معركة الشيخ بخيت
الشيخ بخيت وعبد المتعال الصعيدي.. قراءات وتأويلات واختلافات في آية "وعلى الذين يطيقونه"
- الخلاصة أنه لا رخصة لأحد من المسلمين المكلفين فى إفطار رمضان بغير عذر
الشيخ عبدالحميد بخيت: شريعة الإسلام الحقيقية فى صيام رمضان
لم يشرع الله سبحانه وتعالى صيام رمضان لتعذيب البشر، بل لتعويدهم الصبر على المكاره، وقوة الاحتمال فى النوازل، ولعلهم يتقون ربهم إذ يذكرون رحمة الله بالناس، بإنزال الدستور الجامع المنظم لجميع شئونهم الدنيوية والأخروية، مما يحفزهم للتفرغ لمشاكل الحياة الأخرى التى تعرض للأمم والحكومات. فحكمة مشروعية الصوم هى كما قال الله فى القرآن الكريم «شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون».
أجل يريد الله بالناس اليسر والبساطة والسهولة، ولا يطلب إليهم شيئًا يضايقهم ويعقد الحياة لديهم، ومن هنا رخص الله الإفطار لمن يؤذيهم الصوم ولو قليلًا من الأذى، فمن يشق عليه الصوم أو يضايقه فإن له أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا، فمن لم يجد فلا جناح عليه أن يفطر ولا يطعم.
نقول ذلك إذ شهدنا ونشهد كل يوم مئات من المؤمنين يشق عليهم الصوم، فيذهبون إلى الخلوات والأمكنة النائية فيأكلون ويشربون، وذلك لئلا يراهم الجائعون المقلدون لآبائهم فى الصوم فيسخرون منهم، مع أن بعضًا من هؤلاء المفطرين أحسن دينا وخُلقًا من كثير من الصائمين- إلخ إلخ. إن شريعة الصوم لم تفرض إلا على الشغوفين به، القادرين عليه، الذين يؤدونه بدون ما برم أو ضجر، وأما الذين يطيقونه بمشقة وإرهاق قد يعوقهم عن أداء بعض ما يجب عليهم نحو أنفسهم أو عيالهم أو دولهم أو الإنسانية، بوجه عام فإن لهم أن يفطروا جهارًا نهارًا، وعلى القادرين منهم أن يفتقدوا فيتصدقوا كل يوم يفطرونه بإطعام مسكين أو قيمته، تلك شريعة الإسلام فى رمضان، لا تثريب على من يفطر بعذر، ولا يعترض صائم على مفطر، فالناس أدرى بأعذارهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
اجتهاد الصعيدى «1».. قراءات وتأويلات واختلافات فى آية «وعلى الذين يطيقونه فدية»
نعود إلى ما فى آية «وعلى الذين يطيقونه فدية» من قراءات وتأويلات واختلافات لبيان سببها أولًا، ولتفصيلها ثانيًا.
فأما سببها فهو أنهم فهموا خطأ أن ظاهر الآية يفيد إباحة الفطر لمن يطيق الصوم أى يستطيعه مع إعطاء الفدية «طعام مسكين»، وهذا الظاهر عندهم باطل بإجماع المسلمين، لأن الصوم فرض على كل من يطيقه، ولا يجوز له أن يفطر ويطعم مسكينًا عن كل يوم يفطره، فلما وقعوا فى ذلك الخطأ اضطروا إلى الوقوع فى تلك القراءات والتأويلات والاختلافات، وتكلفوا فيها ما تكلفوا ليفروا مما وقعوا فيه.
أولًا: بعضهم قرأ الآية «وعلى الذين يطوَّقونه» بتشديد الواو وفتحها، أى يكلفون الصوم ولا يطيقونه، من الشيخ الكبير والمريض الذى لا يرجى شفاؤه ونحوهما.
