الثلاثاء 14 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«سرقة» أم تعبير عن الواقع الراهن؟.. موضة إعادة كتابة الروايات الكلاسيكية

حرف

لا أتخيل أن هناك كاتبًا قرر أن يجلس ليكتب رواية دون أن يقرأ بعض أمهات الأعمال الأدبية، ربما تختلف بعض تفاصيل هذه القائمة من شخص لآخر، ولكن بالتأكيد يتفق أغلب الناس على ضرورة أن يقرأ الكاتب قبل أن يخط أول كلمة فى أول رواية له، أعمال مثل «دونكيخوته» لثربانتس، «فاوست» لجوته، «الإخوة كارمازوف» لدوستويفسكى، «هاملت» لشكسبير، والثلاثية والحرافيش لنجيب محفوظ، هذا بشكل عام، ولكن إذا كان كاتبًا عربيًا، فأظن أنه بحاجة ماسة لقراءة بعض أمهات الكتب التراثية، بالتحديد «ألف ليلة وليلة» و«الحيوان» للجاحظ، «العقد الفريد» لابن عبدربه، «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» لابن إياس، وغيرها من الأعمال التى تقدم قاموسًا لغويًا ثريًا للغاية، بالإضافة لقدرتها على قراءة النفس البشرية.

 

فى مقالنا هذا اعتمدنا على افتتاحية العدد الصادر بتاريخ ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٤ لجريدة «الجارديان»، التى تتحدث عن الأعمال التى نُشرت فى ٢٠٢٤، واعتبرت إعادة إنتاج وكتابة لأعمال كلاسيكية. 

بعض الأفكار التى ضمتها هذه الأعمال تم إنتاجها بأشكال مختلفة فى أعمال أخرى لاحقة، فرواية عظيمة مثل «الزينى بركات» لجمال الغيطانى، التى تُعد أهم أعمال كاتبها، ومن أهم الروايات فى تاريخ الأدب العربى المعاصر، تستند بشكل رئيس ومباشر على حدث ذُكر فى «بدائع الزهور» لابن إياس، كما أن الكاتب جمال الغيطانى لم ينكر تأثر لغة الرواية الآسرة، بلغة ابن إياس، وأنه حاول تقديم اللغة والفكرة بشكل يعبر عن واقعه.

بعض هذه الأفكار الموجودة داخل هذه الكتب أصبح بذرة ونواة لأعمال أخرى قامت من بدايتها لنهايتها، وقامت على محاكاة ليس فقط اللغة، ولكن الحبكة والأحداث أيضًا!

فمثلًا عمل مثل «فاوست» الذى يتحدث عن العلاقة بين الإنسان والشيطان، هذه الفكرة هى من أكثر الأفكار التى تم تقديمها فى مختلف الصور الفنية، سواء فى دراما، أو سينما، أو مسرح. 

وفى الفترة الأخيرة نجد بعض الأشخاص يتحدثون عن تأثر عمل أدبى حديث بعمل أدبى صُدر منذ عشرات السنوات، وكأن الأمر مجرد «سرقة»، ويعتبرون هذا دليلًا على فقر الإبداع والخيال، وأن هذا نذير خطر يهدد السرد. فهل هذه حقيقة؟ وهل هذه أزمة السرد أو الأدب العربى المعاصر فقط؟!

فى العام الماضى ٢٠٢٤ صُدر برواية رُشحت للبوكر العالمية ٢٠٢٤، وهى رواية «جيمس» للكاتب الأمريكى بيرسيفال إيفريت، والرواية تستند بشكل كبير على راوية «مغامرات هاكلبيرى فين» لمارك توين– المتوفى ١٩١٠– الذى يعتبر أحد أهم الكُتاب فى تاريخ أمريكا. هذه الرواية اعتبرت ضمن أهم الروايات التى صُدرت فى العالم فى ٢٠٢٤، وبجانب ترشحها للبوكر تصدرت قوائم أفضل الكتب فى العام وأكثرها مبيعًا، وفازت بجائزة الكتاب الأمريكية المرموقة للأدب الروائى. 

