مصنـع السحـاب.. فصل من رواية حامد عبدالصمد الجديدة
- لم تصدق هاناكو عينيها عندما بدأ يوشيدا بالاقتراب منها جسديًا
- كانت تشعر بأن ما تمنحه ليوشيدا هو خدمة للرب
تناولت «هاناكو» دلو الماء وغطست فيه قطعة قماش، لتبدأ بمسح حافة الشباك وإزالة ما تجمع من أوراق الشجر التى علقت بحاجبه. رفعت نظرها للأعلى، وجالت بعينيها على الأشجار الممتدة لأميال، شعرت بقشعريرة تسرى فى جسدها، فهى لم ترَ ألوان الخريف بهذا الجمال من قبل، ولا تعرف كيف يبدو منظر الخريف بعيدًا عن الغابات المحيطة بها. سيطر عليها شعور بالحزن فى ذلك الصباح، الحزن الغامض الذى ينتابنا، ونحن نودع مكانًا لم نعرف قيمته إلا عندما هممنا بالرحيل عنه. قد تكون أشياء بسيطة تكمن فى تفاصيل صغيرة، لا نراها إلا عند خسارتها إلى الأبد. رمت قطعة القماش المبللة مرة أخرى فى دلو الماء، فتناثرت بعض القطرات على الأرض. ألقت نظرة خاطفة على «الخرقة» التى غرقت فى الدلو، ثم أدارت رأسها وواصلت النظر إلى خارج النافذة. غالبًا ما تُغرق هاناكو مشاعرها بقطع الحلوى والبسكوت التى تعطيها إياها زميلاتها لقاء مساعدتهن فى تنظيف غرفهن، ولكنها لم تكن تريد الاعتراف بالهلع الذى حط بقلبها، ولو أرادت أن تصغى جيدًا إلى مشاعرها، لصرخت: أنتِ خائفة لأنك لا تعرفين كيف ستكون الحياة بعيدًا عن هذا المكان المنعزل.
رغم سذاجتها، عرفت هاناكو، ذات الستة عشر عامًا، أن شيئًا ما ينقصها، فقصدت مكتب مساعدة المديرة، ودقت بيدها على الباب بهدوء كمن يشعر بالخجل مما يفعل. فلما أذنت لها المساعدة بالدخول، وقفت هاناكو أمامها عاقدة يديها أسفل بطنها المكتنز وأخبرتها بأنها ستغادر غدًا، وسألتها إن كان هناك ما يجب عليها معرفته عن العالم قبل خروجها من الدار.
أزالت المساعدة الستينية نظارتها عن عينيها ووضعتها فوق الأوراق المتناثرة أمامها، وتنهدت كأنها لا تعرف من أين تبدأ. «لا شىء مما أقوله يمكن أن يساعدك فى الخارج يا هاناكو، عليكِ أن تختبرى الحياة بنفسك كى تعرفى. وحين يحدث ذلك سيكون حصيلة معرفتكِ أنتِ، لأنها كانت على مقاس تجاربك الذاتية»، قالت مساعدة المديرة وكأنها تتحدث إلى شخص بالغ، ولما رأت أن عينى هاناكو مركزتان على قطعتى «موتشى» فوق صحن صغير على الطاولة، أضافت: «أخبرونى أنكِ اخترتِ أن تهبى حياتك لخدمة الرب. ربما ستجدين فى الدير اكتفاءً يحل محل الاكتفاء الذى يمنحك إياه الطعام». استغرق الأمر لحظات كى تصل الإهانة مكتملة الأبعاد إلى هاناكو، وحين وصلت أصابتها كصفعةٍ غير متوقّعة. هزت هاناكو رأسها واستأذنت بالخروج، لكن المساعدة ما لبثت أن نادت عليها قائلة «يمكنك أن تأخذى قطعتى الحلوى معك يا هاناكو»، إلا أن هاناكو رفعت يدها شاكرة، وأسرعت عائدة إلى غرفتها وهى تقاوم دموعها.
