الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«حرف» تنفرد بنشر فصل من رواية سعود السنعوسى الجديدة «سفر العنفوز»

سعود السنعوسى
سعود السنعوسى

- «وفى رُبى الجهراء، لو تنطق الأشياء، لأنشدت قصيدة طويلة» الأخوان رحبانى

- لا يدرى حتى كاتب الأسفار كيف غادرت العجوزُ الدِّيرةَ المُسَوَّرة وبوابات السُّور الخمس مُحصَّنةٌ موصدة

- المُحاصرون المسلَّحون ركضًا إلى الأمام مثل العُمى مثل الهاربين من موتٍ إلى موت

- ما جاء أحدٌ على ذِكر الفارس الذى أوفى قَسَمَهُ بشاربه وهبَّ لنصرة الجهراء لولا أن استيقظ ضميره فنجا بحصانه ومات مبتلعًا لسانه

تنفرد «حرف» بنشر فصل من الرواية الجديدة للروائى الكويتى سعود السنعوسى «سفر العنفوز» وهى الجزء الثالث من ثلاثية «أسفار مدينة الطين» بعد الجزءين الأول والثانى «سفر العباءة» و«سفر التبة». وتصدر رواية «سفر العنفوز» خلال أيام عن منشورات «مولاف» ودار «كلمات»، وبطبعة مصرية حصرية عن دار تنمية فى القاهرة.

رجوع الشَّيخ إلى مَثواه

- لـمَّا حوصِر المحاصرون جهة البرِّ والبحر والقصر همَدَت هبوبُ الجنَّة وتراجع باغوها إلى معسكرهم فى الغرب

أسفرَت السَّماءُ وأنورَت، واستهلَّت غيومُ الوَسْمِ ثانيةً وأمطرت، ورفرفت عباءات الصاجَّات فى فجرٍ خرافى الوقائع، فوق سطوحٍ بالصَّمت والرَّجاء تدثَّرَت. وتردَّدت فى فضاء الدِّيرة تراتيلُ شُيوخ البحر السَّبعة تُحاكى هديرَ الموج؛ هولو هِيهْ.. هولو هِيهْ. وتخلَّلَ صياحُ الدُّيوكِ نهيقَ الحمير، وعلى ما أبصرَ الدِّيكُ والحمارُ فى الوقتِ نفسِه ذاك الفجر؛ كأنما وقعت بين الملائكة والشَّياطين واقعة.

اعتلت العجائز المتَّشِحات بسود العباءات سطوح دورهنَّ الطِّينية المنثورة فى سِكَك الدِّيرة، فى الأحياء الشَّرقية والقِبلية والمرقاب، وقتَ أرسل الشَّيخ أحمد المراكب نجدةً إلى الحاكم والأهالى المُحاصرين فى القصر الأحمر فى الجهراء. وقفنَ موليات صدورهنَّ إلى الغرب تحت السَّماء الرَّمادية المُشعَّةِ بالبُروق. أُم حزام وأُم صلاح وأُم غريب وأُم صَلْبوخ وأُم عبدالرَّحيم وأُم جابر وأُم عَوَض. وقفنَ مثل عباءاتٍ رطبةٍ معلَّقة فوق السُّطوح تلهو بها ريحُ الفجر الغريب. يُمسكن بالسَّعفات اليابسة، ويُباعدن بين أذرعهنَّ ويَصفِقن الهواء مثل خنافس أبى جُعَلٍ تهمُّ بالطَّيران، فيُعيدها وزنها إلى الأرض ولا تطير. يُكوِّرن الشِّفاه اليابسة وينفُخن جاحظات العيون. يواجهن مغرب الشَّمس وقت طلوعها وراء ظهورهن، شاخصات الأبصار صوبَ شىءٍ بعيد.

وعلى بُعد أميالٍ قدرُها ثمانية عشر وراء البحر شرق الدِّيرة، وقفت كبيرة الصاجَّات أُم صَنْقُور على رأس التَّل فى ساحة مقام الجزيرة، غير بعيدٍ عن ضريح سعيدة، تبرقُ فى صدرها قلادة الأصداف والأظلاف الموروثة من أُم حَدَب والسَّالفات من صاجَّات مدينة الطِّين. وحولها عشرات من طيور اللَّوْهةِ يلمعُ ريشُها الأسود الدَّهين، تحطُّ على صخور السَّاحل وحول قُبَّة المقام تتربَّص بعيونها الصَّفراء. تقفُ مُشرئبة الأعناق تُطالع الغرب وترفرفُ بأجنحتها وهى فى أماكنها ثابتة على الصُّخور. وتهبُّ ريحٌ رخاء من سُود الأجنحةِ فتدفعُ بياضَ الأشرعةِ فى إبحارها صوبَ الغرب، والموج يتهادى مع الرِّيح مثل كثبانٍ عظيمةٍ زرقاء.

