أحمد مجدي همام يكتب: الفقاعة.. مكتب تزوير المعلّقات وإدارة العالم
- أطلقت على زاويتى القصية الهادئة فى القهوة: «مكتب تزوير المعلّقات وإدارة العالم»
- هذا المكان ليس سوى فقاعة خيالية مصنوعة من الماء والتاريخ والعشب والصابون
- أناضل للتشبث بسلامى النفسى فأفعل كل ما من شأنه أن يجعل الحياة ملوّنة
فى سنواتى الغابرة، وفى حقبة من حِقب الاكتئاب، خرجت من البيت فجرًا لا أعرف إلى أين، كنت فقط أريد أن أتمشى، وأتأكد بنفسى هل ستكون الدنيا بالأبيض والأسود عندما تشرق الشمس، مثلما أشعر بها فى داخلى، وأرى كل شىء باهتًا، وبلا لون أو طعم، أم أن هذا التصور نبتة شيطانية أخرى من بنات أفكار الاكتئاب؟
فى الليل، تحكم الكلاب شوارع حينًا، هذه صفقة ضمنية وغير مكتوبة بين البشر والكلاب: الشوارع لنا بالنهار، ولهم فيه المسكنة والهامش، أما الليل فلهم ولنا فيه بيوتنا والنوم. غير أن تلك الكلاب المتجمعة على الناصية مثل الشباب الصيّع ومروّجى الاستروكس والحشيش، لم تعرنى أى انتباه، كأنما أنا طيف مرق من وسطهم، «هل أنا شفّاف؟». لم أكترث كثيرًا وواصلت خطواتى نحو الشارع الرئيسى، حيث أعمدة الإضاءة الكبيرة وأنوار بعض المحال البعيدة. بعد مسافة، انبثقت عن يمينى مساحة خضراء كبيرة وآسرة، تناثرت فيها بعض الطاولات البلاستيكية، إنها قهوة، لا أعرف لماذا لم أتنبّه لها من قبل، على الرغم من أننى أقطن فى هذا الجوار منذ سنوات طويلة!
لدى خبرة معقولة فى التقاط الإشارات، والقهوة بجنينتها الفاتنة، همست لى، كأنها ندّاهة، وكأنى مسرنم، فقصدتها، بينما بدأ لون الأفق فى التغير استعدادًا لإشراق الشمس. عاينت الجنينة الجميلة، نظرت إلى اليافطة الكبيرة المعلّقة قرب أحد مداخلها: «الأندلس». «الأندلس؟»، تساءلت: إذا كان اسم هذه القهوة هو الأندلس، إذن فهذه القهوة ليست موجودة، وليست حقيقية، تمامًا مثل الأندلس؟ وبالتالى فإن هذه القهوة والعدم سواء. ولا تمت للواقع بصلة، هذا المكان ليس سوى فقاعة خيالية مصنوعة من الماء والتاريخ والعشب والصابون. أعجبتنى الفكرة، وقلت لنفسى إنه من الصعب على الواقع، وهو من هو فى الشر والقسوة، أن يجرح رجلًا يتواجد فى مكان غير واقعى. «هذه القهوة أمان»، قلت لنفسى، واعتمدت الفكرة كمدخل جيد للتعارف مع المكان.
رواد المقهى العجيبون
مع دخولى إلى المكان، كان آخر الزبائن السهّيرة يهم بالمغادرة، لقد قضت شلة المراهقين تلك ليلها على القهوة، يدخّنون الشيشة، ويتداولون النمائم، ويستمتعون بنسمة صيفية طرية يندر أن يوجد مثلها فى مثل ذاك الوقت من العام. اخترت طاولة تقع على حافة مساحة خضراء كبيرة، وتقع تحت فروع متدلية لصف من أشجار الفيكس بنجمينا تشكّل ضلعًا كاملًا من أضلاع القهوة.
