووديعًا جدًا. لكنه اكتشف أنّ هناك فرقًا بين الحداثة التى أرسيناها وبين الاستحداث».

وتابع: «طبعًا. غضبت جدًا وصدمت وكتبت ورد علىّ، وتدخل أبوعمار. طبعًا. فنحن سائران فى طريق مع بعضنا البعض، نجوع ونعيش ونقرأ ونعمل ونتظاهر ونسجن سوية، لا يوجد مبرر، لم يقنعنى حتى اليوم».

وأشار إلى أنه «فى المدة الأخيرة زعلوا منى فى لبنان، حيث أجرى معى صحافيان لبنانيان مقابلة فى القاهرة، وقال أحدهما: لو أتيت إلى بيروت مثل محمود، ألم تكن قصيدتك ستتطور أكثر؟ أجبته: أنتم لديكم وهم بأن بيروت والقاهرة ودمشق وعمان هى الحداثة فى أوجها، أنتم تحتاجون ١٠٠ سنة كى تصلوا حيفا، فى حيفا توجد حداثة أكثر من كل العواصم العربية، هل علىّ أن أذهب إلى بيروت كى أكتشف الحداثة؟ لديهم وهم كهذا».

ونفى «القاسم» نفيًا قاطعًا وجود أى غيرة وحسد بينه وبين «درويش»، قائلًا: «فى عز خلافاتنا وقعت هذه الحادثة: كان هناك كاتب سورى اسمه سعيد حورانية، كاتب قصة مهم جدًا، يعيش فى موسكو، يحرر مجلة اسمها (الأوقات الجديدة). عندما سافرت إلى موسكو عام ١٩٧١ أو ١٩٧٢ أعد عشاءً كبيرًا على شرفى، ودعا الكتاب العرب الموجودين فى موسكو، منهم د. حسين مروة - رحمه الله- إلى جانب غائب طعمة فرمان وتاج السر حسن، وفنانون منهم يوسف وأمل حنا، وشعراء وكتاب سوفيت. وكان معين بسيسو- رحمه الله- حاضرًا أيضًا».

وأضاف: «كنا نشرب حين قال أحد الشعراء لا أريد أن أذكر اسمه: أريد أن أشرب نخبًا خاصًا، نخب سميح القاسم المنزرع فى الوطن، وليس مثل صديقه الذى هرب، وقفت وقلت له: اسحب كلامك فورًا، وإلا سأضربك بالكأس على رأسك! لا أسمح لك بذكر محمود درويش بكلمة، لديه ظروفه ولا تتدخل بينى وبينه، عندها بدأ سعيد حورانية بالبكاء، سألته: مالك، سكرت؟ قال: لا، فى الشهر الماضى كنت فى بغداد، وجرب شاعر عراقى أن يسىء لك، وأجابه محمود درويش بنفس الجواب».

وواصل: «الناقد سمير فريد كتب مرة أن أمسية هذين الشاعرين فى القاهرة ليست أمسية شعرية، بل أمسية سيمفونية. كنا نذهب إلى أى بلد، نجلس ونختار القصائد التى سنقرأها، كى يكون عملًا سيمفونيًا فعلًا. كل هذا الكلام عنى وعن محمود ليس صحيحًا، وهو ليس إلا من باب التمنى، ونوع من النظرة الصغيرة وغير المحترمة لعلاقتنا وتاريخنا».

لم نشهد إجماعًا عربيًا بعد النبى إلا على جمال عبدالناصر

عن تأثير جمال عبدالناصر فيه، قال سميح القاسم: «عبدالناصر خلق من دون شك حالة فى الأمة العربية لم تسبقها إلا حالة النبى محمد»، معتبرًا أن النبى الكريم هو «مؤسس القومية العربية».

وشرح «القاسم»: «النبى محمد جمع القبائل، وأنشأ قومية فى مسرى الدعوة الإسلامية، كنا قبله قبائل، ومحمد هو الذى أسس القومية العربية.. وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا.. أعتقد أن المقصود بالشعوب هم الفرس والأتراك والإنجليز وغيرهم، والمقصود بالقبائل هم نحن العرب. كنا قبائل متخاصمة، والحالة المحمدية خلقت الشعور القومى عند العرب».

وأضاف: «بعد النبى محمد لم يتكرر هذا الإجماع العربى إلا على جمال عبدالناصر، فقط. وللأسف الشديد، لو كان عبدالناصر أعمق ثقافة وأوسع إدراكًا، وأسس حزبًا قويًا، وخلق حالة من الديمقراطية والتعددية، لكان قادرًا على تحقيق الوحدة العربية».

وواصل: «لكن هذه الوحدة لا تتحقق بقرارات فوقية، يجب أن تتم الوحدة بإرادة شعبية وبرضا وتراض شعبيين وبالتفاهم، وبحكم التطور التاريخى نشأت أقاليم لها خصوصيات، فلتستمر هذه الخصوصيات لا مشكلة، لكن لدى مشكلة مع الشرذمة غير المبررة وغير المبررة والخيانية».