شرَّعت خادمةُ المقام ذراعيها تحت العباءة، يتطلَّع صدرها العامر نحو الغرب. وتبدَّت المرأةُ فى طلعة الفجر مثل لَوْهةٍ عملاقةٍ تُرفرف بين أفراخها بجناحيها الأسودين. بدأت تُناور الهواء بطيئة، فتسارعت تحت وابل المطر، ثُمَّ بلغت من شِدَّة الرَّفرفةِ بعباءتها ما كاد يرتفع بها عن الأرض شِبرًا. والزَّورق البُخارىُّ «مِشْرِف» يمخرُ عُباب الخليج يقفُ فى مقدِّمته الشَّيخ عبدالله بِكرُ الأمير وأمير البحر بِن رومى، يُحاذيه السَّنْبُوك «الحامدى» بصاريتَيه العملاقتين عظيم الشِّراع، فى أوَّل إبحارٍ له من دون شيخ البحَّارة سَنَد بن هولين. ووراء السَّنْبُوك تلوحُ المراكب الخشبيَّة موسوقة بالرجال والمؤونة والسِّلاح.

وعلى بُعد أميالٍ قدرها بضعةٌ وعشرون جنوب الدِّيرة، خطفَ شِهابٌ نارىٌّ فى سماء الفجر فوق جبل وارة، وهبط عند هيكل الضَّريح الخفىِّ للجنِّى بُرقان أبى العجائب. فارتفع صوتٌ مُنغَّمٌ ليس بالغريب لو كان السَّامع من أهل الدِّيرة:

يا ربَّة الذكرى والشَّمسِ والطِّين..

والبحرِ والصَّحرا.. لو كنتِ تدرين..

سارت أُم حَدَب ترفعُ سراجها فى شِمالها، وبيمينها تحملُ سعفتها اليابسة. ووقفت على أرضٍ تنضحُ القارَ لزجًا أسود على التُّراب وبين صخور البر.

يا الزَّرقا يا الصَّفرا.. حَمْرا الشياطين..

إن طاحت الجَهْرا.. كثرت سكاكين..

تلفَّتت بين خِيام بيوت الشَّعر المتناثرة فى المكان، والمطر يزخُّ على عباءتها. والبروق تومض فى السَّماء مثل سياطٍ من لظى. والفضاء يضجُّ بالهزيم مثل نذيرِ السَّماءِ للأرضِ أن طامَّة كُبرى تحيق بالكويت. وصوت العجوز ما زال يُردِّد على لحن أُنشودتها القديمة، ويُكذِّب حدسها بسقوط الدِّيرة:

يا صاجَّة يا صاجَّة.. ما صدقتِ..

ولا يدرى حتى كاتب الأسفار كيف غادرت العجوزُ الدِّيرةَ المُسَوَّرة، وبوابات السُّور الخمس مُحصَّنةٌ موصدة، لا تُفتح إلا لِمامًا للفارِّين من معركة الجهراء. كيف انسلَّت أُم حَدَب وجاوزَت السُّورَ يا سعفة الصاجَّة؟! قلت لكَ لا تلعب مع أُم حَدَب يا كاتب الأسفار! يا صاجَّة يا صاجَّة.. ما صدقتِ.

خرج شيخٌ مديدُ القامةِ من أحد بيوتِ الشَّعر فجرًا قُرب الضَّريح الخفىّ، يتتبَّع مصدر الغناء والصَّوت المألوف بين زخَّات المطر. فأبصر أُم حَدَب تُقبل بعباءتها صوبه تجرُّ سعفتها، بارئةً من البَرَص مستقيمة الظهر يشعُّ وجهها سوادًا أصيلًا. وخرج على صوتها الرجال من خيامهم، وتحلَّقوا حول الشَّيخ والعجوز التى سكتت عن غنائها ووقفت أمام الشَّيخ الذى ما كاد يتعرَّفها بوقفتها وبشرتها الجديدتين. نقَّلت بصرها بينه وبين الرِّجال قبل أن تقول:

«الشيخ سالم ورجاله محاصرون فى القصر الأحمر. لو طاح القصر تطيح الجهراء، ولو طاحت الجهراء تطيح الدِّيرة».