بعد قليل بدأ السحر، عندما هبط غرابان فى وسط جنينة المقهى، وبرزت لهما قطة شارع وشرعت جميعها فى مباراة من الكر والفر، مباراة حقيقية استخدمت فيها الغربان أجنحتها للفرار والمناورة، بينما زادت أعداد القطط وراحت تناور برشاقته وبمخالبها. رحت أتابع المشهد العجيب فى لحظات الصباح الأولى. ما هذا؟ لم أتنبّه لنفسى إلا حينما أقبل قهوجى أشقر ليسألنى ماذا سأشرب. طلبت فنجانًا من القهوة وصرفت القهوجى الذى بدا شعره الأشقر وعيناه الملونتان لائقة على «الأندلس». ورحت أواصل متابعة السيرك الذى وجدت نفسى فى خضمه، خصوصًا وقد انضمت بعض الكلاب للحفل، وباتت الجنينة أمامى مساحة لألاعيب صباحية بين حيوانات قهوة الأندلس.
بعد دقائق، وضع قهوجى آخر فنجان أمامى، سألته: «اسمك يا برنس؟» فأجاب بهدوء أمام نظراتى المتعجبة: «النرويجى»، وانصرف. كانت تلك اللحظة، بمثابة الختم على أوراق اعتمادى زبونًا دائمًا فى القهوة، واعتماد «الأندلس» قهوتى المفضلة.
مكتب تزوير المعلقات وإدارة العالم
مرت أشهر، وصرت وجهًا مألوفًا فى جنينة قهوة الأندلس، لى ركنى الذى يعرفه القهوجية، ولى مشاريب لا أغيرها، وتأتينى دون أطلبها، وهناك مجموعة من القطط الملونة، صارت تعرفنى وتأتى لتلقى على التحية وتنتظر ما إذا كنت سأجود عليها بنسيرة من رغيف حواوشى أجلبه معى من حين لآخر، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ صار بعض الناس من الوجوه الدائمة فى القهوة يلقون السلام من حين لآخر، وخلال بعض مباريات الكرة التى أحب أن أتابعها، توطدت بينى وبينهم علاقة محددة ومشروطة، علاقتنا ستنتهى بانتهاء المباراة، سأغادر بعدها وأذهب إلى ركنى القصى تحت أشجار الفيكس بنجامينا، وستذهب أنت إلى أى مكان آخر.
لكنّ شابًا ذا شعر ناعم ولحية مشذبة اخترق فقاعتى ذات يوم، وجدته يقف أمام طاولتى دون تردد وقال: «النرويجى أخبرنى بأنك أديب تكتب الروايات، وأنك تظهر على التليفزيون من حين لآخر، وأنك حصدت بعض الجوائز الأدبية.. هل هذا صحيح؟».
كنت أعرف هذا النمط من الأسئلة، الذى ستعقبه جملة من اثنتين: «سأحكى لك قصة حياتى العجيبة لتضعها فى كتاب»، أو: «أنا أيضًا أكتب الشعر وألقيه على مسامع أمى وزملائى فى الجامعة، وأريد أن أعرف رأيك». وكان هو من النوع الثانى. شاب صعيدى وسيم، يكتب القصائد العمودية حول شرف الأمة ومجد الإسلام والأقصى وفلسطين وضرورة إبادة اليهود. وعندما انتهى من قراءة نصه، ونظر إلى نظرة المشتاق لمعرفة رأى المعلّم الأكبر، استعرت طرفة الشاعر اليمنى الكبير عبدالله البردونى، وقلت للشاب الصعيدى: «فيك خصلة من رسول الله»، فتهلل وجهه بالبشر وأشرقت عيناه وندّت عنه ابتسامة صغيرة وسأل بتلهف: «ما هى؟»، فقلت: «وما علّمناه الشعر وما ينبغى له».
المدهش، أنه لم يُصدم، لم يُصدم تمامًا، وهذا أعجبنى، لأن الشاعر الشاب الردىء قال بثقة: «ما زلت صغيرًا، وسأحرص على أن أتعلم، سأتعلم منك». ومنذ ذاك اليوم صار الشاب جزءًا من مجلسى اليومى على القهوة، وأنا، لأتجاوز حضوره اللحوح، صرت أعتبره مجرد فرع فاسد سقط من أشجار الفيكس بنجامينا، وأنبت هذا الشاعر الردىء. وبعد مدة، كنت قد استمعت فيها إلى الكثير من القصائد الرديئة، أطلقت على زاويتى القصية الهادئة فى القهوة: «مكتب تزوير المعلّقات وإدارة العالم».