فى الرواية يعيد إيفريت إنتاج فكرة رواية مارك توين التى نُشرت عام ١٨٨٤، أى منذ حوالى قرن ونصف القرن، وهى رواية تسرد مغامرات صبى يبلغ من العمر ١٣ عامًا على نهر المسيسيبى، لكن هذه المرة من منظور جيم، العبد الهارب.

ولكن هل هذه هى أول رواية صُدرت مؤخرًا تحاكى، أو تعيد إنتاج رواية أخرى صدرت منذ سنوات بعيدة؟ فالأمر نفسه ينطبق على رواية «ديمون كوبرهيد» للكاتبة الأمريكية باربرا كينغسولفر، التى صُدرت أيضًا فى العام الماضى، وحصل على جائزة، وأصبحت من الكتب الأكثر مبيعًا. والرواية هى إعادة إنتاج لرواية «ديفيد كوبرفيلد» لتشارلز ديكنز، حيث تم نقل الأحداث إلى منطقة أبالاشيا، مسقط رأس الكاتبة، خلال أزمة الأفيونيات فى التسعينيات، وهى أزمة الفرط فى استخدام الأفيون كمخدر فى أمريكا.

ولكن يبقى الفارق بين كلتا الروايتين أن كل كاتب استطاع إنتاج الفكرة نفسها، وربما الأحداث أيضًاو ولكن بأسلوب معاصر يعبر عن هذا العصر المتغير والسريع، وعن الطبقات الكادحة. وكأن الهدف من الكتابة ليس الفكرة، أو من أين يستقى الكاتب مصادر إلهامه لخلق ورسم الشخصيات والأحداث، ولكن الطريقة التى يعبر بها عن الواقع.

يستمر ذلك حين ننظر لرواية «نادونى إشميل» للكاتبة الصينية البريطانية شياولو جوهو، التى تُحاكى رواية «موبى ديك» للأمريكى هيرمان ملفيل، حيث حولت واستخدمت الكاتبة فكرة تلك الرواية للتعبير عن الأفكار النسوية التى تؤمن بها. 

من الممكن أن نعود إلى سنوات طويلة، بالتحديد إلى شكسبير لنرى ونعرف أن عملًا مثل «روميو وجوليت» كان إعادة إنتاج لحكاية بيراموس وثيسبى لأوفيد. 

هذا بالنسبة لشكسبير الذى يُعيد كل الكُتاب الذين جاءوا من بعده أفكاره، منذ توفى وحتى الآن. بل إن أعمال شكسبير تم تطويرها لتُقدم فى أعمال فنية مثل الدراما التليفزيونية والسينما.

تقول جريدة «الجارديان» إن: «كل السرد هو إعادة سرد».

وكأن كل فكرة وكل حكاية سيتم كتابتها الآن بعد كل هذه السنوات، ومع وجود أسماء فى الخلفية مثل شكسبير وثربانتس ودوستويفسكى وتولستوى وتشيخوف ونجيب محفوظ وغيرهم... هو مجرد إعادة إنتاج لفكرة وحكاية أخرى.. حتى لو لم تقرأ أنت هذا العمل، فربما يحدث تناص بينك وبينه دون أن تشعر أو تدرى.

وإن: «العودة إلى الكتب القديمة ليست إخفاقًا فى الابتكار، بل وسيلة للحفاظ على حيوية الأعمال الكلاسيكية وبقائها». 

وذلك سواء التزم الكُتاب المعاصرون بخط الحبكة الأصلى أو تعاملوا بحرية. فالكاتب حين يُعيد تقديم فكرة جديدة بشكل معاصر، فهو يضخ الحياة فى الشخصيات والقصص المحبوبة التى أثرت فى البشر من قبل.. ويملك الفرصة لأن يصبح نصه أيضًا من النصوص الخالدة والباقية.