ألمانيا «على العجلة»!... قاهرية فى برلين: أجرة التاكسى بثمن 7 كيلو لحمة
- إلزام سائقى الدراجات بارتداء خوذة وملابس عاكسة للضوء
- 9000 يورو دعمًا للمواطنين حال شراء سيارة كهربائية لأول مرة
بدأت الطائرة فى الهبوط، أسرتنى على الفور تلك المساحات الخضراء مترامية الأطراف أسفل نتف السحب المتناثرة من حولى. أنا القادمة من سنوات العيش بالخليج العربى، كانت روحى تتلهف إلى تلك البقاع الساحرة شديدة الخضرة أسفل الطائرة، كان قلبى يتهافت للهبوط كدت أشعر به يسبق الطائرة لاحتضان تلك الطبيعة السمحة، وتمثل حظى البَسم يومها فى هذا الكرسى المطل على نافذة طائرة «مصر للطيران» المتجهة إلى برلين.
سافرت ألمانيا بمنحة من مؤسسة صحفية تُدعى «IJP» تهدف إلى تدريب صحفيى الشرق الأوسط على الصحافة الألمانية، وترسل كذلك صحفيين ألمانًا إلى مختلف بقاع الشرق الأوسط فى نوع من تبادل الخبرات وفتح آفاق جديدة للصحافة ومحاولة تعميق فهم السياسة والاقتصاد والثقافة فى البلاد المضيفة.
هبطت الطائرة بسلام، فترجلنا جميعنا خارجين منها، كنت أتلمس هواءً طازجًا عوضًا عن هواء الطائرة الذى استنشقته لما يقارب الأربع ساعات والنصف هى تقريبًا مدة الرحلة من القاهرة إلى برلين.
أنهيت الإجراءات وجاءت اللحظة الحاسمة، أنا والهواء الطازج وجهًا لوجه، لفحتنى نسمة هواء باردة جدًا على وجهى، تقبلتها بصدر رحب، فاستشعرتها تلفنى وتتحول إلى دفء تدريجى فألفتها وألفتنى واعتبرتها طريقة «برلينية» للترحيب.
بدأت علاقتى مع المواصلات فى ألمانيا عند بوابة الخروج من مطار برلين، كانت حقائبى الثلاث منتفخات كادت تفرغ ما فى بطونها على رصيف المطار، فلم أدخر موضعًا إلا وملأته! نظرت لها فى إشفاق ودارت عيونى فيما هو حولى بحثًا عن تاكسى ما.
أشرت لأحدهم فتوقف على الفور، ساعدنى بنقل حقائبى لتستريح فى المقعد الخلفى وجلست أنا بجواره. دار بيننا كلام مقتضب ولاحظ حماسى المشتعل لاستكشاف المدينة فسألنى: «أول مرة لك فى برلين؟» فهززت رأسى مجيبة بنعم. وصلنا إلى وجهتنا فرحب بى وطلب أجرة كانت نحو ٧٠ يورو، دُهشت لضخامة المبلغ ولكنى دفعت على أى حال.
فى المساء قابلت صديقًا وقصصت عليه قصة أجرة التاكسى وسألته هل هذا طبيعى؟ كنت أعلم مسبقًا أن الحد الأدنى للأجور فى ألمانيا يساوى تقريبًا ١٨٠٠ يورو، فبالمنطق كنت أشعر بأن ما دفعته للتاكسى وبمراعاة المسافة التى قاربت على ١٥ دقيقة هو أكثر من المعتاد. وبالفعل صُعق صديقى من جشع السائق ولامنى لعدم الاتصال به فور وصولى، ولكى يشعرنى بفداحة ما اقترفت قال «كيلو اللحمة هنا بـ١٠ يورو. يعنى إنتى دفعتى ٧ كيلو لحمة فى ١٥ دقيقة ها؟ إيه رأيك؟» ضحكت من المقارنة، ولكى ألطف الموقف وأهون عليه الصدمة قُلت مازحة «الغريب أعمى ولو كان بصير».
كان التاكسى هو صديق رحلاتى فى تلك الأيام الأولى- علمت فيما بعد أن التاكسى هنا كما التاكسى المصرى يفترض به وجود عداد، وكان أقصى مبلغ دفعته فى أحدهم كان ١٥ يورو! إلى أن سألتنى صديقة ألمانية لِمَ لمْ تستخرجى بطاقة شهرية بـ٤٩ يورو فقط تدفع شهريًا، وفى المقابل تتاح لكِ كل أنواع المواصلات فى برلين بدلًا من استنزاف نقودك فى التنقل بالسيارات الخاصة «التاكسى»؟!، مضيفة أنها رفاهية هى نفسها لا تقوى عليها! فكانت كلماتها بمثابة الوقود لى للحركة لأتحرى وسيلة أشمل وأرخص للتحرك بسهولة فى داخل وخارج برلين.