فوقعت كلمة الدِّيرة فى نفس الشَّيخ فارع الطُّول موقع فزع، ففى الدِّيرة حشاشةُ القلبِ شايعة الحُبارى.

وعلى بُعد أميالٍ قدرها ثمانية عشر غرب الدِّيرة، فُتِحت بوابة القصر الأحمر على مصراعيها فى طلوع الشَّمس. أربعة من أبناء أبى السّواعد يدفعون المصراع الأيمن، وأربعة يدفعون الأيسر. والمحاصَرون العطشى يتدافعون على الخيل والأقدام، ينفرون من قصرٍ لا مناص من سقوطه إذا امتدَّ الحصار يومًا آخر. وكفَّ الإخوان إعمال مناجلهم فى الجدار الغربى، وأسقطوا السَّلالم المحمولة على الأكتاف، وألقوا بالمناجل وحملوا البنادق وشهروا السُّيوف. ونفرَ الهجَّانةُ من معسكرهم فى النَّاحية الغربية، وأقبلوا على ظهور جِمالٍ يصمُّ هديرُها السَّماءَ، ويهزُّ الأرضَ خبيبُها، وبوابة القصر مشرعةٌ تلفظُ المُحاصرين المسلَّحين ركضًا إلى الأمام مثل العُمى، مثل الهاربين من موتٍ إلى موت، وضجَّت سماءُ الصُّبح بصيحات أمير الإخوان: هبوب الجنَّة. وردَّ رجاله:

«وين أنت يا باغيها؟».

فدوَّت البنادق وصَلْصَلَت السُّيوف وصهلت الخيلُ ورَغَت الجِمال. وسالت الدِّماء وانسكبت خيوطها على الأرض وتفرَّقت خطوطًا متعرِّجةً مثل شقوق الجفاف فى أديم الرَّمضاء. ومات من مات فى سبيل جنَّتِه. ودُوِّن كثيرٌ وقيل أكثر. وسُطِرَ فى الكُتُب ما تسطَّر، فيها الحقيقةُ وما تأسْطَر. وكتَبت الكويتُ وكتَبت نجدٌ وكتبَ الإنجليز مروياتهم. وما ذُكِرَ فى كتابٍ ولا نُطِقَ على شِفاهٍ ما يقول كاتبُ الأسفار فى مرويته، ذلك أن ولدَى بخيتة فى فورة القتال تواجها، الخبيرُ راجلًا يدعو الغِرَّ أن يترجَّل من جواده ويتبعه إلى رجال القصر. والغِرُّ يدعو الخبيرَ أن يمتطى الجوادَ وراءه للعودة إلى معسكر مَن طاع الله. وانتبه «عبدٌ» من «عبيد» القصر إلى ولدَى بخيتة أحدهما يدعو الآخر إلى الجنَّة. واحدٌ يقول إن الجنَّة فى القصر والآخر يقول إنها عند من طاعَ الله. فأسقط «عبدُ» القصر عطاالله من صهوة جوادِه برصاصةٍ استقرَّت فى صدره. وأجهز على ساطور بنصلِ سيفِه الهندى، ودحرج رأسه بين الأقدام حتى همدَ مُغبرًا شاخِص العينين صوبَ القصر. ونُسى أمرُهُما، «عبدان» قتلهُما «عبد»، دُفِن أحدهما فى أحد أحواش القصر، ويبقى قبره إلى آخر الدَّهر بلا شاهد، تدوسه أقدام زوَّار القصر التِّذكارى فى الجهراء، والقِلَّة التى تدرى بحكاية القبر فى قابل الأيام لا تدرى من يكون صاحبه: عطاالله الخيزرانة أم ساطور العَرد.

