عمرى معاك.. د. ليلى عبدالمجيد تكتب عن رحلتها مع زوجها الراحل د. محمود علم الدين
لا أعرف من أين أبدأ؟ هل أبدأ من لقائنا الأول.. وأنا ما زلت فى السنة الأولى بالكلية.. عندما أصبحت عضوًا فى الجمعية الأدبية التى كان يشرف عليها أستاذى الراحل د. عبدالعزيز شرف.. وفى الاجتماع قام شاب أسمر جذاب بشعره الطويل قليلًا- حينما كانت هذه موضة سبعينيات القرن الماضى- ليتحدث.. ومن كلماته الأولى لفت نظرى. عقلية مبدعة.. مرتبة.. مقنع بما يقول. يشع حيوية، كان فى سنته الثانية.. وبدأت صداقتنا التى دعمتها طبيعة العمل فى المعهد، الذى أصبح بعد ذلك كلية فنحن دومًا معًا، سواء فى الدور الوحيد فى معهد الإحصاء الذى قضينا فيه عامًا من سنوات دراستنا، وبعده دور وحيد أيضًا لمدة ٢٥ سنة فى الدور الرابع من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. أو فى الحجرة المخصصة لجريدتنا «صوت الجامعة» التى صدرت فى ديسمبر ١٩٧٢، بإشراف أستاذنا الراحل العظيم جلال الدين الحمامصى، والتى اعتبرتها مؤسسة أخبار اليوم، تقديرًا له خصوصًا بعد أن عاد رئيسًا لتحرير جريدة الأخبار أحد إصداراتها.. وخصصت لنا غرفة صغيرة لتكون صالة تحرير صوت الجامعة، وكنا نقضى فيها ساعات طويلة من العمل. كل الأيام تقريبًا وخصوصًا يوم السهر، الأحد، حيث كنا نتحرك بين الحجرة والمطبعة التى تنفذ فيها الجريدة، وهو كان أحد القريبين لأستاذنا الحمامصى نظرًا لتميزه وموهبته وقدراته، إذ كان من قيادات الصحيفة الذى يحظى طيلة الوقت باحترام وتقدير الحمامصى والإشادة به فى اجتماع التحرير المشترك بين دفعتى ودفعة محمود الأكبر منا سنًا والذين كنا ننظر لهم بإعجاب ونجلس إلى جوارهم نتعلم..
حياة حافلة بالحماس والتوهج على كل المستويات.. فالوطن كان يمر بمرحلة حرجة وكان عام ١٩٧٢ عامًا فاصلًا.. فالسادات رآه عام الحسم، وشباب الجامعات والحركة الطلابية فى ذلك الحين رأوه عام اللاسلم واللاحرب.. وخرجوا فى مظاهرات واعتصامات يرفضون هذه الحالة ويطالبون باسترداد الأرض.. ونحن كنا طلابًا ولكننا فى الوقت نفسه ننظر لأنفسنا على أننا صحفيون .. نذهب لكل جامعات مصر نوزع جريدتنا صوت الجامعة، محمود كان الأول على دفعته، وعرفت بعد ذلك كيف دخل اختبارات معهد الإعلام، وفى الوقت نفسه دخل امتحانات معهد السينما، وفى الاثنين نجح وكان الأول على كل المتقدمين، زاد إعجابى به وبطموحه وتميزه وروحه المرحة، حيث كان يتميز بضحكة رائعة صادقة.. وزاد اقترابنا وتواصلنا المستمر فأنا أيضًا كنت طموحة ولدىّ أحلام كبيرة فى مستقبل أتمناه وما كان يتميز به «محمود» جعله قريبًا من كثيرين من دفعته ودفعتى ومحبوبًا..