مترو العاصمة
اليوم التالى وهو اليوم الأخير فى فعاليات الزيارات والاجتماعات كان إجازة، كنت سألتحق بعدها بإحدى مدارس تعلم اللغة الألمانية كمبتدئة، كان الطريق طويلًا نسبيًا، يتطلب معرفة مبدئية بالمترو الألمانى.
ذهبت لشراء التيكيت الشهرية التى سمعت عنها، فقيل لى إن الأفضل منها والأشمل، تذكرة واحدة تكلفنى ٩٩ يورو! ولكنها وطبقًا لما قاله بائع التذاكر أفيد وأرخص، وكعادتى ونظرًا لجهلى بالأشياء واستسهالى، آثرت أن أدفع على أن نطيل نقاشنا الذى قد يمتد إلى دقائق أوسع فيما بدا لى من طول بال وهدوء بائع التذاكر.
محطات المترو فى برلين تنقسم فى معظمها إلى قسمين، علوى يحوى قطارات تدعى «S-Bahn» ويكون خط سيرها فوق الأرض، وسفلى يحوى قطارات تدعى «U-Bahn» تسير فى أنفاق تحت الأرض، والفرق بينهما هو أن الأولى شبكتها أكبر تتجاوز حدود المدينة وخطوطها معظمها متتابعة كشريط مستقيم، أما الثانية تبقى ضمن نطاق المدينة وخطوطها متشابكة.
ركبت القطار فور توقفه، كانت وجهتى الأولى فى المترو إلى مدرسة اللغة التى من المفترض أن أقضى بها أسبوعًا بداية من اليوم، من التاسعة صباحًا وحتى الرابعة مساءً.
بعد انتهاء محطاتى الثلاثة عشر كان ينبغى أن أركب الترام لأربعة محطات أخريات، وفى طريق العودة أسلك نفس المسلك. فى بداية الأمر كانت أسماء المحطات التى يجب أن أتوقف عندها تتوه عن عقلى نظرًا لصعوبة المصطلحات الألمانية لشخص فى طريقة لدراسة مبادئ اللغة.
وكان الإنترنت المجانى المتاح فى محطات المترو يبلور حسن خدمة ورعاية المواطنين. توافر الإنترنت سَهّل علىّ التنقل بالاسترشاد بـ«جوجل ماب» عبر الهاتف الذى يتولى إرشادك ومساعدتك، فيصف لك أين أنت وأى طريق عليك أن تتخذ؟.
الدراجات أسلوب حياة
خلال محاولاتى لاكتشاف الأرض «البرلينية» الجديدة اكتشفت وجود عنصر مهم من عناصر النقل الشائعة جدًا بين الشعب الألمانى على اختلاف الأجناس والأعمار، ألا وهو الدراجة بنوعيها العادية والكهربائية، دُهشت من التناغم والتنظيم الذى يسير به راكبو الدراجات، فلهم مسارهم الخاص وإشارات المرور الخاصة والمواقف المخصصة، ولهم قوانين السلامة كإلزام السائق بارتداء خوذة الرأس والالتزام بملابس عاكسة للضوء ليلًا.
وعندما شُغفت حبًا بهذا التواجد الكثيف والمحبب كذلك لقلوب الألمان للدراجات كوسيلة اقتصادية وصحية وآمنة وصديقة للبيئة، سألت زميلًا لى عن دراجته الكهربائية وحكى لى أنه حصل على دعم يقدر بـ٥٠٠ يورو من مدينته «ميونخ» فى سبيل شراء هذه الدراجة الكهربائية فى مقابل التعهد باستخدامها كوسيلة نقل يومية.
وهل التزمت بهذا التعهد؟ سألته. أجاب بـنعم، فى أغلب الأوقات، وقال: «لقد اكتسبت وزنًا إضافيًا فى مرحلة (كورونا) وكان همى استعادة لياقتى، فبعت سيارتى لتوفير تكاليف الوقود والضرائب العالية المرتبطة بها واشتريت الدراجة الكهربائية E-Bike».
واستكمل باسمًا: «أشعر بإيجابية من حينها فلقد تحسنت صحتى العامة، ووفرت أموالًا طائلة بعزوفى عن استخدام البنزين على المدى الطويل، وساهمت فى الحفاظ على البيئة»، وأنهى حديثه بأنها «It’s a win-win situation».
