الكنز المفقود.. متى يعود رأس نفرتيتى وحجر رشيد إلى مصر؟
آثارنا بالخارج.. جرح عميق يتجدد باستمرار عندما نرى تاريخنا معروضًا فى متاحف ومزادات العالم، وبرغم حقنا التاريخى والقانونى فى استرداد هذه القطع الغالية التى لا تقدر بثمن، إلا أن ثغرات قانونية تمنع، فى كثير من الأحيان، عودة الحق لأصحابه، فلكل دولة قانون داخلى يسرى على كل شىء حتى التاريخ، وهناك دول تسمح بالتجارة وبيع وشراء الآثار بشكل قانونى، وستتعجب عندما تعلم أن مصر كانت من ضمن هذه الدول حتى عام 1983. وتتعرض الآثار المصرية لمحاولات تهريب عديدة عبر المنافذ الجوية والبحرية والبرية، وغالبًا ما يكون التهريب لصالح عصابات منظمة، حيث يجرى تهريبها بطرق غير مشروعة، ثم عرضها للبيع بإحدى الدول التى تسمح بالتجارة فى القطع الأثرية.
يبدأ الموضوع بقيام تلك العصابات الدولية بشراء قطع أثرية نتيجة الحفر الخلسة الذى يقوم به بعض المواطنين أسفل منازلهم، وعادة ما تستعمل تلك العصابات الطرق البرية لعمليات التهريب، ومن أشهر الطرق البرية تلك التى تربط مصر بفلسطين، ومنها لإسرائيل التى تضم عددًا من صالات المزادات التى تتخصص فى بيع القطع الأصلية من مختلف الحضارات، أو عن طريق الصحراء التى تربط مصر بليبيا، ثم نقلها لإحدى الدول الأوروبية غير الموقعة على اتفاقية حماية التراث الثقافى.
وبعد ضمان خروج القطع من مصر يتم التجهيز لبيعها بشكل رسمى فى المزادات العالمية ومن أبرزها «سوزبى» و«كريستى» فى لندن، وعملية التجهيز تلك تتطلب سفر القطع لعدة دول فى البداية لجعل مهمة تتبع هذه القطع شبه مستحيلة، خاصة إذا كانت هذه القطع غير مسجلة بسجلات وزارة الآثار.
وهناك بعض الدول التى تصدر فيها شهادات بيع مزورة لتسهيل مهمة بيع القطع المسروقة، وبالطبع يتم عمل هذه الشهادات بتاريخ قديم يعود لما قبل عام ١٩٨٣، وهو العام الذى منعت فيه مصر الاتجار بالآثار بشكل رسمى، إذ كانت القوانين المصرية آنذاك تسمح ببيع الآثار بشهادات رسمية.
وبعد أن أصبحت لدى العصابات قطع أثرية غير معروف مصدر بيعها الأساسى نتيجة تنقلها بين بلدان عدة، فهى جاهزة للتفاوض مع صالات المزادات، سواء فى إسرائيل أو أمريكا أو أوروبا للبيع بشكل رسمى، لتقوم هذه المزادات بتنظيم مزاد مخصص للقطع الأثرية المصرية، وغالبًا ما تباع هذه القطع بملايين الدولارات.
أما بالنسبة لدور الحكومة المصرية فيبدأ مع بداية الإعلان عن تخصيص مزاد لبيع قطع مصرية أثرية، حيث تقوم وزارة الخارجية، متمثلة فى السفارة المصرية ببلد البيع، بالتعاون مع الإدارة العامة للآثار المستردة، بالتقدم بطلب لوقف المزاد، ولكن تتطلب هذه الخطوة إبراز ما تملكه الحكومة المصرية من إثباتات تفيد امتلاكها هذه القطع، ومن أبرز هذه الإثباتات أن تكون تلك القطع مسجلة فى السجلات الرسمية لوزارة الآثار، وفى هذه الحالة تصبح عملية الاسترداد سهلة وفقًا للقوانين الدولية.
ويتمثل دور إدارة الآثار المستردة فى رصد وتتبع القطع الأثرية المسروقة والمهربة خارج البلاد بطرق غير شرعية، والعمل على استردادها وإعادتها إلى أرض الوطن بجميع الطرق الممكنة، سواء كانت دبلوماسية أو عن طريق اللجوء إلى القضاء.