كان جميع من فى دار الأيتام والمعلمات يعلم أن هاناكو ستغادر غدًا، ولكن إحداهن، وبرغم حزنهن لفراق هاناكو، لم تأتِ لتسألها عن مشاعرها ومخاوفها أو حتى لتسألها ما إذا كانت بحاجة إلى شىء. المرض والوداع والموت كلها أشياء يتعاملن معها بحيادية كبيرة تشبه الأمور الروتينية اليومية كتناول الإفطار وارتياد قاعة المحاضرات والقيام بالواجبات. «الاستماع إلى القصص الحزينة والبكاء على الفراق هى رفاهية لا يمتلكها إلا الأشخاص الأقل معاناة والأكثر حظًا»، قالت لها الطباخة العجوز «هوشى» كى تهون عليها قبل أن تضع قليلًا من الحساء الذى تطبخه فى طبق وتناوله لهاناكو:
«ألا تظنين أنه من الغريب أن تحزن زميلاتك على فراقك وقد فارقن آباءهن وأمهاتهن إلى الأبد منذ سنوات طويلة؟»، هزَّت هوشى رأسها المغطى بالقبعة الخاصة بالطباخين، وأضافت: «أنا كنت يتيمة هنا قبل أن أُصبح طباخة الدار، وأؤكد لك أن أحدًا فى هذا المكان لا يريد أن يفتح بوابات الحزن فى داخله يا هاناكو».
أكلت هاناكو وهى تحاول تناسى الإهانة التى تعرضت لها فى مكتب المساعدة، ثم وقفت وشكرت هوشى، وأخبرتها بأنها ستذهب لتحزم أمتعتها.
«هل لديك حقيبة؟».. سألتها هوشى وهى تنظر إليها بعينيها اللتين تشبهان حبتى زيتون فى صغرهما ولمعانهما. وعندما أجابت هاناكو بالنفى، أطفأت هوشى النار تحت القِدر، وقالت لها: «اتبعينى». لحقت بها هاناكو فى الممر الطويل، وراحت تراقب ظهرها المنحنى للأمام وساقيها الرفيعتين، فشعرت بغصَّة فى حلقها. عندما وصلتا للغرفة الصغيرة ذات السرير الواحد الملتصقة بالدار، وقفت هاناكو عند الباب تراقب هوشى التى جثت قرب سريرها وسحبت من تحته صندوقًا خشبيًا قديمًا. فى داخل الصندوق كانت هناك ثياب قديمة وبعض الكتب الصفراء وتماثيل صغيرة من التى يتبادلها الأشخاص فى المناسبات كتذكارات. بعد عدة دقائق من التقليب والتفتيش، سحبت هوشى حقيبة قماشية بنية نُقش على جانبها مثلث أزرق:
«هذه الحقيبة التى أتيت بها إلى هنا قبل خمسة وستين عامًا، ولكنى أعرف أننى لن أغادر هذا المكان أبدًا، لذلك أريدك أن تحصلى أنت عليها».
اقتربت هاناكو منها وساعدتها على إغلاق الصندوق وإعادته إلى مكانه تحت السرير، ثم جلست بجانبها، ولم يكن يبدد الصمت الثقيل سوى صوت أنفاسهما الخافتة.
«قبل سنوات كنت أفكر فى الأشياء التى سآخذها معى حين أغادر هذه الدار»، تنهدت هوشى وكأنها قررت أن تحكى عن نفسها فقط، لأنها تعلم أن هاناكو ستغادر فى الصباح، وبمغادرة هاناكو ستعود الطباخة العجوز صندوقًا مغلقًا على أحلامه وخيباته من جديد.
«كل ليلة قبل أن أغفو، كنت فى خيالى، أحزم أمتعتى، فأضع أشياء فى الحقيبة وأخرج منها أشياء أخرى حتى أنتهى من توضيب كل حاجياتى، بعدها، أخرج من بوابة الدار وأسلك الطريق إلى منتهاه»، قالت هوشى وهى تحدق فى الجدار الفارغ أمامها.
وضعت هاناكو يدها على ركبة هوشى فأحست بعظامها الناتئة. «ألم تخرجى من هنا من قبل؟» سألتها برقة. هزت هوشى رأسها نافية: «ولا حتى فى الخيال، لأننى لم أستطع أن أتخيل ما ينتظرنى هناك فى نهاية الطريق الفرعى المؤدى إلى هنا».
حضنتها هاناكو وشكرتها على كل السنوات التى أكلت فيها من طبخها، ثم ضمت الحقيبة إلى صدرها. «سأتذكرك دائمًا»، قالت والدموع تنفر من عينيها. لكن هوشى تحاشت النظر إليها وقالت: «الآن اذهبى يا هاناكو وكونى سعيدة، لا تأتى لوداعى فى الصباح، لأننى سأغلق بوابات الحزن فى داخلى هذه الليلة كما هو حرى بالجميع هنا أن يفعل». علقت هاناكو الحقيبة فوق كتفها وتراجعت خطوتين إلى الوراء، وهى ما زالت تمسك بيدى هوشى، ثم أفلتت أصابعها وعادت إلى غرفتها، وشعورٌ من الألم المختلط بالمرارة يسكن حنجرتها.
