صناع الفيلم الوثائقى «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية» يتحدثون لـ«حرف» (2-2)
تستعد قناة «الوثائقية» لعرض الفيلم الوثائقى «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية»، من الإنتاج الوثائقى بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، قريبًا، حيث يوثق العمل رحلة المفكر المصرى الكبير الدكتور عبدالوهاب المسيرى، منذ ميلاده فى ثلاثينيات القرن العشرين حتى وفاته عام 2008. ويتناول الفيلم أهم المحطات الفكرية فى حياة «المسيرى»، ويستعرض الفيلم 40 عامًا من حياة «المسيرى»، قضاها باحثًا ومنقبًا فى الجذور الصهيونية، ونشأتها، وتطوراتها، وأهدافها.
فى السطور التالية يكتب صناع الفيلم، لـ«حرف»، عن رحلتهم مع «المسيرى» من الفكرة إلى التنفيذ.
محمد الزلبانى: فيلم المسيري محاولة لكسر التنميط ومحو الاستقطاب
قبل شهرين تقريبًا، ألقى الأستاذ شريف سعيد، رئيس قطاع الإنتاج الوثائقى بشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، تكليفًا باختيارى لكتابة فيلم وثائقى عن د. عبدالوهاب المسيرى. تكليفٌ كان بمثابة كرة لهب ألقيت فى يد الزميل والصديق العزيز إمام أحمد، مدير إدارة المحتوى بالقناة، الذى على الفور اتصل بى ليخبرنى بالتكليف الملغوم، بعدما طلاه بالذهب ليلمع فى عينى، أو ربما ليهوّن علىّ الأمر!
أذكر وقتها أننى لم أنم فى تلك الليلة، وظلت تحولات المسيرى المثيرة للجدل تؤرق مضجعى، فكيف سأفعلها؟!
المسيرى رجل تَحارُ فى أمره وأمر الناس فيه. الحيرة فى أمره سهلة، إذ من اليسير تبديدها بمجرد قراءة مذكراته؛ لكنّ الحيرة فى أمر الناس فيه فحدث ولا حرج، المتيمون به يرفعونه عنان السماء، والكارهون له يحطون من شأنه ويهيلون على منجزه التراب، فلأيهما نميل فى صناعة الفيلم؟!
اعذرنى إن قلت لك إن سؤالك خاطئ فى مبناه ومعناه. فلا تنسَ أننا نَعد فيلمًا وثائقيًا، فلا تغريك كلمة «فيلم» بما تحمله من خيال وانتماءات مسبقة وتعبير عن رؤى الصُناع، ولا تغض الطرف عن كلمة «وثائقى» بما تحمله من أمانة فى السرد ودقة فى التأريخ.
قلتُ لنفسى: إذن، هذا ما تريده منى القناة حين اختارتنى لكتابة الفيلم: الأمانة فى السرد، والدقة فى التأريخ. فلنبدأ على بركة الله.
عبد الوهاب المسيرى عاش سبعة عقود، أربع سنوات من طفولته قضاها فى الإخوان، ثم ضعفهما تقريبًا انتمى فيها للحركات الماركسية المصرية التى كانت منتشرة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، ربما لهذا السبب يحل اللبس، فالإخوان رغم انسلاخه من عباءتهم مبكرًا يروجون بأنه ابنهم البار، واليساريون رغم عزوفه عنهم يعتبرونه منتميًا لهم؛ لكن الرجل فى حقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك؛ لكن كما تعلم آفة حارتنا أمران: التنميط والاستقطاب!
غير المنشغلين بالانتماءات السياسية يميلون فى الغالب لتنميط الناس، فإن قرأوا كلمة فى كتاب أو منشور على «فيسبوك» أو سمعوا فيديو لشخص يتحدث فيه من مفهوم دينى بحت، سيتعبرونه إخوانيًا، وكأن الحديث فى الدين أو النظر للأشياء بمنظور دينى حكر على الإخوان ومن حذا حذوهم!
