أنوف حمراء.. أمراض المجتمع فى مشاهد ساخرة!
عنوان عرض يحمل اسم «أنوف حمراء»يحيل المشاهد إلى عالم السيرك والمهرجين الذين يضعون الأنوف الحمراء من أجل إضحاك الجمهور وإدخال قدر من السعادة إلى قلوبهم، ودون شك سوف يتوقع المشاهد عرضًا تدور أحداثه داخل عالم السيرك، ولكن المخرج محمد الصغير، الذى قدم هذا العرض ناتج ورشة للتمثيل فى مركز الهناجر للفنون، ابتعد تمامًا عن عالم السيرك وقدم حكاية فرقة مسرحية تسعى لتقديم عرض مسرحى فى ظروف صعبة تواجه معوقات عديدة تنتهى بفشلها فى تقديم هذا العرض.
دون شك سوف يطرح السؤال نفسه بقوة: لماذا العنوان «أنوف حمراء» التى سوف يضعها الممثلون على أنوفهم أثناء الأداء فى بعض المشاهد؟، وبعد أن نشاهد بعض اللوحات المتناثرة التى من المفترض أنها قوام العرض الذى يعد له المخرج فريد القادم من بعثة دراسية فى إيطاليا- سنجد تفسيرًا حتى لو كان بعيدًا، هو عبارة عن مفارقة مغزاها أن هؤلاء الممثلين ليس أمامهم سوى أن يسلكوا سلوك المهرجين لإضحاك الجمهور للاستمرار فى تقديم المسرح! وفى مشاهد النهاية يضع رجل الأمن، حارس المسرح، أنفًا أحمر وهو يحاول إقناع المخرج بأن يضمه إلى فريق التمثيل بينما يقدم مشهدًا هزيلًا، فى دلالة وإشارة واضحة على أن هذا الأنف هو جواز المرور إلى الجمهور الذى أصابه العطب وتسرب الفساد إلى ذائقته، فهل أصاب العرض فى اختيار العنوان أم لا؟ «أنوف حمراء» هذا المصطلح خرج من عالم السيرك إلى محاولة التعبير عن السعادة وتحقيق البهجة للآخرين، فهناك مؤسسة الأنوف الحمراء التى تأسست فى النمسا عام ١٩٩٤ كمنظمة غير ربحية تهدف إلى إدخال الفرح والابتسامة إلى قلوب الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة، وفى عام ٢٠٠٣ تأسست مؤسسة الأنوف الحمراء الدولية الخيرية غير الربحية، وقد طورت من أنشطتها ضمن برامجها لتغطى كل فئات المستفيدين، سواء كانوا مرضى من الأطفال أو الكبار، وعملت فى مناطق شتى من العالم، ومنها فلسطين، وذلك من خلال مجموعة من الأطباء الذين أخذوا على عاتقهم إسعاد المرضى، وفى دلالة أخرى، وفى عام ٢٠١٦، رسم الأمريكى «إريك فيشل» صورًا عديدة لمسئولين على شكل مهرجين فى البيت الأبيض، ومنهم الرئيس السابق دونالد ترامب، وكلهم يضعون أنوفًا هزلية حمراء اللون فى رد فكاهى على انهيار العالم على يد هؤلاء! ليصبح المصطلح متداولًا بشكل كبير وشائع خارج عالم السيرك للتعبير عن البهجة وإدخال قدر من السعادة على من يحتاجونها، أو من خلال استعارة شخصية المهرج، أو كدلالة على السخرية.. أما فى العرض الذى قدمه المخرج محمد الصغير فثمة دلالة أخرى استمرت على مدى ساعة ونصف الساعة، من خلال مجموعة من اللوحات المبعثرة التى لا يربطها سوى الموضوع الرئيسى، أى الفرقة التى تحاول تقديم عرض مسرحى فى مسرح يملكه شخص اسمه جمعة، وهو صديق المخرج، مسرح له تاريخ كان يملكه يونانى وشهد عروضًا كبرى لكبار المسرحيين، ومنهم نجيب الريحانى ورفاقه، وفقًا لما جاء فى العرض، وهذه الإشارة لا تخلو من دلالة على إبراز تاريخ مضىء للمسرح المصرى مقابل الانهيار الذى يجسده العرض، سواء فى فشل الفرقة فى تحقيق الهدف أو دلالة الأنوف الحمراء التى تعنى فى العرض التنازل وتقديم ما يرضى الجمهور، وينتهى العرض بقرار من الحى بإزلة المسرح بعد أن باعه جمعة، وتشتتت الفرقة، وأصيب الجميع بخيبة الأمل لهذه النهاية المأساوية ليس فقط للفرقة ولكن للمسرح بشكل عام.
