الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

دون كيشوت.. الحلم الذى لا ينتهى وطواحين الهواء التى ما زالت تدور

دون كيشوت
دون كيشوت

تخيل ميجيل دى ثربانتس «دون كيشوت» شخصية تجسّد العالم بصورته السحرية غير العقلانية من خلال الرجل الذى عرفه العالم باسم «دون كيشوت»، وكان يعيش فى إحدى القرى الإسبانية فى بدايات عصرالنهضة، متخيلًا إياه طويل القامة، هزيل البنية، يقضى أيامه فى قراءة أدب الفروسية لدرجة أنه يبيع أرضه ليشترى الكتب، وبلغ به الإفراط فى الخيال أنه قرر إعادة أمجاد الفرسان الجوالين لمحاكاة أفعالهم فى نشر العدل ومساعدة المظلومين، فقام بمحاكاة هؤلاء، لبس درعًا وحمل رمحًا وامتطى حصانًا وبحث عن تابع، وبالطبع عن سيدة يحبها ليشق طريقه إلى المجد. وهذا التناقض بين الزمنين، الزمن الذى يعيشه والزمن المتخيل الذى يتوهم أنه حاضر، خلق مجموعة من المفارقات، حين راح يجوب مع تابعه «سانشو» الأرض ويعتقدان أنهما صعدا إلى السماء بحثًا عن الحقيقة والمطلق، وتخيل أنه قهر الظلم والحاكم والأمير المخادع، والحرس واللصوص، بل والنسر والمارد، والموت ذاته بعد أن تشبع بقيم الحق والخير والجمال، بقيم الفروسية، وعلى سريرالمرض يردد قائلًا: مكافأة الحكمة أن يموت الإنسان مستريحًا، بعد أن استرد عقله وعاد إلى الواقع. 

إيف جامياك، الكاتب الفرنسى الذى كتب نصًا مسرحيًا يحمل عنوان «دون كيشوت» ترجمه إلى العربية فتحى العشرى حول هذه الشخصية مستلهمًا رواية ثربانتس وأيضًا الأسطورة الشائعة- قدم نصًا يغلب عليه الطابع الساخر ولعب فيه الخيال دورًا رئيسيًا، بل قل إنه القوة الفاعلة التى تحرّك الشخصيات والأحداث، فمنذ اللحظات الأولى يرى «دون كيشوت» الجميع فى بيته مجموعة من الكتب، يستلهم فرسان الزمن الماضى ويخاطبهم: يا من تلمع أعمالكم العظيمة فوق رأسى كالنجوم، بل ويستحلفهم من أجل مصلحة العالم كله أن يوافقوا على جعله فارسًا جوالًا، ثم يلتقى «سانشو» ويقنعه بأن يتبعه مقابل جزيرة حال غزوها سيسلمها له!. لا تختلف الشخصية كثيرًا عن الرواية مع زيادة جرعة السخرية التى اعتمد عليها إيف جامياك أقرب إلى أسلوب المحاكاة التهكمية أحيانًا. «دون كيشوت» يعيش على الخيال، يأكل ويشرب ويتنفس العالم المتخيل الذى شيده عاليًا وسكن فيه! فيرى الحانة قصرًا والخادمة أميرة، وحين يسأله صاحب الحانة: ألا تحمل نقودًا أيها الفارس؟ يجيب: أحمل العدو الذى أحاربه، قضيتى هى شن الحرب على المال والجشع.. وفى موقف آخر يقول إن مهنته هى المهنة التى تمنع القسوة وتنقذ المظلومين، وذلك حين يقدم على تحرير السجناء. 

نعم هى رحلة على أرض الواقع، لكن «دون كيشوت» يرحل كمسافر زاده الخيال، فهو لا يهتم بما يحدث فى الواقع، لا يلتفت إليه، فهو يعيش فى خياله كما فعل مع صاحب الحانة والسجناء والملك والموت والمارد وكل من التقى به فى الواقع أو فى مخيلته، ففى هذه الرحلة يلتقى مع بشر، مهرجين، ومردة، نسر ملائكة وشياطين، وحتى تكتمل رحلة الخيال يلتقى مع الموت ذاته، لقد وضع إيف جامياك كل شىء فى الرحلة، ولِمَ لا فهى رحلة قوامها الخيال. وفى نهايتها يضع «دون كيشوت» على سرير المرض وحوله الأقارب والأصدقاء وهم يدفعونه لطلب المغفرة من الرب لأنه أهان العقل والحكمة ومنع نفسه من الرؤية الواضحة، وفى الحقيقة الكاتب ينتصر لعصر العقل ويسخر من زمن الفروسية حتى ولو على سبيل الحسرة ورثاء هذا الزمن، فيعود إلى المشهد الأول؛ فضاء الكتب التى تتناثر فى كل ناحية مع المربية والقس والحلاق والأقارب، حيث يبدأ وينتهى بفضاء الكتب وما بينهما رحلة تتخلى عن العقل وتسترده فى النهاية، ولكن لا تنكر الحاجة إلى الخيال الذى يسخر منه كل من تناولوا هذه الشخصية، لكن لا يستطيع أحدهم إنكاره.