ثانيًا: بعضهم قرأها «وعلى الذين يطيِّقونه» بتشديد الياء وكسرها، أى يتكلفون الصوم ولا يطيقونه كالقراءة السابقة، ولكنها بالبناء للفاعل.
ثالثًا: بعضهم قرأها «وعلى الذين يُطّيقونه» بتشديد الطاء والياء، أى يتكلفون الصوم ولا يطيقونه، وهى بالبناء للفاعل كالقراءة السابقة.
رابعًا: بعضهم قرأها «وعلى الذين لا يطيقونه» بزيادة لا النافية مع تخفيف الياء كالقراءة المشهورة، أى لا يستطيعون الصوم كالقراءات السابقة.
وقد ذكر القاضى ابن العربى أن القراءة هى القراءة المشهورة «يطيقونه» بتخفيف الياء وعدم زيادة لا وأن ما عداها من القراءات شاذ وإن روى وأسند، والقراءة الشاذة لا ينبنى عليها حكم، لأنها لم يثبت لها أصل.
وذكر ابن جرير الطبرى أن هذه القراءات مخالفة لمصاحف الإسلام، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأى على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلًا ظاهرًا قاطعًا للعذر، لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذى لا شك فى أنه من الله، ولا يصح الاعتراض عليه بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
أما التأويلات فى القراءة المشهورة فكثيرة أيضًا مثل تلك القراءات الشاذة.
خامسًا: بعضهم أبقاها على ظاهرها عندهم من إباحة الفطر لمن يطيقون الصوم ووجوب الفدية عند الفطر، وذهب إلى أن هذا كان فى أول فرض الصوم، من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نسخ ذلك بقوله «فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر»، فوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذى لا يستطيع الصيام. وقيل إن ذلك نسخ بقوله «وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون» وقيل إن ذلك كان مرخصًا للشيخ الكبير إذا أطاق الصوم، ثم نسخ هذا، فإذا لم يطقه كان له أن يفطر ويفدى.
ولكن هذا يتوقف على ثبوت ذلك التخيير فى أول فرض الصوم، حتى تحمل الآية عليه ثم يدعى نسخها، وليس هذا بثابت على القطع، لأنهم اختلفوا فيه على قولين، فقيل إن الفرض الأول كان صوم ثلاثة أيام من كل شهر بقوله «كتب عليكم الصيام» وقوله «أيامًا معدودات» ثم نسخ بقوله «شهر رمضان» إلى قوله «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» فقد انتظم قوله «شهر رمضان» نسخ حكمين من الآية الأولى، أحدهما الأيام المعدودات التى هى من غير رمضان، والآخر التخيير بين الصيام والإطعام.
وقيل إن الذى كان أولًا فى فرض الصوم هو التخيير بينه وبين الإطعام فى شهر رمضان، فلم يسبق فرض صوم أيام معدودات من غيره، وقد قيل إن هذا هو الصحيح، لاستفاضة الرواية عن السلف بأن التخيير بين الصوم والفدية كان فى شهر رمضان، وحينئذ لا يكون سبق ذلك التخيير فى فرض الصوم ثابتًا بيقين، فيكون ما ترتب عليه من دعوى النسخ غير مقبول، لأن النسخ فى القرآن كلما كان أقل كان أولى فيكون المصير إلى إثبات النسخ فى الآية من غير أن يكون هناك ما يحتمله بيقين غير جائز.
وأغرب ما فى دعوى النسخ فى الآية ما قيل إن ذلك كان مرخصًا للشيخ الكبير إذا أطاق الصوم ثم نسخ، فإذا لم يطقه كان له أن يفطر ويفدى، لأنه لا يوجد فى الآية ما يدل على تخصيص التخيير بالشيخ الكبير المطيق للصوم، وإنما التخيير فيها لمن يطيق الصوم مطلقًا، فإن كان تخصيص الشيخ الكبير لأنه يطيق الصوم بمشقة فالتخيير فيه باق لم ينسخ عندهم.