لكن المشكلة الحقيقية التى تواجه الحكومة فى استرداد قطع معروضة للبيع بالخارج أن تكون هذه القطع خرجت عن طريق الحفر خلسة وغير مسجلة بسجلات الآثار، وغالبًا ما يحمل صاحب القطعة شهادة بيع مزورة تمنع استرداد القطع وفقًا لقوانين الدولة صاحبة المزاد، وهنا تصبح أمام الخارجية المصرية مهمة صعبة، لأن الدول فى هذه الحالات تحتكم لقوانينها التى تقنن التجارة فى القطع الأثرية.
وباعتباره واحدًا من أكثر المدافعين عن استرداد آثارنا الموجودة بالخارج؛ تواصلت «حرف» مع الدكتور زاهى حواس، عالم المصريات وزير الآثار الأسبق، الذى أوضح أن ملف استرداد الآثار المصرية هو شغله الشاغل منذ عشرات السنين وحتى الآن.
يقول «حواس»: «عندما كنت مسئولًا عن الآثار استحدثت نظامًا للحفاظ عليها واستردادها.. فى البداية قمنا بجرد جميع المخازن التى تحتوى على الآثار فى مواقع التنقيب عن الآثار، لأن عصابات سرقة الآثار كانت تقوم بالحفر أسفل تلك المخازن وسرقة ما بها من كنوز، ومن ثم تهريبها خارج مصر بطرق غير شرعية، لذلك وجهت ببناء ٥٠ مخزنًا متحفيًا بالتعاون مع القوات المسلحة، وهذه المخازن أنقذت الآثار المصرية فى ذلك الوقت».
واستعرض «حواس» عدد القطع الأثرية التى استعادتها اللجنة العليا للآثار وقت توليه رئاستها، حيث وصلت إلى ٦٠٠٠ قطعة أثرية، ومن أبرز المعارك القضائية كانت ضد متحف سانت لويس للفنون بولاية ميسورى، بعد أن وجد قناع مومياء «كا نفر» معروضًا بالمتحف، وقد سبق سرقة هذا القناع بالتحديد من المتحف المصرى، فسارع للمطالبة بالقناع، لكن مدير المتحف رفض، وهو ما استدعى تنظيم حملة إعلامية ضده، بالإضافة لاتخاذ كل الإجراءات القانونية بالمحاكم الأمريكية منذ عام ٢٠٠٦ حتى عام ٢٠١٤، لتنتهى القضايا بالحكم بأحقية المتحف فى التمثال.
ويذكر أن الضغط لاسترداد آثارنا المصرية الموجودة بالخارج يتطلب ٣ خطوات؛ أولاها تنفيذ قانون الآثار المسروقة لعام ٢٠١٠، ومقاضاة كل شخص أجنبى يمتلك آثارًا مصرية، سواء تاجر آثار أو مدير متحف يعرض قطعًا مسروقة أو حتى جامعى الآثار حول العالم، و«بالتأكيد مسألة صدور حكم ضد هؤلاء من البلد الأم لهذه القطع سيجعلهم يفكرون فى إرجاع القطع».
وينصح «حواس» بإقامة مؤتمرات بالتعاون مع منظمة اليونسكو فى الدول التى تسمح بالتجارة فى الآثار مثل أمريكا وبريطانيا، للضغط على هذه الحكومات للنظر فى قوانينها، بالإضافة لتفعيل دور الحملة القومية لاسترداد الآثار التى دشنها تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى، والتى تحتاج للتوقيع عليها من أكبر عدد من المصريين، حيث تعتبر نوعًا من الضغط الشعبى على الدول التى تمتلك آثارنا، خاصة المسروقة منها، مما يساعد فى إمكانية استردادها.
ويوضح: «هناك حاليًا وثيقة دولية للمطالبة باسترداد الآثار المصرية وقع عليها أكثر من ٢٠٠ ألف، والهدف الوصول إلى مليون توقيع، لكن للأسف أغلب من وقعوا عليها من الأجانب، لذا يجب العمل على تنمية الوعى المصرى فى مثل هذه القضايا».