عندما فتحت الطباخة العجوز باب غرفتها فى السادسة صباحًا وجدت الحقيبة البنيّة معلقة على مقبض الباب مرفقة بملاحظة «إياكِ أن تتوقفى عن الحلم!».
ركبت «هاناكو» فى المقعد الخلفى للسيارة التابعة لدار الأيتام فى السابعة صباحًا، وبدأت رحلتها برفقة السائق إلى الدير التابع للكنيسة فى أحضان الجبل. خُيل لها أن الطريق غير متناهية وهما يمرَّان على بيوت متناثرة، ثم غابات، ثم مزارع وبعدها بيوت من جديد. فكرت بحيوات الأفراد الذين يعيشون داخل تلك البيوت وبعلاقاتهم وجلساتهم المسائية، لكنها لم تستطع أن تتخيل أيًا من تلك الأمور التى لم تعرفها فى حياتها. نامت قليلًا ثم استيقظت مذعورة لتجد أن السيارة بدأت بالصعود فى طريق متعرج وضيقٍ تصطف على جانبيه أشجار سرو طويلة متناسقة. بعد رحلة دامت عدة ساعات، وصلت هاناكو إلى الدير، ترجلت من المقعد الخلفى متأبطةً صندوقًا من الكرتون المقوى يحتوى على فستانين متواضعَين وخُفٍّ ومشط، كان هذا كل ما امتلكته طوال الحياة التى عاشتها فى دار الأيتام. كان القسيس «يوشيدا» فى انتظارها بوجهه البشوش وهدوئه الذى يشى بالأمل، ظنت للوهلة الأولى أن هالة تشبه النور كانت تحيط بوجهه، وشعرت بالحرج من أشياء لم تستطع أن تحددها أو تسميها. على كل من يبلغ السادسة عشرة من عمره أن يترك الدار كى يفسح مجالًا للأيتام الجدد، ولكن هاناكو المقطوعة من شجرة والتى لم يزرها أحدٌ يومًا ولا وصلت باسمها رسالةٌ واحدة، لم تجد سوى بيت الله كى تلجأ إليه.
جاءت بقلب يملؤه الخشوع عازمة على أن تصبح راهبة متفرغة تمضى حياتها فى التأمل والصوم والعبادة. أخذتها الراهبة الثمانينية «كاتشيكو» فى جولة لتعرفها على المكان. وبينما كانت هاناكو مأخوذة بجمال البناء الأبيض للكنيسة المنتصبة على حافة جبل يطل على وادٍ سحيق، تلتف حولها جبال مكسوة باللون الأخضر، طلبت منها كاتشيكو أن تتبعها. عبرا الجسر الممتد فوق إحدى البحيرات الصغيرة التى تتغذى على مياه الثلج المتراكم على قمة الجبل وتوقفتا عند منتصفه. كانت الراهبة ما زالت تتحدث عن تاريخ الدير ومؤسسيه حين شعرت هاناكو بأنها تنفصل عن جسدها السمين وتحلق فوق المكان كفراشة غير مرئية. شعرت بلحظة غبطة عابرة لم تختبرها من قبل. لم يكن لشعور الغبطة ذاك علاقة بما تقوله الراهبة، كان شعورًا يشبه العودة إلى مسقط الرأس أو عثور طفل تائه على عائلته. تأملت انعكاس الصورة المموجة للسياج البرتقالى للجسر فوق سطح البحيرة الذى تتساقط فوقه أوراق الخريف وابتسمت. اختتمت الراهبة الجولة بقولها:
«ستسكنين مع الراهبات، وسوف نمُدَّك بالمعرفة التى تتناسب مع قدراتك وسرعة تعلمك».
