«الست فاطمة».. صلاح حافظ يكتب فى عيد ميلاد المجلة الستين عن سر «روزاليوسف»
-عهدت لى بباب «المجتمع» فنجح الباب لأننى عبرت بإخلاص عن نظرتى إلى أخباره ورويتها كما يروى الفلاح أخبار بنى البندر
-إحسان عبدالقدوس وجد فى شخصى الضعيف بديلًا يعفيه من عبء الصياغة ويعيد كتابة ملزمة كاملة من المجلة بأسلوب مقبول
شاءت الصدفة أن التحق بـ«روزاليوسف»، وقد تولاها رئيس تحرير جديد شاب يريد أن يثبت جدارته، وشاءت الصدفة أن يكون هذا الرئيس الجديد- إحسان عبدالقدوس- أديبًا يتقمص دور الصحفى، ويعيد صياغة كل سطر فى المجلة لا يروق له أسلوبه، فكان أول ما طلب منى، لكى يختبر أسلوبى، أن أُعيد صياغة تحقيق قصير عن احتفال أُقيم فى الإسكندرية لانتخاب ملكة جمال مصر.
وشاءت الصدفة أن تكون التى فازت فى هذا الاحتفال فتاة يونانية، وكأن مقاييس الجمال المصرى لم تجد ما يعبر عنها غير وجه مستورد.
فلم أتردد فى أن أجعل من هذه المفارقة محور الموضوع كله، وأن أحوّل القصة من خبر إلى نكتة، ولم يكن ذلك عن قصد منى، وإنما شاءت الصدفة أن أكون طول عمرى مولعًا بالمفارقات، وأن يتأثر أسلوبى فى الكتابة دائمًا بطبيعة الموضوع.
وقرأ إحسان ما كتبت، وقال: كويس.
لكن الفرحة التى أشرقت على وجهه كانت أكبر بكثير من كلمة «كويس».
فسرتها فى ذلك الوقت بأنه انبهر بى، ثم أدركت فيما بعد، ودون أن يصارحنى، أنه وجد فى شخصى الضعيف بديلًا يعفيه من عبء الصياغة، ويعيد كتابة ملزمة كاملة من المجلة بأسلوب مقبول، ويحرره هو لممارسة الأدب القصصى والأدب السياسى وحملة «الأسلحة الفاسدة» التى مهدت لإسقاط النظام الملكى.
ولأن إحسان كان فى حاجة ماسة إلى من يؤدى هذه الخدمة الجليلة له، وللأدب، وللثورة، فإنه اتخذ بشأنى قرارًا بالغ الجرأة هو أن يكون راتبى خمسة عشر جنيهًا فى الشهر.
لم يكن قد سبق فى تاريخ «روزاليوسف» أن بدأ محرر فيها بمثل هذا الراتب الهائل، وقال لى إحسان بصراحة إنه لا يضمن أن توافق والدته السيدة فاطمة اليوسف على هذا الرقم، لكنها وافقت، ولم تنس أن تخطرنى، وهى توافق، بأن أستاذ الصحافة المصرية الحديثة، محمد التابعى، كان يرأس تحرير المجلة بخمسة جنيهات فقط.
وبعد أن صرت، ككل الذين عملوا فى روزاليوسف، واحدًا من أبناء هذه السيدة النادرة، وصرت مثلهم جميعًا فى مكانة إحسان، فسرت لى موافقتها على تعيينى بهذا الراتب الضخم قائلة: أصل إنت حتبقى كاتب كويس.. بس عيبك إنك طماع. على أن رأى هذه السيدة الجليلة كان يتغير بين وقت وآخر فيما يتعلق بطمعى أو زهدى، فكان رأى إحسان عبدالقدوس فيما يجب أن أقوم به فى المجلة، فقد رسخ فى ذهنه، منذ قرأ صياغتى للتحقيق الخاص بملكة جمال مصر، أننى خُلقت لكى أكتب أخبار المجتمع والحفلات والسهرات.
كتبت قصصًا ونشرها.
كتبت مقالات وأبرزها.
كتبت بابًا علميًا بعنوان «انتصار الحياة» واحتفى به.
توليت صياغة جميع أخبار السياسة، وأخبار الفن والعلم والرياضة.
لكن الأهم عنده كان الالتزام بأن أكتب كل أسبوع أخبار المجتمع الراقى فى مصر، تحت عنوان: «أين يذهب الناس؟، وأنا رجل فلاح، لم ير القاهرة إلا بمناسبة التحاقه بالجامعة والمناسبات الاجتماعية التى أعرفها هى حفلات الزفاف وحفلات العزاء ولم يكن قد سبق لى، فى ذلك الوقت، أن شاهدت سباق خيل، أو سهرة راقصة، أو مهرجانًا فى نادى الجزيرة، أو نساءً يرتدين مجوهرات حقيقية.