هكذا الحال مع عبدالوهاب المسيرى. غالبية الفيديوهات المنتشرة له والمقتطعة من ندوات طويلة تتعدى الثلاث ساعات تقريبًا، تتحدث عن رؤيته للغرب من منظوره الشخصى، كما دوّنها فى كتابه «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، الذى تعد أفكاره بداخله محل الخلاف، وهى ما جرّته رغمًا عنه للتنميط من أولئك وهؤلاء.
العلمانيون من جهتهم ينسبون المسيرى إلى الإخوان كونه يتحدث من منظور دينى، والمغالون من الإخوان يعتبرونه ماركسيًا لكثرة حديثه عن الرأسمالية التى ينتهجها الغرب، الذى بالمناسبة ينتهجها الإخوان أيضًا، فإن لم تكن تعرف، فالجماعة إن بحثت فى خلفيات قاداتها ستجدهم يعملون بالتجارة، ناهيكَ عن تصريحه الدائم بأنه «علمانى جزئى» يفضّل فصل الدين عن الدولة كنظام حاكم لا يفرق بين الناس على أساس دينى أو عِرقى، وهو ما يتنافى تمامًا مع ما تنادى به الجماعة وأذنابها، حيث اصطفاء ذوى اللحى، والمرائين، والمدّعين، والمنبطحين لمن يدفع أكثر!
مهلًا، أتظننا فى قناة «الوثائقية» سننكأ هذا الجرح للمرة المليون، ونتحدث عن المسيرى المُتناحَر عليه بين العلمانية والإسلام؟
كلا. فهناك ما هو أهم للنقاش بشأنه، إذ إن ذكرى وفاة المسيرى التى نحن بصددها تحل فى وقت ملتهب، الصراع فيه بين العرب وإسرائيل على أشده، ولا مكان للحديث عن أى النظامين أفضل للأمة، فلا العلمانى سيحرر الأرض بفكره التنظيرى، ولا الإسلامى الذى يعتبر الأوطان حفنة من تراب عفِن يهمه فَهم ما يجرى فى غزة ومحاولة الزج بمصر، بقدر ما تشغله اللحظة التى سيظفر فيها بالحكم عندما تخرب الأمة، ويجلس على الكرسى منتشيًا فوق الرُّكام!
المسيرى كما ستراه فى فيلمنا، رجلٌ كرّس من عمره ربع قرن أو يزيد لمجابهة الصهيونية التى يصفها بأنها جماعة وظيفية تؤدى غرضًا تخريبيًا فى قلب الأمة، ثم خرج للعالم بمُنجزه الأهم «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»، وهذا هو العمود الفقرى لفيلم «المسيرى». إذن، لا يختلف على هذا إلا من كان فى قلبه غرضٌ أو مرض؟!
لا خلاف الآن على أن عدونا واحد، وتفكيك أفكاره جدير بأن يكون محور أى حديث بيننا الآن، فنحن أمام عدو لا يتورع عن سفك دم من ينتقده حتى لو كان يهوديًا، ما بالك بعبدالوهاب المسيرى المصرى العربى، الذى جاءته ستة خطابات تهديد بالقتل لمجرد شروعه فى كتابة الموسوعة، فأى دراما أفضل من هذه لتوثيقها فى فيلم وثائقى؟!
كل شىء فى حياة عبدالوهاب المسيرى مثير للتأمل والوقف أمامه حتى لو بالاختلاف، بداية من ولادته قبل نكبة فلسطين بعشرة أعوام، مرورًا بدراسته الأدب الإنجليزى وتخصصه فى الشعر الرومانتيكى، ثم سفره لأمريكا للحصول على الماجستير والدكتوراه فى التخصص ذاته، انتهاء بالتحول الجذرى لدراسة الصهيونية وتحليل الخطاب الإسرائيلى.
الدراما فى حياة المسيرى مُلهمة أيما إلهام، كل لحظة تحول فى حياته يسبقها موقف محورى أو كما نسميه فى عالم السيناريو Motive»/ الدافع»؛ زواجه من الدكتورة هدى حجازى، تلك السيدة الأرستقراطية المناقضة تمامًا لفكره الماركسى سبقه «دافع»، التحول لدراسة الخطاب الصهيونى أيضًا سبقه «دافع»، وهو جزء مهم سنشاهده فى الفيلم، حيث سنرى شخصيات لن تصدق أنها والمسيرى كانوا على خط واحد، فلا تندهش إنْ علمت أن لأستاذ الصحافة الراحل محمد حسنين هيكل فضل كبير على المسيرى، والسياسى المخضرم الدكتور أسامة الباز كان نبراسًا أنارَ له فكرة برّاقة، يتوجب شكره عليها.