فى عرض «دون كيشوت» الذى قدمه المخرج أحمد طه لطلبة جامعة الإسماعيلية انطلق من هذا المشهد «فضاء البيت» ليضع الجمهور على مدى ساعة أمام خشبة مسرح تمزج بين الواقع والخيال، فارغة إلا من مدرجات «برتيكبلات»، وفى الخلفية فضاء أقرب إلى السماء به طواحين الهواء التى يحاربها «دون كيشوت» واقترنت بأفعاله وبمعنى النص ككل، فالموضوع الأساسى هو اللا شىء، اللا جدوى التى تجسدها هذه الطواحين، مع قطع خشبية معلّقة تبدو كدرج للصعود إلى فوق، إلى السماء كسلّم رمزى، اختار مهندس الديكور عمرو الأشرف الأسلوب الذى يجمع بين التجريدى والواقعى لتصميم فضاء الحكاية، الأسلوب الذى يتناسب وروح الشخصية وملامحها، وهى رؤية المخرج أحمد طه الذى حافظ على البنية العميقة للنص، وقام ببعض الاختصارات فى الحوار والأحداث الثانوية، ولكنه حافظ على الحبكة ممثلة فى ترتيب الأحداث وبناء الحكاية والملامح العميقة للشخصيات الرئيسية، مع الحفاظ على الملمح الذى يخلط الواقعى بالمتخيل ليس فقط فى مفردات الديكور، بل فى كل عناصر العرض المسرحى، الإضاءة التى صممها أبوبكر الشريف التى جسدت الحلم، والأداء التمثيلى الذى حرص المخرج على ألا يخلو من المبالغة أحيانًا، بالإضافة إلى الاستعراضات التى صممها شريف مبارك، حتى أزياء رامى شهاب التى وإن كانت تاريخية تناسب زمن الحكاية إلا أنها لا تخلو من طابع عصرى.. فكما تخيل الكاتب بيت «دون كيشوت» عبارة عن تكوين مسرحى يتكون من «برتيكبلات» مختلفة الارتفاع تظل على امتداد العرض بحيث يتصل كل مشهد بالمشهد الذى يليه، تتوالى فيها المشاهد حسب أهميتها، مع عدد كبير من الأقواس يتدلى بالحبال، فى نهاية كل قوس كتاب، كتب مفتوحة، كتب ضخمة أمام «دون كيشوت» وخلفه، فهو يعيش فى غابة من الكتب.

فى هذا العرض قدم المخرج ترجمة بصرية للنص الحافل بالأحداث والشخصيات فى مجموعة من المشاهد وكأنه يستلهم روح النص لتجسيده، ليس حرفيًا، ولكن روح الفكرة مع الإبقاء على أجزاء من الحوار، بما يجعل الأحداث تتواصل، فما حدث نموذج لرؤية المخرج بعيدًا عن التورط فى مصطلحات فضفاضة، مثل الإعداد والدراماتورج، ودون شك المخرج لا ينقل النص بل يقدم رؤيته للنص، بل ويضع فى الحسبان إمكانات الفرقة والإنتاج، فهذا النص يحتاج إلى إنتاج ضخم لما يحويه من عشرات الشخصيات، مردة، ملائكة، شياطين، حراس، قرويون، والمشاهد العديدة الواقعية والمتخيلة، والمخرج قدمه فى سياق وإمكانات المسرح الجامعى على المستويين الفنى والمادى، واستعان باللوحات الاستعراضية التى كتب كلماتها الشاعر أحمد زيدان، وألحان رفيق يوسف، كتبها على لسان الشخصيات دراما شعرية تدعو إلى التمسك بالحلم والأمل. 

ودون شك لو أن المخرج أحمد طه سيقدم هذا العرض بصيغة إنتاجية أفضل وإمكانات مختلفة ستختلف الرؤية ومفردات المنظر المسرحى، ولن يحذف هذا القدر من المشاهد والشخصيات. 

فى النهاية يصرخ «دون كيشوت»: أنا لا شىء، لست فارسًا، لم أوجد فى حياتى، إنى أستسلم، مكافأة الحكمة أن يموت الإنسان مستريحًا، وينصح تابعه «سانشو» بأن يعود إلى عقله.. كسبت العقل وسأموت به لأنها طواحين الهواء! فالنص والرواية من قبل ما هى إلا انتصار وانحياز لعصر التنوير والعقل، ولا تخلو بالطبع من سخرية من الفروسية وقيم تلك العصور التى لم يعد لها وجود، ولكن هل لا يحتاج الإنسان إلى هذه الرحلة؟، دون شك يحتاجها، سوف يظل الإنسان يحلم ويخرج من قفص العقل، إلى عالم الخيال، لهذا وضع الفرنسى «جامياك» مشهدًا بعد النهاية، وكأنه اقتراح أو تخيل، حيث يتردد الصوت: «أنا قادم»، وحين يأتى جنود الملك يقول القس: لقد رحل «دون كيشوت»، ونشاهد حصانه وفوقه الكتاب والرمح، وإلى جواره «سانشو» فوق حماره، ولا نسمع سوى: لن تكون الكلمة الأخيرة للشيطان.. وبالطبع لا يقصد إبليس بالمعنى الحرفى، يقصد قيم الزيف والقهر والظلم، التى بحث عنها وحلم بها «دون كيشوت».