وقلت لإحسان: أنا لا أعرف هذا الجو.
فقال ببساطة: لهذا ستجيد الكتابة عنه.
قلت: ليس عندى حتى ما يلزم من ثياب لحضور هذه المناسبات.
قال: أنا لا أطلب منك حضورها، بل أحذرك من حضورها.
قلت: كيف سأكتب عنها إذن؟
قال: بعد قليل سأعرفك بالمصادر التى ستزودك بالأخبار.. وقد كان.
دعانى إحسان إلى مكتبه ليقدم لى صديقين، فلان وعلان، هما من أبناء الذوات وكلاهما ضابط بالقوات المسلحة، وكلاهما يعيش سهرات المجتمع جميعًا، ويعرف بالتفصيل ما جرى فى السهرات التى يشهدها، ويعرف ما سيجرى فى السهرات المقبلة، وكان أحدهما أشبه بـ «الكمبيوتر».. لا ينسى شيئًا رآه.
وسيظل هذا «الكمبيوتر» العجيب ماثلًا فى ذاكرتى طول حياتى، فقد أحببته منذ رأيته، وكان يذهلنى كلما زارنى ومعه حصيلة أخباره.
كان يضع أمامى على المكتب أوراقًا تملأ مجلدات، وكلها أخبار صحيحة، وكلها مفصلة، فلانة ذهبت إلى سباق الخيل، وكان معها فلان وعلان، وكانت تلبس ثوبًا أبيض وعقدًا أزرق، وحلقًا على هيئة الهلال، وكان حذاؤها فضيًا وكعبه على ارتفاع بوصتين، وكان شعرها مضمومًا إلى الوراء وكان زوجها يلبس بذلة زرقاء، وفى جيبه منديل أصفر، وعندما فشل الحصان الذى راهنت عليه غضبت، بينما ابتهج فلان بك، الذى سبق أن فسخت خطوبتها له، والذى كان يلبس حذاءً أبيض، وبنطلونًا أصفر، ومعه خطيبته الجديدة، بنت فلان الفلانى، فى ثوب أزرق ذى خيوط ذهبية، وعقد من اللؤلؤ أهداه لها والدها فى عيد ميلادها، وفيه ٣٦ حبة، منها خمس حبات سوداء، والباقى من اللؤلؤ الأبيض المائل إلى الزرقة، والذى صنع هذا العقد هو الجواهرجى الإيطالى السينيور «فلانو»، الذى تزوج فى العام الماضى من كريمة فلان باشا.. إلخ.
كان هذا المصدر الصديق أعجوبة، وكان يمكن فى أى صحيفة عالمية أن يكون راتبه مليون جنيه فى الشهر، لكنه كان يزودنى بكل هذه الثروة الإخبارية مجانًا، ولسببين:
الأول: أنه صديق الإحسان.
الثانى: أنه يحب فى ذلك المجتمع أشخاصًا يريد أن يجاملهم، وقد تفاهمت معه على تلبية هذه الرغبة مجانًا فى مقابل خدماته.
وكان هذا المصدر نقى القلب إلى حد لا يصدق، ولم يكن يكترث بما يجرى فى مصر خارج إطار الحياة الاجتماعية التى هو متفرغ لها، وكان يكتب لى أخباره بلغة لا شأن لها بالعربية وقواعدها ونحوها وهجائها، ولكنى تدربت على فهم ما يقصد من معان، وتفاهمت معه على رمز يكتبه حين يريد منى أن أجامل أحدًا من الذين يتحدث عنهم فى أخباره.
وكان الرمز كلمة «دوس».
يقول مثلًا: ثم ظهرت فى الحفل فلانة «دوس»، وكانت تلبس كذا وكذا، فأفهم أنه يريد وضعها فى الخبر بصورة جذابة، وألبى هذه الرغبة دون تردد مكافأة على الثروة الإخبارية التى يزودنى بها دون مقابل.
ولأننى كنت فلاحًا، فإن صياغتى لهذه الأخبار الواردة من عالم لا أعرفه، ولا أفهمه، كانت بالطبع صياغة رجل مندهش بما يسمع.
وكانت هذه الأخبار، بالنسبة لى، كنزًا من الأعاجيب يسمح لى بممارسة رياضتى الأسلوبية المفضلة.. رياضة العزف على المفارقات.
وأصبحت نوادى السادة فى مصر تتلقفه وتتوقعه وتتوجس مما ينشر فيه، أسبوعًا بعد أسبوع.