حتى الموسوعة التى هى محور هام بفيلمنا عنه فى قناة «الوثائقية» لم تخل من الدراما أيضًا، سواء عندما كانت فكرة فى رأس المسيرى، أو وقت شروعه فى كتابتها، وحين بدأ فى البحث عن مصادر لتمويل نشرها.
تلك الدراما الواقعية لرحلة المسيرى سَعَينا لتوثيقها بشكل دقيق رفقة أكثر من عشرة ضيوف دلونا على خبايا الرجل، فمنهم من دلّنا على كواليس عمله فى مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ومنهم من كان صديقه وحضر لحظاته الأخيرة قبل الوفاة بالسرطان، ومنهم من كانت تلميذته فعلّمها سبر أغوار الأدب الإنجليزى وأشرف على رسالتها، لتصبح دكتورة مهمة فى مكانها، أو كما بشّرها: «سأقدمك لمصر يا ابنتى».
لكن أعجب ما ستراه فى فيلمنا، عالم الأطفال الذى طرق المسيرى بابه متسلحًا بأفكاره عن الصهيونية ومعاداتها، وحرصه على ترسيخ الهوية المصرية والعربية فى وجدان أبنائنا، لحمايتهم من الأفكار السامة التى يروجها أصحاب المصالح ومنفذى الأجندات.
هكذا ستجد المسيرى فى فيلمنا: مفكر عربى، مرجعيته مصرية إسلامية، لا يرى تضادًا فى وجود كل هذه الصفات بجانب بعضها، ربما حاول المزج بينها قدر استطاعته، وربما أيضًا هى ما كانت السبب فى إحاطته بالكثير من الجدل.
أما نحن فى شركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وفى القلب منها قناة «الوثائقية» فقد آثرنا خوض غمار تلك التجربة، ليس لإزالة اللَّبس، ولا لمحو الجدل، إنما لتثبيت ما هو متفق عليه فى أمتنا العربية، حيث الوحدة والعزة والعروبة وإبراز كل ما يؤكد وجود فلسطين فى القلب.
بشرى عبدالمؤمن: أعدوا لى مقبرة.. 3 محاولات لاغتيال موسوعة المسيرى
منذ أن كُلفت بمهمة «البحث والأرشيف» فى فيلم «المسيرى.. مفكر ضد الصهيونية»، إنتاج قطاع الإنتاج الوثائقى بشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ظللت على مدار ليالٍ عدة أبحث عن شخصية عبدالوهاب المسيرى، وكان أكثر ما توقفت أمامه هو هدوء الرجل وتأنيه فى الحديث أو الكتابة خصوصًا أثناء العمل على موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، بينما يقبع خلف هذا الهدوء سرقة وثلاثة عشر خطابًا تحمل تهديدات بالقتل، فبقيت فى ذهنى ثلاثة مشاهد ربما تصلح مفتاحًا لطرق باب المفكر المصرى عبدالوهاب المسيرى.
فى منتصف السبعينيات، بمدينة نيويورك، عاد عبدالوهاب المسيرى إلى منزله بعد رحلة طويلة إلى بعض المدن الأمريكية استغرقت ثلاثة أسابيع، وجد البيت فى حالة فوضى، لا أثر للملابس، اختفت الأجهزة الكهربائية بالكامل وبعض الأثاث. أسرع إلى غرفة مكتبه، غابت مسودات كتبه ومقالاته التى كان يعدها للنشر. لاحظ أيضًا اختفاء نسخة رسالة الدكتوراه الوحيدة التى كتبتها زوجته هدى حجازى.
علم «المسيرى» أنه قد جاءت سيارة نقل وقفت أمام منزله لمدة يومين، حمّلت كل شىء، حسبما يذكر فى مذكراته، التى حملت عنوان «رحلتى الفكرية فى البذور والجذور والثمر».