فى الترام، والذى من المفترض أن أقضى به ما يقارب الـ١٥ دقيقة هى مسافة الأربعة محطات، وجدت امرأة تناهز الستين تحمل دراجتها إلى داخل الترام، جلست فى مقابلى، ابتسمت لها وقلت «NICE BIKE!» شكرتنى، وقالت إنها اقتنتها العام الماضى بعدما علمت عن إعلان البلدية فى برلين على حصول المشترى على تخفيض يقترب من حوالى ٣٠٠ يورو فقلت لماذا لا؟.. تنهى حديثها وتهز رأسها مبتسمة وتغادر.
والدعم هنا قد يصل فى كثير من الأحيان إلى أكثر من ذلك، وبدقة فإن الدعم المباشر الذى تقدمه بعض البلديات للمواطنين عند شراء دراجات كهربائية، يتراوح عادة بين ١٠٠ و١٥٠٠ يورو حسب المدينة أو الولاية.
كما تدعم الشركات والمؤسسات الموظفين بصرف المكافآت والحوافز فى صورة دراجات كهربائية للموظفين المستحقين، أما بعض الشركات فتُقدم الدراجات الكهربائية للموظفين بنظام التأجير طويل الأمد بتكلفة مخفضة، مع إمكانية شراء الدراجة لاحقًا. ولرغبتى فى أن تكتمل الصورة فى ذهنى قرأت عن أن للتكنولوجيا دورًا مهمًا فى المساهمة فى إنجاح خطة الدولة للتحول نحو الطاقة المستدامة، حيث إن الدولة عبر تطبيقات مثل Nextbike وCall a Bike أتاحت أسعارًا رمزية لتأجير الدراجات الكهربائية.
ويرى الكثيرون سواء من تحدثت إليهم من الألمان أو ممن تركوا تعليقات على مقالات عدة عن المواصلات أن أكثر الطرق عملية فى تشجيع المواطنين على اختيار الدراجات الكهربائية بدلًا من السيارات هى «تخفيض الضرائب على شراء الدراجات الكهربائية الجديد». وأيضًا «تقديم خصومات إضافية عند شراء الدراجة مقابل تسليم سيارة قديمة».
«واضح أن المال لا يغير النفوس بس! السلوك كمان».. و«نيجى للأرياف أو الضواحى على أطراف ألمانيا!» فالأرياف لها نصيبها من برامج دعم استخدام الدراجات الكهربائية لتحسين التنقل بالداخل، فأنشأت الدولة مسارات مخصصة لسائقى الدراجات تربط المناطق الريفية بالمدن.
كما استثمرت الدولة فى توسيع شبكات مسارات الدراجات الكهربائية، بتوفير محطات شحن للدراجات الكهربائية فى كل من مواقف السيارات، ومحطات القطارات، والمناطق العامة، كما قدمت دعمًا موجهًا لأصحاب الشركات الصغيرة والمزارعين فى حال تبنى الدراجات الكهربائية كوسيلة تنقل فى أعمالهم اليومية.
النقل المستدام
وصلت إلى محطتى المنشودة وقد ألقى بى الترام على بوابة المدرسة «GLS» لتعليم اللغات، سأقضى أسبوعًا هنا ويطمح المنظمون إلى أننى يفترض بى إتقان مبادئ تعلم الألمانية.
وصلت المبنى وذهبت لمكتب الاستقبال، وعرفت نفسى ورحبت بى موظفة الاستقبال آسيوية الملامح حَسنة السمت، أشارت لى إلى أحد الفصول، كنت وكما علمت عن الألمان المواعيد المنضبطة فإذا بى «أعلى عليهم وأحضر بدرى ربع ساعة».
لم تساعدنى المواصلات الألمانية على الوصول مبكرًا فقط فى ذلك اليوم، بل أيضًا لفتت انتباهى إلى ريادة ألمانيا فى تبنى أنظمة مواصلات صديقة للبيئة، وذلك بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية وتعزيز الاستدامة المتمثل فى الحد من التلوث ومجابهة أخطار، كالاحتباس الحرارى وغيره مما يهدد بانهيار الكوكب.
تعتمد ألمانيا فى تحقيق أهدافها إلى عدة أنظمة ومبادرات وتقنيات تتخذ التحول من استهلاك الوقود إلى الاعتماد على مصادر طاقة متجددة هدفها الأهم لأسباب بيئية وسياسية يدركها الجميع، فيتم حاليًا تزويد المدن الكبرى بحافلات كهربائية تعمل بالكامل بالطاقة النظيفة، فمثلًا علمت أن مدينة هامبورغ قد وضعت هدفًا لجعل أسطولها من الحافلات يعمل بالطاقة الكهربائية بنسبة ١٠٠٪ بحلول ٢٠٣٠.