وأصبح فقراء القراء يتابعونه، ويقرأونه لبعضهم البعض بشهية الذى يطل من ثقب الباب على عالم غير مسموح له بأن يدخله من الباب.
وكانت مصر وقتها حبلى بالثورة، وكانت المسافة بين حياة الأثرياء وحياة الفقراء قد بلغت أقصى اتساعها، ولم يعد ممكنًا أن تعبرها غير ثورة شاملة.
وعندما نشبت الثورة فعلًا فى ٢٣ يوليو قيل إن مما ساهم فى نشوبها ومهد الأرض لاندلاعها، حملة إحسان عبدالقدوس على الأسلحة الفاسدة التى هزمت الجيش المصرى فى حرب فلسطين.. وباب «المجتمع» الذى كانت تنشره فى نفس الوقت مجلة «روزاليوسف».
وفيما بعد قال إحسان عبد القدوس إنه تعمد أن يعهد بباب «المجتمع» هذا إلى كاتب يسارى، لكى يحيله إلى باب يحرض على الثورة، وقد يكون هذا بالفعل هو ما قصد إليه إحسان عندما كلفنى بصياغة هذا الباب.
أما أنا.. فأقسم بالله العظيم أننى لم أكن أقصد شيئًا ولا خطر ببالى أن أستثمر هذا الباب لهدف محدد.
كنت ثائرًا، نعم ولكن بالمنشورات، وبالمطابع السرية وبالخلايا والاجتماعات والمظاهرات، أما «باب المجتمع» فلم يخطر ببالى أن أستثمره لصالح الثورة، إنما كتبته كعمل مهنى بحت، وكانت مفارقاته بالنسبة لى فرصة للأداء الصحفى الجيد، وكان هدفى وأنا أكتبه هو إتقان الأداء، لا أكثر ولا أقل.
لكن الكاتب دائمًا أسير معتقداته.
ولأننى عدو للطبقية، وخصم لجميع صور التمييز بين بنى الإنسان، فقد جاءت صياغتى لباب «المجتمع» فى «روزاليوسف»، دون أن أقصد على الإطلاق، صياغة تشهر بالطبقية وتسخر من صورها الفادحة، والفاضحة.
وقد أدهشنى كثيرًا أن ينسب لهذا الباب، ولشخصى الضعيف دور مقصود، لكن السمعة الطيبة التى فاز بها الباب، والتى نسبت لى مجدًا لا أستحقه، نبهتنى إلى حقيقة كنت غافلًا عنها، ولقنتنى درسًا أتمنى لو استوعبه حملة الأقلام فى مصر، درسًا يقول لكل من يمسك بالقلم.. قل ببساطة ما تشعر به تشارك، دون قصد، فى دفع عجلة التاريخ.
لا يهم موقعك من هذه العجلة، لا يهم مستوى القضية التى أنت مشغولًا بها. لا يهم أن تكون زعيمًا، أو رئيس تحرير، أو أديبًا، أو مجرد ريشة تصحح أخطاء الآخرين، يكفى أن تؤدى مهمتك بإخلاص، وحماس، وأن تعبر فيها عما فى ضميرك دون زيف، لكى يكون لك دور فى صياغة المستقبل.
وأوضح دليل على ذلك هو قصتى مع «روزاليوسف» وباب «أين يذهب الناس»؟.
بالصدفة اختبرتنى فى الصياغة فنجحت لأننى باخلاص من عشاق الأساليب، وضمتنى إليها، وصرت جزءًا من تاريخها.
وبالصدفة، عهدت لى بباب «المجتمع» فنجح الباب لأننى عبرت بإخلاص عن نظرتى إلى أخباره، ورويتها، كما يروى الفلاح أخبار بنى البندر، وشارك الباب فى دفع عجلة الثورة التى قامت لتحقيق المساواة بين جميع المواطنين.
والإخلاص كان المفتاح وقد شاءت الصدفة أن يكون ما أخلصت له هو ما صدرت «روزاليوسف» من أجله: الحق، والعلم، والتقدم.. والذوق الفنى.
وشاءت الصدفة أيضًا أن أولد يوم صدر عددها الأول وأن يكون عيد ميلادها هو عيد ميلادى وسنها هى سنى.
وهى اليوم قد بلغت الستين من العمر.
لكنها، وهى فى نفس سنى، أكبر منى بكثير، لأن عمرها هو مجموع أعمار الذين التحقوا بها، وتعلموا فى مدرستها، والذين لقنتهم ذلك الدرس العظيم: لا تشغل نفسك بالتاريخ، قل ما تؤمن به، وعبر عما فى داخلك.. تشارك دون أن تدرى فى صنع التاريخ.