فرحت هاناكو بالراهبة اللطيفة، التى ذكرتها بـ«هوشى»، ولم تسألها عما قصدته بتلك الجملة. لاحقًا، وبعد أن ظهرت على هاناكو عوارض الضعف فى التركيز وميل للنشاط والحركة، اقترحت عليها الراهبة كاتشيكو أن تقوم بالخدمة كبديل عن التفرغ للعبادة. «كلٌ منا يعبد بحسب القدرات التى وهبها الرب إياه» قالت معتذرة. لم تعترض هاناكو التى غالبًا ما كانت تصارع كى لا تغفو أثناء عظة القسيس فى قداس الأحد، وتشعر بالدوار والصداع حين تصوم، وتفقد التركيز على كل ما هو مطلوب منها. بل على عكس ذلك، اكتشفت أن مزاجها يكون جيدًا وهى تكنس وتمسح الغبار عن الأسطح وتقوم برتيب المؤونة فى الخزانات، وتراقب الطبيعة من خلف زجاج المطبخ. لكنها شعرت بالحزن لأنها ستترك الراهبة كاتشيكو فى الدير وتنتقل للعيش فى دار الرعية، حيث تطبخ وتقدم خدماتها للقسيس.
لم تعد تذكر متى أصبح القسيس يوشيدا بؤرة لحياتها. ربما كان ذلك بعد وفاة الراهبة كاتشيكو، حين اقترب القسيس منها وراح يربت على كتفيها وهى تبكى بحرقة. كانت هاناكو تنظر إلى يوشيدا بإجلال وتشعر بالرهبة حين يدخل المطبخ بثوبه الأسود الطويل الذى يظهره بكامل وقاره وهيبته. وفى المرات التى كان يطيل جلوسه فى المطبخ بعد الانتهاء من تناول الطعام ويسألها عن تفاصيل حياتها فى دار الأيتام، كانت تشعر بفرحٍ خفى ستعلم لاحقًا أنه شىءٌ يشبه الاعتزاز بالنفس.
ومع مرور الوقت، وتكرار زياراته لها، صارت تشعر بالألفة، فهناك من يهتم بأمرها، نسيت أنها كانت غريبة أو وحيدة، ولم يعد وزنها الزائد شيئًا مهمًا. أحبت قربه، كان يقول لها أشياء جعلتها تشعر بأنها بخير. «كلنا يتامى يا ابنتى. كل البشر يتامى إلا مَن عادوا إلى درب الله» قال لها مرة، وبجملته الواحدة تلك ساواها بنفسه وبالآخرين. جملة واحدة جعلت الأسئلة التى لاحقتها طوال حياتها تختفى: لماذا تركنى أبواى؟ لماذا لم يتبننى أحد؟ كيف لشخص رفضته أمه أن يحبه أى شخص على وجه هذه الأرض؟ ولكن يوشيدا أنقذها بجملته. أنقذها لأنها تصدقه وليس لسر فى الجملة نفسها. أصبحت تنتظر قدومه إلى المطبخ وتشعر بالخيبة حين يتناول عشاءه مع ضيوف بيت الرعية أو خارج الدير. وحين يطول غيابه عن مطبخها، كانت تتوجه إلى الجسر وتقف هناك بانتظار لحظة الغبطة التى اختبرتها فى اليوم الأول لها فى الدير. ولكن تلك اللحظة لم تتكرر، وفى كل مرة كانت تنظر فيها إلى سطح البحيرة الساكن كان يطالعها وجه يوشيدا الباسم والهدوء الذى يملأ عينيه.
لم يخطر لهاناكو خلال السنة الأولى فى الدير أن مشاعرها تجاه يوشيدا قد تخطت الإعجاب الذى تراه فى عيون الراهبات وتسمعه فى همساتهن حين يتحدثن عن تدينه ووقاره. ولا فهمت شعورها بالنصر حين أتت إحدى الراهبات الشابات وحاولت أن تحقق معها بشأن جلسات يوشيدا الطويلة معها فى المطبخ «احذرى يا هاناكو. الجميع يحترم الأب يوشيدا ويراه فوق الخطأ، ولكن صغر سنك وقلة خبرتك ثغرات قد تتسلل منها أفكار الخطيئة»، قالت لها الراهبة الشابة ذات الوجه الأبيض الجميل بنبرة فيها بعض الود، لكنها لا تخلو من التهديد قبل أن تغادر المطبخ. وبدل أن تشعر بالخوف أو الإهانة، توجهت هاناكو إلى موقد الغاز وقررت أن تصنع لنفسها فنجانًا من شاى الياسمين، وإذا بالغبطة التى داهمتها فوق الجسر تخفق فى صدرها للمرة الثانية.