وأكمل: «أنا أعتبر كل من يؤيد الإقليمية خائنًا. وهناك من يسألنى: وماذا عن الدولة الفلسطينية؟ أقول لهم: مطلوبة كمرحلة فقط. قلتُ مرة لياسر عرفات- رحمه الله: إذا قامت الدولة الفلسطينية فسأصدر فى اليوم الثانى بيانًا منى يدعو للوحدة إما مع الأردن أو مصر أو سوريا أو موريتانيا. أنا ضد الدويلات وحظائر سايكس بيكو، الجامعة العربية هى جامعة حظائر سايكس بيكو».

أقول لمن يريد ذبح اليهود باسم العروبة: «حل عن ظهر العروبة»

فى «ملعقة سم»، كتب سميح القاسم عن «ليلة الحب والجنس»، الذى وصفه «حليحل» بأنه «من أجمل النصوص الإيروسية المكتوبة باللغة العربية، قبل أن يسأل صاحبه: أليس مفاجئًا أن يكتب شاعر المقاومة مشهدًا إيروسيًا جنسيًا وعاطفيًا بهذا الشكل؟

لكن «القاسم» لم ير ثمة تعارضًا، ونبه إلى أن «أى صورة نمطية خطرة»، مضيفًا: «قبل حرب ٦٧، قدمت إذاعة (صوت العرب) فى القاهرة مسلسلًا إذاعيًا من ٧ حلقات عن قصتى. وأرسلوا لى عبر أوروبا عددًا من مجلة (روز اليوسف) المصرية حول الموضوع، كيف رسمونى فيها؟ رسموا رجلًا عملاقًا مع شاربين كبيرين وحطة (كوفية) وبندقية أكبر من الرشاش تحت إبطه. لكن هذا ليس سميح القاسم، هذه صورة نمطية».

وأضاف: «هكذا يريدون أن يرونا، محمد دكروب مثلًا صدم عندما تعرف بى، قال: أنت سميح القاسم؟ غير معقول. أنا أتخيلك ماردًا عملاقًا بـ٤ أمتار. قلت له: وأنا كنت أتخيلك كابن رشد، فلا أنت ابن رشد ولا أنا بمارد، الحياة أكبر من الصورة النمطية، وتصوير شاعر المقاومة بأنه مقطب الجبين دائمًا وخلف المتراس أمر غير صحيح، هذه ليست شغلته، هناك مقاتل وهو مكمل للشاعر، والشاعر يكمل المقاتل».

وواصل: «فى ثقافتنا خجل غير مبرر من الجنس، والتعامل معه فى الأدب غوغائى جدًا. حتى الذين كتبوا كانت كتاباتهم غوغائية تهدف لإظهار فحولتهم، هذا جنس متخلف، وللأسف الشديد، كان العرب من أكثر شعوب العالم الذين قدموا من خلال الكتب الموضوعة والترجمات، أرقى ما يكون فى هذا المجال، تعاملنا مع الجنس فى الماضى أرقى من اليوم، ما المانع أن يضع كاتب أو شاعر مشهدًا جنسيًا برقى؟».

يسأله «حليحل»: «ومع يهودية؟»، فيجيب «القاسم»: «طبعًا، لمَ لا؟ مع يهودية أو عربية أو سوداء.. لماذا نقع فى التناقض؟ إما أننا عنصريون، وإما أننا عرب أمميون. العنصرية والعروبة لا تستويان. من يقول لى: سأذبح اليهود وأذبح الإنجليز والأمريكان باسم العروبة أقول له: حل عن ظهر العروبة! هذه ليست العروبة. هل تعتقد أن الرسول عاشر يهودية وقبطية وغيرهما من أجل المتعة فقط؟ هذا درس للناس وللمجتمع، للعرب وللمسلمين. فى الماضى جربوا أيضًا مهاجمة محمود درويش على قصائده عن ريتا وحبيبته إيريت».

وحول غياب الحب فى الأدب والفن الفلسطينى أمام مفردات المقاومة، قال «القاسم»: «السبب هو تعرضنا لإرهاب فكرى وسياسى واجتماعى. المبدع الذى ينحنى للمفاهيم السياسية السطحية والاجتماعية المتخلفة والدينية المتحجرة، يهرب من الحقيقة. أنا لا أهرب من الحقيقة. لا يهمنى أن أدخل فى معركة مع مجتمع أو بيئة، لأننى على حق، أنا أمارس حريتى مع عواطفى ومع جسدى، هذا حقى أنا، وليس من حق إنسان آخر أن يتدخل».

وعن أثر المرأة فى حياته، قال «القاسم»: «لم تكن لدى أزمة علاقة مع النساء منذ طفولتى، أنا نشأت فى مجتمع منفتح وغير ذكورى، والاختلاط فيه عادى ومألوف. ولم يكن حضور المرأة يومًا فى حياتى استثنائيًا أو مثيرًا، مثلما كان المرحوم صديقى الشاعر العراقى عبدالوهاب البياتى يقول: كنا عندما نسمع حفيف عباءة امرأة نجن!».