دُوِّن كثيرٌ وقيل أكثر، والخيالُ فى دروب التَّاريخ يتبختر، وسطَّرت الكُتب ما صار وما لم يصِر، وما جاء أحدٌ على ذِكر الفارس الذى أوفى قَسَمَهُ بشاربه وهبَّ لنصرة الجهراء لولا أن استيقظ ضميره، فنجا بحصانه، ومات مبتلعًا لسانه. ولا مرَّ سطرٌ فى هامش كتابٍ يُشير إلى ابن خادمة المقام الأصغر، مُذ هبَّ متطوعًا ووهبَ نفسه للدِّيرةِ كاملًا، وعاد من الحرب ناقصَ ذراع، يُقلِّب بذراعه المتبقية حبوب الأرُزِّ والملح فى صندوق الكتابين السِّريين. ولا ذُكر ضمن مشاهير الشُّهداء ثمانيةُ أشقاءٍ أقسموا ألا يتوكأ أبوهم على عصًا ما داموا يشمُّون الهواء. وما عاد فيهم من يشمُّ الهواء وقد أعمَل فيهم الإخوان الرَّصاص والسُّيوف والخناجر والمناجل. فتوكأ أبوهم العصا بعد معركةٍ كادت تنتهى على هزيمة، لولا أعلنت نجدةُ الشَّيخ أحمد عن وصولها بدوىِّ مدفعٍ ضجَّ فى شرق الجهراء ناحية البحر. وتراءى للمتحاربين الزَّورق البخارى «مِشْرِف» يُدوِّى مدفعه بعيدًا عن السَّاحل، ومن حولِه السَّنْبُوك «الحامِدى» وبضعة مراكب محمَّلة برجالٍ يُدوِّى بارود بنادقهم فى الهواء. فارتفعت من المراكب المقبلة صيحات الرِّجال تؤدِّى العَرضة بصوتٍ واحد، تُردِّد الغناء وراء النَّهام الأعمى عبدالله فى السَّنبوك «الحامِدى»:

يا دارًا لنا حقّك علينا

يوم الضِّيق ما نبغى شفاعة

فقُرعت طبول الحرب فوق المراكب وشهِرت السُّيوفُ السلائل لامعةً عالية:

نجعل السلايل فى أيدينا

شبعةً لى من عقب المجاعة

واقترب القرعُ والصيحات مع اقتراب الأشرعة المنشورة فى الهواء:

لو ما إرادة الله ما مشينا

وأسقينا المُعادى سِم ساعة

وسكتت طبول العَرضة وصيحات الرِّجال حينما رست المراكب على سِيف الجهراء. وأقبل فى الوقت نفسِه من الجنوب جناح الميمنة وقد تزوَّد فى الدِّيرة بالعتاد، بعدما كسره جناحُ ميسرة الإخوان وشتَّتت شملهم ظُهر أمس. اصطفُّوا خمسمائة من الفُرسان، مُغبرى الوجوه طويلى الجدائل وراء قائدهم يُصوِّبون البنادق، على حين ارتفع صوت امرأةٍ وراء تلٍّ بعيد تهزج بعالى الصَّوت:

يا الزَّرقا يا الصَّفرا.. حَمْرا الشياطين..

فسكت دوىّ البارود وصليل السُّيوف. واشرأبت الأعناق صوبَ الصَّوت الآتى من بعيد:

إن طاحت الجهرا.. كثرت سكاكين..

ظهرت أُم حَدَب فوق رابيةٍ صغيرةٍ أمام القصر تحملُ سعفتها اليابسة، تُجيل بصرها بين المتعاركين الذين شَدَهَهُم صوتها الشَّجى:

يا صاجَّة يا صاجَّة.. ما صدقتِ..

وكشفت الرَّابيةُ عن سَنَد بِن هولين إلى جوار أُم حَدَب، يمتطى صهوة فرَسِه الأثيرة؛ الرَّملا، تُرابية اللَّون رشيقة الجسد. تقدَّم شيخ البحَّارة مع شيخ قبيلته، وتبعهما خمسمائة فارس هَبُّوا لنجدة المحاصَرين بمباركة عجوز المرقاب التى ما سكتت أُهزوجتها منذ ارتفعت فى الفضاء مثل الأذان.

ولـمَّا حوصِر المحاصرون جهة البرِّ والبحر والقصر همَدَت هبوبُ الجنَّة، وتراجع باغوها إلى معسكرهم فى الغرب، وعلى بركةِ إبراهيم عمود الدِّين ومحمَّد رسول الله؛ أُعلِنت هدنة.

واقتضت الهدنة أن يسحب الإخوان قوَّاتهم من الجهراء إلى آبار الصّبيحية، وأن يعود الشَّيخ سالم ورجاله إلى الدِّيرة.

وعُلِّقَت مطالب الإخوان ظهيرة يومهم هذا، ونُسِىَ أمرُ العباءة.