ألمانيا يا سيدى الفاضل أنتجت أول قطار هيدروجينى فى العالم وتم تشغيله عام ٢٠١٨، وهو قطار يعمل باستخدام الهيدروجين كوقود بديل عن الديزل أو الكهرباء التقليدية.
تعتمد هذه القطارات على خلايا الوقود الهيدروجينية لتوليد الطاقة الكهربائية التى تُحرك المحركات، ويعمل القطار الآن فى شمال ألمانيا ويُدعى «كوراديا إلينت»، ويتميز بأنه يصل إلى مدى ١٠٠٠ كيلومتر بخزان واحد من الهيدروجين.
أما عن طاقة الرياح والطاقة الشمسية كطاقات متجددة فالحديث يطول، فتتم حاليًا تغذية بعض القطارات ومترو الأنفاق بواسطة هذه الطاقة. والسيارات الكهربائية «مركبات المستقبل القريب» حظت بالحظ الأوفر من الدعم الحكومى، حيث تقدم الحكومة الألمانية دعمًا ماليًا يصل إلى ٩٠٠٠ يورو عند شراء السيارات الكهربائية لأول مرة.
ومع توافر محطات الشحن السريع لها فى جميع أنحاء البلاد، أصبح هدف الجميع استبدال السيارة الحالية بأخرى كهربائية.
وفى خلال أيامى القليلة هنا عرفت ما يسمى بالتوسع المجتمعى تجاه النقل المشترك خدمة الــ«Car Sharing» أو «تأجير السيارات الكهربائية» بهدف تقليل ملكية السيارات بشكل فردى، بهدف زيادة الكفاءة فى استغلال الموارد. وتم استحداث تطبيقات خاصة مثل «Share Now» و«Cambio» اللذين يوفران خدمات تأجير السيارات الكهربائية.
الأنظمة الذكية
عند الحديث عن التطبيقات الذكية أود تسليط الضوء على إحدى ركائز المواطن الألمانى فى التعامل مع المواصلات، ألا وهى الـ«BVG» و«DB Navigator»، التى تساعده على تخطيط رحلاته باستخدام إما النقل العام أو الدراجات أو السيارات المشتركة، بطريقة متكاملة وسلسة.
بالإضافة إلى الرياضة، تشجع الدولة رياضة المشى كذلك وتروج لها كوسيلة نقل أساسية فى مراكز المدن، بالأخص فى برلين- العاصمة نظرًا لشدة مركزيتها والازدحام المتزايد بها، كوسيلة تخطيط حضرية وصحية تهدف إلى تقليل الاعتماد على السيارات، من خلال توفير مسارات مشاة آمنة ومريحة.
السؤال الآن: التمويل والدعم. هل تُدعم ألمانيا من الاتحاد الأوروبى لدعم مشروعات التنقل الاخضر؟
الإجابة نعم! يوجد العديد من الاستثمارات الأوروبية المشتركة، فى صورة برامج الاتحاد الأوروبى لدعم مشروعات التنقل الأخضر، فى شكل تطوير وسائل نقل صديقة للبيئة فى ألمانيا ودول الجوار، ما يعظم الاستفادة من الفوائد البيئية والاجتماعية لدول الاتحاد، والتى تهدف إلى اعتماد أنظمة النقل الصديقة للبيئة بما يقلل من انبعاثات غازات الدفيئة بشكل كبير، ما يؤدى إلى تحسين جودة الهواء وخفض معدلات التلوث فى المدن الكبرى مثل برلين وميونيخ، وكذلك تحسين الصحة العامة عن طريق تقليل الاعتماد على السيارات وزيادة المشى وركوب الدراجات ما يعزز الصحة العامة.
بالطبع توجد العديد من التحديات منها على سبيل المثال لا الحصر، كضرورة تطوير البنية التحتية حيث الحاجة الملحة إلى توسعة شبكات الشحن ومحطات الطاقة المتجددة، ومع ارتفاع تكلفة تطوير بنية تحتية بتقنيات جديدة بما يتطلب تمويلًا كبيرًا، ما قد يؤثر على سرعة التنفيذ.
بالإضافة إلى الازدحام الشديد الذى يتسبب فى تأخر الحافلات وتحول دون وصولها وتحركها فى الأوقات المحددة مسبقًا، ما يجعلها ليست الخيار الأمثل لمعظم المواطنين، فيزيد الضغط من جهة أخرى على شبكتى المترو! المترو الذى أتى بى مبكرة عدة دقائق لأنه تم تحذيرى مسبقًا من تأخر المترو والباصات، والتى انتهت الآن، وأشارت عقارب ساعتى إلى العاشرة صباحًا وهو موعد الدرس الأول فى اليوم الأول. أراكم على خير فى ملمح آخر من ملامح يومياتى فى برلين.. «اقعدوا بالعافية».