ويقول «حواس» إن المتاحف العالمية التى سرقت الآثار المصرية قامت بعقد العديد من الاتفاقيات باليونسكو لإثبات أن حصولها على قطع الآثار المصرية قائم على حسن النية، لكن «هذا بالطبع قانون مفصل يخدم مصالحهم، وأنا رفضت التوقيع على هذا الأمر».
وعن إمكانية استرداد تمثال رأس نفرتيتى، يشدد على أنه قام بجمع جميع الأدلة القانونية والفنية التى تفيد بأحقية مصر فى عودة تمثال نفرتيتى، لكن جهده قوبل بالرفض من الجميع فى برلين، لذا يعتزم ملاحقتهم لآخر يوم فى حياته. وبجانب رأس نفرتيتى لدينا «حجر رشيد» فى المتحف البريطانى، و«القبة السماوية» فى متحف اللوفر بفرنسا، وكلها كنوز لا بد أن تعود إلى مصر فى أقرب وقت، ويكشف «حواس» أنه «لا يوجد متحف عالمى أعاد آثارًا مصرية مسروقة ومعروضة عنده، ولكن أغلب القطع التى تم استردادها توجد عند أشخاص، أو مزادات مخصصة لبيع الآثار».
أما الدكتور شعبان عبدالجواد، مدير عام الإدارة العامة لاسترداد الآثار، فيوضح أولًا أن الإدارة مختصة بـ٣ مهام؛ الأولى: حصر جميع القطع الأثرية الموجودة بالخارج، التى خرجت بطرق غير شرعية، من خلال متابعة صالات المزادات والمواقع الإلكترونية المعنية بهذا الشأن، والثانية: التعاون والتنسيق مع جميع الجهات المحلية والدولية لاستعادة واسترداد القطع الأثرية التى يثبت خروجها من مصر بطرق غير شرعية، والثالثة: إعداد بيانات بالقطع المفقودة من المواقع الأثرية والمتاحف ومخازن الآثار لوضع قاعدة بيانات بتلك القطع، واقتراح الخطط والإجراءات اللازمة لاستردادها. ويقول إن الإدارة تعمل بشكل موسع بالتعاون مع العديد من الجهات الحكومية لاسترداد آثارنا بالخارج، ومن أبرزها مكتب النائب العام، وإدارة التعاون الدولى بمكتب النائب العام، ووزارتى الداخلية والخارجية.
ويكشف أن الإدارة استردت ٢٩٣٠٠ قطعة أثرية منذ ٢٠١١ وحتى الآن، أبرزها التابوت المذهب لـ«نجم عنخ» الذى تم استرداده من متحف المتروبوليتان وهو موجود الآن بالمتحف القومى للحضارة، بالإضافة لـ١١٥ قطعة ثمينة تم استردادها من فرنسا، و٣٦ قطعة من إسبانيا.
ويذكر أنه «خلال عام ٢٠٢٣ استردت مصر مجموعة كبيرة من القطع الأثرية، سواءً من نيوزيلندا أو إيطاليا أو ألمانيا، ومن أبرزها تمثال لرأس الملك رمسيس الثانى تم استرداده من سويسرا يوليو الماضى».
وحول القطع التى تعمل الإدارة على استردادها فى الوقت الحالى، يشير إلى صعوبة التحدث عن هذه القطع حاليًا أو الإفصاح عنها حرصًا على سرية مثل هذه القضايا ونجاح العمل فى هذه الملفات التى تتعاون فيها وزارة الآثار مع وزارة الخارجية.
أما عن صالات المزادات التى تقوم بعرض قطع أثرية مصرية للبيع على مدار العام، يذكر «عبدالجواد» أن الإدارة تقوم بمتابعة جميع صالات المزادات على مستوى العالم، وبمجرد رصد أى قطع مصرية يتم التعامل مع الملف بالتعاون مع الجهات المعنية داخل مصر، وعلى رأسها وزارة الخارجية التى تقوم عن طريق سفارتنا بالخارج بتخصيص ملف لكل قطعة، وفى حالة التأكد من خروج أى قطعة أثرية بشكل غير شرعى يتم العمل على استردادها فورًا مع جميع الجهات المعنية.