آلمته عملية السرقة وسببت له الدهشة، فبيته لم يكن يحتوى نفائس تستحق، أخبره بعض الإخوة العرب، ممن تمرسوا فى هذه الأمور، بأن من قام بها هم فى الغالب عملاء صهاينة، ومثل هذه العمليات الإجرامية الصغيرة، تغطى هدفًا سياسيًا أكبر هو الإرهاب النفسى وإفقاد التوازن، شعر بالخطر، وقتها كان يعمل مستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم للجامعة العربية لدى هيئة الأمم المتحدة، وعندما استبد به القلق، أبلغه مسئول كبير: «الإسرائيليون طلبوا عدم توزيع الموسوعة».
واصل عبدالوهاب المسيرى كتابة موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، كان يبدأ العمل فى السادسة صباحا ولا ينتهى إلا عند منتصف الليل، وظل على هذا المنوال ما يقرب من ثلاثة عقود، بدأها فى منتصف السبعينيات، مستعينا بالمتطوعين والباحثين لجمع شتات المادة، موسوعة ستنمو وتنضج مع مرور الزمن لتصبح بعد حين مكونة من ثمانية مجلدات، كل مجلد يتناول موضوعًا منفردًا، فالأول يضم الإطار النظرى الخاص بالموسوعة وقضايا المنهج، بينما المجلدات من الثانى حتى الرابع تتناول موضوع الجماعات اليهودية، فى حين يتحدث المجلد السادس عن الصهيونية، والسابع عن إسرائيل، مختتمًا بالمجلد الثامن للفهارس.
نحن الآن فى سبتمبر عام ١٩٨٣، مر عقد من الزمن منذ حادثة السرقة الغامضة، لم يتوقف عبدالوهاب المسيرى، لم يستجب لتحذيرات المسئول الكبير، فقد وصل قبل عدة أيام إلى السعودية، للتدريس بجامعة الملك سعود بالرياض. من المدرج إلى مكتبه، حيث تفرغ لاستكمال الموسوعة، بل تحول العمل عليها إلى مؤسسة فأصبح لديه مكتب للترجمة يزوده بأهم المقالات التى تنشرها الصحف الإسرائيلية، وفى الوقت نفسه كان يحرر بابًا أسبوعيًا فى جريدة «الرياض»، لا يبدو عنوانه بعيدًا عن الموسوعة وهو «إسرائيليات معاصرة».
تغير المكان والزمان لكن المخاطر ظلت تلاحقه، بدت السرقة الغامضة أكثر وضوحًا، ففى يناير عام ١٩٨٤ تلقى «المسيرى» على عنوانه بـ«الرياض» ستة خطابات تحمل فى طياتها تهديدًا بالقتل من جماعة «كاخ» الصهيونية، التى يرأسها «مائير كاهانا»، عضو الكنيست السابق. لم يكن الأمر سريًا، إذ يعترف «كاهانا» بعد شهر واحد بإرسال خطابات التهديد، فى حواره بجريدة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية بعددها الصادر فى ٢١ فبراير ١٩٨٤، الدولة التى تغتال أمة بكاملها لا تخجل من الاعتراف بتهديد شخص واحد خصوصًا لو كان عبدالوهاب المسيرى.
لم تكن القاهرة بعيدة عن المشهد، فقد أرسلت «كاخ» أيضًا ستة خطابات تهديد أخرى على عنوانه بالقاهرة، تقول فيها إنه إن لم يتوقف «المسيرى» عن نشاطاته المعادية للصهيونية وأهمها تأليف الموسوعة بالطبع فستصل إليه الأيدى الصهيونية، وستقوم بتصفيته.
عاد «المسيرى» من الرياض إلى القاهرة، وبعد يومين فقط من عودته، فتح باب المنزل فوجد تحت عتبته الخطاب الثالث عشر، وفيه تقول جماعة «كاخ» بإنجليزية ردينة إنهم «يعلمون بأمر عودته، وإنهم يعدون قبرًا له»، وُضع «المسيرى» حينذاك تحت حراسة سلطات الأمن المصرية حماية له، لكنه لم يخف وأصر على إكمال موسوعته.