وفى عامى الجامعى الثانى، زاد اقترابى منه.. وكانت العلاقات فى الكلية قوية للغاية، فلم نكن نفترق حتى إجازة الصيف لم نكن نعرفها.. وصوت الجامعة تصدر طيلة العام ونحن جهازها التحريرى العاشق للصحافة والمقتنع بأنه يصدر صحيفة مؤثرة، وهى بالفعل كان لها تأثيرها فى مصر ككل وليست الجامعة فقط.
علاقتنا تطورت بعد أن أصبح معيدًا بعد تخرجه كأول دفعته وكنت أيضًا الأولى على دفعتى وأحلم باستمرار تفوقى.
علاقة الصداقة دعمتها نقاشات وحوارات ومواقف، ورغم أنها أصبحت حبًا، إلا أننا ظللنا طيلة مشوار حياتنا المشتركة أصدقاء.
ارتباطنا كزوجين لم يكن أمرًا سهلًا، فهو لم يكن يفكر فى الارتباط، وهذا أمر طبيعى لشاب يحاول أن يحقق آماله وأحلامه.. فهو يدرس بالكلية ومشغول برسالته للماجستير ثم الدكتوراه، إلى جانب عمله الصحفى فى جريدة أخبار اليوم التى تولى فيها تحرير صفحة الأدب وأخبار الكتب.. وأعترف أننى رأيت فيه الشريك الرائع الذى يمكن أن يشاركنى أحلامى وطريقى، ولهذا اتفقنا على تأجيل الفكرة لحين يضع كل منا قدميه بثبات على أولى درجات المستقبل بالحصول على الدكتوراه.
ولكن شاءت الأقدار أن يواجه هذا الحلم مصاعب جمة، إذ تعرض «محمود» لكارثة بمعنى الكلمة، إذ احترق بيته وبدأ الحريق من غرفته التى كانت عبارة عن مكتبة ضخمة واحترق كل شىء وأخطر وأهم ما احترق كانت رسالته للدكتوراه، التى كان على وشك أن ينهيها، ومعها كل المراجع التى استخدمها فى رسالته فى موضوع يعتبر جديدًا بل الأول من نوعه فى الكلية، إذ كان عن الصحافة وتكنولوجيا الاتصال، إذ يعد هو بلا أى مبالغة الرائد فى هذا المجال..
وأتذكر أننى كنت فى الكلية- أقصد الدور الوحيد فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - وكنا على موعد أن نلتقى بعد أن ينهى بعض ارتباطاته وفوجئت به يتصل بى عن طريق سويتش الكلية لافاجأ به يخبرنى بهدوء بالحريق، مما أذهلنى وزادنى إعجابًا بهذا الإنسان الجميل، لقد كان قويا، لدرجة كان من الصعب علىَّ إدراكه، وهذا ما يميز شخصية «محمود» دومًا هو صبور وحمول وراضٍ بكل ما يحدث أو سيحدث.. وعلى استعداد أن يبدأ دومًا من جديد بناء ما قد يكون قد تهدم أو تصدع..
وبالفعل بدأ من جديد مما جعل ارتباطنا يتأجل، رغم أننى كنت قد أنهيت رسالتى وناقشت، وأسرتى وخاصة أمى كانت دائمة القلق علىَّ، ودومًا تتحدث معى فى موضوع ارتباطى.. فثلاثة من إخوتى الأصغر منى تزوجوا فعلًا.. ولم يتبق غير شقيقتى الصغرى وأنا طبعًا..
ورغم أن بابا، رحمه الله، كان متفتحًا ومؤمنًا بحقى فى الاختيار وفخورًا بما حققته من إنجازات غير أنه حدثنى بينى وبينه، وكان صديقى الأقرب لى، عن قلق ماما وحقيقة موقفى من الارتباط وصارحته بأننى أخترت فعلًا.. ولكن الارتباط مرهون بحصول محمود هو الآخر على الدكتوراه.