فى عامها الثانى فى الدير اختفت كلمة «ابنتى» من جمل يوشيدا، وكان قد استبدلها أولًا بـ«الأخت هاناكو»، قبل أن تختفى الألقاب وتصبح هاناكو بلا إضافات. لكن هاناكو التى لم تهبها الحياة فرصةً لتقول لأحد «أبى»، تمسكت بكلمة «الأب» بكل ما اختبرته من يُتم. وبقى يوشيدا فى أحاديثهما «الأب يوشيدا». لم تخبره عن الراهبة التى أتت إليها محذرة بشأن جلساتهما معًا، فهى ليست غبية لتخسر رفقته، ولا خفى عنها أيضًا أن الراهبات، اللواتى نذرن أنفسهن لحب الله وأقسمن على الابتعاد عن الشهوات والرذائل، ما زلن نساء. ربما استطعن إخفاء المشاعر التى تطال البشر، الرغبة، الحسد، الحقد، الغيرة، ولكن لا يمكنهن التخلص منها. لقد سمحن لأنفسهن أن يحببن يوشيدا فى العلن بصفته الرجل الذى يمثل سلطة الله، لكن من الصعب على أى منهن إدراك أن جزءًا من ذلك الحب، مرتبط بحقيقة أنها الأنثى ويوشيدا هو الذكر.
لم تصدق هاناكو عينيها عندما بدأ يوشيدا بالاقتراب منها جسديًا، لذلك لم تُبدِ أى ردة فعل حين مد يده للوصول إلى إحدى الأوانى فوق الرف ولصق جسده بها وهى تغسل الفاكهة فوق الحوض. تجمدت فى مكانها وكأنها فأر وقع تحت مخلب قط. ربما كانت حينها فى الثامنة عشرة من عمرها ويوشيدا فى الخامسة والأربعين حين حدث الأمر للمرة الأولى. ولكن فى المرة الثانية لم يلتصق بها فحسب، بل فرك جسده على جسدها بحركة شديدة الخفة جعلتها تتسمر فى أرضها هذه المرة أيضًا. عندما خرج من المطبخ تضاربت المشاعر والأفكار فى رأسها، لكن الرفض لم يكن أقواها. إنه يوشيدا! الرجل الذى يفتنها برزانته ونبوغه وورعه، يحاول التقرب منها! هل هذا معقول؟ هى التى لم يكترث لأمرها أحدٌ ولا نظر إليها رجلٌ برغبةٍ يومًا، كيف لا يذوب قلبها من لمسة يوشيدا، الرجل، الوسيم، ذى الطلعة البهيّة والمنكبين العريضين والخصر الرفيع.
ذكرها هذا الالتحام العابر بأنها أنثى. وقفت ذات ليلة أمام المرآة، كانت قد خرجت من الحمام للتو وغطت جسدها بمنشفة تلتف حول صدرها وتصل إلى ركبتيها. مالت برأسها إلى اليمين وراحت تتأمل الأجزاء المكشوفة من جسدها. حوَّلت عينيها عن كتفيها وذراعيها المكتنزتين لتتأمل ساقيها، فوجدتها ثخينتين قصيرتين. ربما كانت تلك هى اللحظة التى شعرت فيها بشىء من الامتنان تجاه يوشيدا، الذى، على الرغم من قِصرها وبدانتها، وجد فيها ما يحرك شهوته.
فى الأشهر الأولى، كانت تشعر بأن ما تمنحه ليوشيدا، هو خدمة للرب، فهو فى نظرها كان راعيًا من رعاة الله يتحدث باسمه ويرشد الناس إليه. وهى التى تقدم خدماتها للرب، عن طريق الطبخ والتنظيف، تمنح صمتها ورضوخها بالقبول نفسه حين يحك يوشيدا جسده فوق مؤخرتها. ولكنها فى أحيانٍ أخرى كان يتملكها شعور بالخوف لا تعرف مصدره. خوف يأتى نتيجة إدراكٍ مباغتٍ بأن يوشيدا يرتكب خطًأ بحق الله حين يقوم بهذا الأمر. هكذا ظنت، بعد أن أسقطت نفسها من المعادلة. لم يخطر ببالها أبدًا أن يوشيدا يرتكب خطًأ بحقها هى، ولم تفكر للحظة أنها تُنتهك من قبل رجل يكبرها بأكثر من خمسة وعشرين عامًا. بل كانت، كلما اقتحمتها الشكوك، تطلب من الرب العفو والهداية. تأرجحت أفكارها، بين القبول والاستنكار، بين انجذابها ليوشيدا وارتباكها بشأنه. لكن الأمر الوحيد الذى كانت متأكدة منه هو أنها تريده قريبًا منها.
تصدر قريبًا عن دار الآداب فى بيروت