تلك الموسوعة التى قال عنها الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، أثناء مناقشتها بجامعة القاهرة فى ٣ أبريل ٢٠٠٠، إن «الدكتور المسيرى قد حيا عصره وزمانه وأمته بعمل جامع قدمه للمكتبة العربية وكان العقل العربى ومعه الفعل العربى فى حاجة لقيمة هذا العمل المعرفية والسياسية لأنه مرجع كشاف قوى موجه باتساع كبير وتركيز شديد إلى ساحة دار عليها صراع من أخطر وأعنف ما عرفته الأمة العربية طوال تاريخها. وهو صراع انقضى من عمره حتى الآن قرن كامل لكن زلازله وتوابعها نشطة ومؤثرة على الأمة العربية وحولها لحقب يصعب تقدير مداها».
وقد كان لـ«هيكل» أحد الأيادى البيضاء على عبدالوهاب المسيرى وموسوعته، إذ ساعد الأخير كثيرا، بداية من تعيينه مستشارًا له بوزارة الإرشاد وقت أن تولاها، وعندما ترك «هيكل» الوزارة انتقل «المسيرى» إلى كلية البنات وكتب تلخيصًا لأطروحته عن «الإدراك الصهيونى» وتركها لـ«هيكل» على أمل أن يقوم أحد الباحثين بمتابعة الموضوع وكان رد الأخير أن أحدًا غيره لا يمكن أن يكتب مثل «المسيرى» عن هذا الموضوع وزاد «أسامة الباز» من تشجيعه له، فكتب عبدالوهاب المسيرى دراسة عن «فلسفة التاريخ عند الصهاينة» فاقترح «الباز» عرضها على «هيكل» فعرض الأخير على «المسيرى» العمل مسئولًا عن الفكر الصهيونى بمركز الدراسات بالأهرام.
سيواصل «المسيرى» مرة أخرى العمل على موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية»، فى حين لم يكتف الإسرائيليون بخطابات التهديد بالقتل، وكعادتهم لجأوا لسبل ملتوية، إذ حاول الملحق الثقافى الإسرائيلى بالقاهرة، استئجار شقة فى عمارة «المسيرى» من خلال وسيط، كما يروى مؤلف الموسوعة نفسه، فى حواره المنشور بجريدة «الأخبار» الصادرة فى ٩ نوفمبر ٢٠٠٥، لكنه رفض حين اكتشف الأمر.
كان ذلك فى منتصف التسعينيات، حيث سيكون عبدالوهاب المسيرى فى الأشواط الأخيرة من كتابة موسوعته، وفى اللحظة ذاتها ستُصنف إسرائيل جماعة «كاخ» كمنظمة إرهابية، تحديدًا فى عام ١٩٩٤، بعد أن أعلنت المحكمة العليا فى إسرائيل عن رفضها قبول تسجيل «كاخ» رسميًا لخوض انتخابات الكنيست ١٢، ليعود «كهانا» مؤسس الجماعة إلى نيويورك محرضًا- من جديد- ضد العرب والفلسطينيين.
المفارقة أن «كهانا» الذى هدد «المسيرى» بالقتل، هو من تم اغتياله بنيويورك أثناء مشاركته فى إحدى الندوات بأحد الفنادق فى الولايات المتحدة عام ١٩٩٤. بعد خمس سنوات فقط من اغتياله، خرجت موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية» لعبدالوهاب المسيرى للنور، تحديدًا فى عام ١٩٩٩، لتنتشر فى أغلب بلدان العالم، بعد أن أهداها إلى أحد رموز النضال الفلسطينى وهو القيادى «سعيد خالد الحسن». لم يُوقف المفكر عبدالوهاب المسيرى تهديد من عدو أو اتهام من ناقد، تاركًا وراءه موسوعة ستقف بأجزائها الثمانية ضد محتل غاشم، عراه قبل أن يرحل فى اليوم الثانى من يوليو عام ٢٠٠٨، مودعًا عالمنا من مستشفى «فلسطين» بمصر الجديدة أثناء تردده عليها للعلاج، وكأنه أراد أن يكون الفصل الأخير فى حياته مقترنًا باسم «فلسطين».