وأتذكر كيف أن قصتنا واجهت صعوبات وتحديات من بعض البشر المحيطين بنا الذين حاولوا طيلة الوقت لسبب أو لآخر إفساد العلاقة.. هذا لم يمنع أن بعضهم الآخر كان داعمًا لنا ومساندًا وخاصة «محسن» الأخ الأكبر لمحمود، رحمه الله، وكان له بمثابة الأب الذى لم يعش معه ويتمتع بأبوته، فقد رحل ومحمود مازال طفلًا فى السنوات الأولى من عمره.. وأعترف أن هذا ربما كان سببًا أن بابا كان أبًا حقيقيًا «لمحمود» وكانا صديقين.. والحق أن «محمود» كان داعمًا دومًا ليس لى فقط ولكن أخوتى وأسرتى..
مع «محمود» عرفت المعنى الحقيقى للحب.. فالحب ليس مجرد عواطف جياشة وكلمات رقيقة تقال.. بل هو مواقف يقفها كل حبيب إلى جانب حبيبته، سواءً فى الفرح أو الألم والحزن.. هكذا كان محمود.. سندًا حقيقيًا لى وأنا أيضًا كنت له السكن والدفء.. كنا نختلف فى بعض تصوراتنا وآرائنا فى الحياة.. ولكننى كنت أراه نصفى الآخر به بإنتاجنا الإنسانى المشترك «مروة بنتنا» اكتملت فعلًا.. كإنسان.
عشنا معًا رحلتنا.. كل لحظة كانت تحمل جمالًا وتحققًا.. كل المعاناة والتعب والمصاعب التى واجهناها.. مرت واستطعنا تخطيها بفضل الفهم المشترك.. فكل منا كان يعرف الآخر جيدًا.. ويستوعب مزاياه وعيوبه ولا يحاول تغيير الطرف الآخر.. أو أن يفرض عليه ما لا يحتمله أو يقبله، ولكننا وصلنا إلى مرحلة اندماج كامل، إذ كان يأتى أحيانًا ليحدثنى فى موضوع ما وأكون أنا أفكر فيه فى الوقت نفسه وهو كذلك كثيرًا ما كان يقول لى إن ما أحدثه فيه كان يفكر فيه فى اللحظة نفسها!!
لقد كنت أحيانًا أخشى على حبنا.. من بعض التغيرات أو التطورات التى مررنا بها وأهمها عندما توليت عمادة الكلية، بينى وبين نفسى.. كنت أخشى أن يكون ذلك سببًا يؤثر بشكل لا أرضاه على أسرتى الصغيرة الجميلة.. ولكن «محمود» كعادته كان معينًا لى.. ودعمه لا نهائى ورغم الضغوط التى تعرضت لها كان هو دومًا البلسم.. الذى يهدئ من روعى وقلقى ويحفزنى ويدفعنى لمزيد من النجاح.
حياتى معه.. منذ أن عرفته كانت ممتعة بعقله وفكره، فهو بحق خزينة أفكار إبداعية لا تنضب.. هو دومًا متحمس لعمله.. فالعمل بالنسبة له كان هو الحياة نفسه.. وللحظاته الأخيرة ظل يعمل ويعمل رغم ما كان يعانيه .. وربما كان هذا من أسباب نجاحه وتميزه وتأثيره اللامحدود على كل من كانوا حوله من طلاب وزملاء وأصدقاء.. وإذا كانت إرادة الله قد قضت أن يرحل بجسده فإنه باقٍ بكل ما قدمه للإنسانية من إنتاج علمى متميز ومبدع ومن إنتاج بشرى من طلابه الذين يدينون له بما حققوه وكل ما قدمه للوطن من مواقف شجاعة تتسم بالوطنية والاستعداد للتضحية.. سيرته العطرة خالدة..
وهو بالنسبة لى.. غائب إلى حين.. حتى نلتقى، ويجتمع النصفان مرة أخرى..
إلى روحه الطاهرة.. هذا العمل عنه وعن حياتنا معًا طيلة خمسين عامًا.. عشت معه عمرًا.. ولم أشبع منه.. وأعيش الآن مع ارثه الفكرى والإبداعى والإنسانى.