معركة مع الأبيض
يعلو الاكتئاب وينخفض، وأنا أناضل للتشبث بسلامى النفسى، فأفعل كل ما من شأنه أن يجعل الحياة ملوّنة. وفى أحد أيام الاكتئاب تلك ذهبت إلى القهوة، ولم أقصد طاولتى فى الركن القصى تحت أشجار الفيكس بنجامينا، وإنما دخلت إلى مبنى القهوة، وجلست أمام الشاشة لأتابع مباراة فى الدورى المصرى لكرة القدم.
بعد دقائق لاحظت أن هناك حركة غير اعتيادية فى القهوة، إذ راح القهوجية يرصون الكراسى فى صفوف. وعرفت أن فريق الزمالك سيخوض مباراة ضمن البطولة الإفريقية، وأن الزملكاوية سيقبلون بعد قليل ويملأون المكان لمتابعة فريقهم المفضل، ولأسباب غير معلومة اتخذت لنفسى موقعًا بينهم، رغم أننى أشجع الأهلى، لكننى قلت لنفسى إن البقاء على القهوة وسط الناس خير من أن أصعد إلى غرفتى وأواجه نفسى وأفكارى فيتفاقم اكتئابى.
امتلأ المكان وبدأت المباراة، وما هى إلا دقائق حتى تلقى الزمالك هدفًا، وبشكل لا إرادى صفّقت وأعربت عن إعجابى بالفريق الأنجولى، وكان ذلك التصرف إشارة البدء لفاصل من الفوضى. بدأ الأمر عندما استدار الشاب الجالس أمامى وسألنى بغضب: «حضرتك إسرائيلى؟». وقبل أن أجيب سمعت رجلًا آخر يقول: «لو مش عاجبك غور اقعد بره فى الجنينة»، التفت له وهممت بالرد قبل أن أشعر بيد توضع على كتفى فنظرت له لأجد رجلًا ضخمًا يطالبنى بالاعتذار.
هكذا، وبدون أن أنتبه، وجدت نفسى عالقًا فى أعماق القهوة، وسط حشود من الجماهير البيضاء الغاضبة، الذين بدأوا فى الإقبال صوبى «ليتفاهموا معى»، ارتفع صوتهم وارتفع صوتى، وبدأتُ أشعر ببعضهم يدفعنى، لما ولّيت فريقًا منهم ظهرى، دفعونى، فأستدير لهم ليدفعنى غيرهم، ومن حين لآخر أنظر صوب باب القهوة فأراه بعيدًا ويفصلنى عنه ما لايقل عن ثلاثين رجلًا غاضبًا يرتدون كلهم فانلات بيضاء بخطوط حمراء. ما هذا المأزق؟ تداخلت الأصوات وطغت على صوت معلّق المباراة، وزادت الدفعات، وانتقلت من مرحلة الدفاع عن النفس بالصوت العالى، إلى السباب، وقبل أن أغرق فى عين الإعصار، سمعت صوت النرويجى قادمًا من بعيد، وراح يقترب شاقًا الحشد، ومن ورائه اثنان من القهوجية الذين وصلوا إلىّ وضربوا حولى طوقًا ثم سحبونى إلى الخارج، كما يسحب الونش، سيارة معطوبة.
لقد أنقذنى النرويجى، وعاتبنى لأننى أخطأت عندما احتفلت بهدف فى مرمى الزمالك، وسط ٥٠ رجلًا من جمهوره. وفى اليوم التالى، اتصل بى النرويجى وطلب منى أن آتى إلى القهوة لأن هناك «أمرًا ما». وعندما ذهبت محاذرًا وجدت ٣ من جماهير الزمالك أبطال موقعة الأمس، ينتظروننى ليعتذروا لى عما بدر منهم وما بدر من الآخرين.
والآن، انقضت عشر سنوات منذ تعرّفى على الأندلس، وانقضت ٥ سنوات منذ واقعة الجمهور الأبيض، وما زالت الكلاب والقطط تظهر يوميًا فى قطعان لتمشط جنينة القهوة فى ساعات الصباح المبكر، وما زالت الغربان تحط يوميًا لتنقر الحبوب وتشرب من المياه المتجمعة عند أطراف الجنينة بعد أن يقوم البستانى بريّها. وما زلت أرى الغربان ولا أتشاءم منها، بل أعتبرها، أول سفراء الأندلس لدى، وأول من دعانى إلى الدخول فى تلك الفقاعة، التى تحمينى من الواقع.