وأضاف: «ومن جهتى، من الطبيعى أن يكون لهذه العلاقات تأثير فى حياتى وقصيدتى وسلوكى. لكننى لم أتعامل يومًا مع المرأة باعتبارها ملاكًا أو باعتبارها شيطانًا. بعض الشعراء صنعوا منها ملاكًا والبعض الآخر شيطانًا، هى إنسانة مثلى تمامًا: فيها الملاك وفيها الشيطان».

ورأى أن «العلاقة مع المرأة عند كل رجل مرتبطة بالبيئة التى ولد ونشأ فيها»، معتبرًا أن «بيئة الفصل الحاد بين النساء والرجال هى بيئة مريضة، وتؤدى إلى انحرافات جنسية عند الرجال والنساء، فالبيئة المغلقة هى بيئة الانحرافات، هذه قاعدة، أقولها وأمرى لله. البيئة المنفتحة إنسانية أكثر وطبيعية وجميلة أكثر».

وانتقل للحديث عن حبيبته الروسية «تنيوشكا»، قائلًا إن «تتيانا كانت إنسانة جميلة جدًا وصافية ونقية وروسية أصيلة، ثقافتها عالية، أبوها جنرال كبير، كان قائد الجيش السوفيتى داخل براغ، وأخوها رائد فضاء»، مضيفًا: «جرب السوفيت إبعادى عنها باعتبار العلاقة خطرًا أمنيًا، وتحدث معى أشخاص من قيادة الحزب من عندنا. قلت لهم أترك موسكو غدًا، أنا لن أنتقل من عنصرية إلى عنصرية، ولست قادمًا من قيود إلى قيود. أنا قادم إلى الاتحاد السوفيتى، وإذا كان أبوها جنرالًا وابنته أحبتنى، فلا أسمح لأحد بالتدخل. أنا لا أريد أباها ولا أمها ولا جيشها».

وصل الموضوع إلى المكتب السياسى للحزب الشيوعى السوفيتى، وتدخل فؤاد نصار، زعيم الحزب الشيوعى فى الأردن، وفق «القاسم»، مضيفًا: «لكنه تدخل لصالحى، قال لى: لا تستمع لأحد، وابق هنا فى معهد الفلسفة والاقتصاد السياسى، ثم اعتذر السوفيت وقالوا إن هناك قانونًا يخص الجنرالات، وحتى لو كنت روسيًا أو سوفيتيا فسنحذر منك، وبعدها تزوجت تتيانا فى إيطاليا فعلًا كما كتبت، وسكرت أنا ليلتها».

الثقافة الخندق الأخير للبشرية فى ظل عالم مُسمم

يشير «حليجل» إلى الانزعاج الذى أصاب سميح القاسم، عندما أخبره عن بدء مجلة «الكرمل الجديد» نشر موادّها على «الويب» بالمجان، مشددًا على أن «هذا لا يجوز، غلط، نحن فى عالم رأسمالى، وحتى العمل الثقافى يجب أن يأخذ هذا بعين الاعتبار».

وأضاف «القاسم»: «التمويل الأجنبى ليس دائمًا، ولا يمكنك أن تضمنه. ممنوع أن تتكل على التمويل، يجب على المجلة الثقافية أن تمول نفسها بنفسها، أن تصدر العدد على نفقتها بالحد الأدنى. فمثلما يقول اليهود (الممول هو صاحب الرأى)، لذا سيفرض رأيه، سواءً حكى أم لم يحك. يجب أن تأخذ وجهة نظره بعين الاعتبار».

وواصل: «إذا كانت فرنسا تمول مجلة ما، فلا يمكنك أن تحكى شيئًا ضدها، وإذا مولتها بريطانيا يجب أن تجامل بريطانيا، المهادنة خيانة، ولا مجاملة فى الثقافة، وكلمة خائن بالمفهوم الثقافى أخطر من كلمة خائن بالمفهوم السياسى، فى الثقافة يجب أن تكون واضحًا وجريئًا وصريحًا بكل معنى الكلمة».

وحكى «مرة اندلع نقاش بينى وبينهم، واتهمونى بأننى قومى عربى وأرستقراطى ومش عارف شو، فقال لهم توفيق زياد: سميح القاسم أعطى الحزب أكثر مما أعطى الحزب لسميح القاسم، والحزب يحتاجه أكثر مما يحتاج هو الحزب».

وشدد على أن «الثقافة تظل فى رأيى الخندق الأخير للجنس البشرى كله. الاقتصاد اليوم ملوث، السياسة ملوثة، الحرب ملوثة، الإيديولوجيات تلوثت، ما بقى للإنسانية كلها، ليس لنا فقط كعرب ومسلمين وشرقيين، هى الثقافة، الخندق الأخير، وإذا انهار هذا الخندق سنفقد معنى إنسانيتنا».