قدم محمد الصغير العرض من خلال خشبة مسرح فارغة إلا من مدرجين فى عمق المسرح، سوف يتم استخدامهما فى أغراض متعددة، مع مدخل للمسرح عليه لافتة مكتوب عليها بالإنجليزية «السيرك» تثير التساؤل حتى لو كانت من بقايا العرض السابق الذى تم استخدام بعض مفرداته للعرض الجديد الذى غاب عنه مهندس الديكور! يدخل المخرج من الصالة مخاطبًا الفرقة التى اجتمعت على خشبة المسرح، ويبدأ عمله فى التوجيه ورسم الحركة وتوزيع التعليمات. مخرج عصبى وطيب، درس جيدًا، ويؤمن بقيمة المسرح، ومن هذه اللوحات التى تركز على الانتقاد الاجتماعى وعرض ما أصاب المجتمع من سلبيات لوحة «الميكروباص» التى يجسد من خلالها مثالب المجتمع، ممثلة فى انهيار القيم والتقاليد وتسلط العشوائية على سلوك الناس، ولوحة أخرى عن موظف وكيفية تسلمه العمل، لتبرز اللوحة التى يطغى عليها أسلوب «البارودى» المحاكاة الساخرة لتجسيد مثالب الروتين والسخرية من هذا الأداء، وتنتهى بمقولة دالة «اللعنة على كل من يتعدى على السيستم». ومشهد آخر تحت عنوان «شنة ورنة» يسخر من تدهور الغناء وبرامج المسابقات التى ساهمت فى إفساد الذوق العام، بالإضافة إلى اللوحة المؤلمة التى تجسد الهرولة نحو برامج مشبوهة واختار لها عنوان «بوم تك»، عبارة عن تطبيق على الهاتف المحمول حين يتواصل معه المستخدم وينفذ أوامره يحصل على مزيد من الدولارات، ومن خلال فتاة تتواصل لعرض نفسها ومواهبها للحصول على المال يفاجئها الأب والأم، وبعد الاعتراض تقنعهما بالاشتراك معها، فيرقص الأب فى مشهد مهين يتبادل من خلاله الصفعات مع الأم وفقًا لأوامر البرنامج، بل ويتناولا طعامهما مثل الكلاب باستخدام الفم فقط مع تعطيل الأيدى، صورة مؤلمة لانهيار القيم وتحولات المجتمع ممثلة فى التخلى عن المبادئ، صورة حية ومعبرة عن قيم المجتمع الاستهلاكى الذى تحكمه وتتحكم فيه المادة، وبالإضافة إلى هذه اللوحات التى قدمها المخرج فى أسلوب ساخر معتمدًا على التضخيم والتشويه لإثارة الضحك، والاختلاف الذى يصل إلى حد التناقض من خلال تحوير مدلول مضمون هذه اللوحات فى الواقع وتحويلها إلى مجرد هيكل فارغ يخلو من الصبغة التى كانت تطبعها، فعلى سبيل المثال لوحة الموظف التى تم من خلالها تحوير كل الإجراءات الجادة والرسمية لاستلام العمل إلى مادة للسخرية يعرفها المشاهد جيدًا- فثمة مرجعية مشتركة بين الجمهور وخشبة المسرح تخلق نوعًا من الاتفاق الضمنى بينهما، فمن ناحية تسمح بالتعرف على الأصل، أى إجراءات تسلم العمل، ومن ناحية أخرى يتفاعل الجمهور مع هذه المادة التى تم تحوير مدلولها، فيتحقق الهدف، ليس فقط إثارة الضحك بل تتضمن بعدًا نقديًا يقترب من الهجاء السياسى والاجتماعى، وهو من أهداف العرض الذى يبدو واضحًا بدءًا من العنوان ووصولًا للنهاية التى فاجأت الجمهور بهدم المسرح وإزالته من الوجود، ومرورًا بهذه اللوحات الانتقادية لتدهور القيم.
الفرقة المسرحية التى فشلت فى تقديم العرض تضم مجموعة من المواهب تجسد شرائح متنوعة من المجتمع، ولا تخلو ملامحها من السخرية أيضًا، فهناك المثقف القارئ الذى يحمل دائمًا كتابًا ويتحدث بصرامة تثير الضحك، وأيضًا الموظف صباحًا ويعمل فى المراكب ليلًا فى الغناء لكسب العيش، وأيضًا الممثل الذى يمارس عمله مهرجًا يقدم فقرات هزيلة فى افتتاح المحال التجارية، والشاعر الذى يدارى موهبته ويفضل العزلة ويهرب حتى من الحب، وأيضًا الطالب بمعهد الفنون المسرحية الذى يسعى بتفاؤل نحو المستقبل رغم الصعوبات، والفنانة المريضة بالوسواس القهرى من العدوى، نماذج لا تحمل فقط ملامح ساخرة، بل وتجسد حالة الإحباط التى يعيشها من يعملون بالمسرح، نماذج مصابة بأمراض اللحظة الراهنة من إحباط وتشتت وعدم تحقق، وكانت هذه الشخصيات قوام اللوحات الساخرة التى قدمها العرض الذى كتب نصه المخرج مع محمد السعدنى، الذى لعب أيضًا دور المخرج فريد فى العرض، ودون شك هذه الشخصيات المتنوعة والثرية كان لها الدور الأهم فى إثراء هذه اللوحات الانتقادية الساخرة.
عرض «أنوف حمراء» إعداد موسيقى لمحمد مصطفى، واستعراضات هانى حسن، وديكور ورشة الهناجر، وقام بأدوار البطولة محمد السعدنى، الذى شارك فى الكتابة مع نور شادى وباسم إمام وطارق الشرقاوى ومارى جرجس وهانى عاطف وندى محمد وهالة محمد وسارة خزبك وعلى عبدالناصر وعلى حميدة ومحمد أسامة وحسن سليمان وعبدالرحمن.. والعرض كما ذكرت ناتج الورشة الثانية للهناجر، وكانت الورشة الأولى قد أنتجت عرض «قرب قرب» الذى قام بالإشراف عليه وإخراج العرض شادى سرور، مدير مركز الهناجر، وهذا العرض يكمل هذه الورشة التى من المفترض أنها تقدم وتكتشف مواهب جديدة وفقًا للهدف الذى أعلنه مركز الهناجر من قبل.