وهذا كله إلى ما فى دعوى النسخ فى هذه الآيات من إشكال لاتصالها فى التلاوة، فإنها تكون بعيدة مع هذا الاتصال، وإن أجابوا عن هذا الإشكال بأن الاتصال فى التلاوة لا يوجب الاتصال فى النزول.
سادسًا: وبعضهم ذهب فى تأويل الآية إلى أنها راجعة إلى المسافر والمريض لا إلى المقيم الصحيح، وحينئذ لا تكون منسوخة، لأن كلًا من المسافر والمريض إما أن يكون غير مطيق للصوم، وإما أن يكون مطيقًا له، فإن كان غير مطيق له فعليه عدة من أيام أخر عند طاقته، وإن كان مطيقًا له فيكون قد خير بين الصوم والفدية.
وهذا التأويل هو اختيار الأصم، وأكثر المفسرين والفقهاء على أنها فى الشيخ الكبير والمريض الذى لا يرجى شفاؤه ونحوهما كما سيأتى، أما المسافر والمريض الذى يرجى شفاؤه فعليهما القضاء فقط عندهم، من غير تفريق بين كونهما مطيقين للصوم أو غير مطيقين، لأن المفروض فى الأصل هو الصوم، فلا يعدل عنه إلى الفدية مع إمكانه، فيكون حكم المسافر والمريض المطيقين للصوم كحكم المقيم الصحيح عند الإفطار، وهو وجوب لا غير، ولا يصح أن يفرض عليهما القضاء مع الفدية، لأن مثل هذا لا يجب عندهم فى المقيم الصحيح على ما سيأتى، فلا يجب فيهما من باب أولى، ولم يخالفهم الأصم فى المقيم الصحيح، لأنه حمل الآية على المسافر والمريض المطيقين للصوم فقط، ولم يلحق بهما المقيم الصحيح.
سابعًا: وبعضهم ذهب فى تأويل الآية إلى أن معناها وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم فى شبابهم وصحتهم وقوتهم إذا مرضوا أو كبروا فعجزوا عن الصوم فدية طعام مسكين، لا أن القوم كانوا رخص لهم فى الإفطار وهم على الصوم قادرون إذا اقتدوا، وحينئذ فلا نسخ فى الآية أيضًا، وهذا التأويل بعيد جدًا، لأن الذى فى الآية «وعلى الذين يطيقونه» وليس فيها وعلى الذين كانوا يطيقونه، فهى فيمن يطيقه فى الحال، لا فيمن كان يطيقه فى الماضى ثم عجز عنه.
ثامنًا: وبعضهم ذهب فى تأويل الآية إلى أن الضمير فى قوله «يطيقونه» للطعام لا للصوم، وهو تأويل فى غاية البعد، ولهذا قيل إنه لأهل العلم مخالف، وصاحبه يفر به من دعوى النسخ مثل التأويل السابق.
تاسعًا: وبعضهم ذهب فى تأويل الآية إلى أن ذلك كان مرخصًا للشيخ الكبير إذا أطاق الصوم، ثم نسخ هذا، فإذا لم يطقه كان له أن يفطر ويفدى، وإذا أطاقه وجب عليه الصوم دون الفدية، وهذا تأويل بعيد أيضًا، لأنه لا معنى للترخيص بذلك للشيخ الكبير وحده ثم نسخه مع قيام سبب الرخصة فيه وهو كبره، فعدالة التشريع الإلهى تأبى مثل هذا، والمعقول فى دعوى النسخ فى الآية ما سبق من أن ذلك كان فرض الصوم أولًا لكل مطيق له، لا للشيخ الكبير وحده.
عاشرًا: وبعضهم ذهب فى تأويل الآية إلى أن معنى قوله «يطيقونه» بتخفيف الياء يتكلفونه، لأن الطاقة اسم للقدرة مع المشقة بخلاف الوسع، أو لأنه لا يقال فى العرف للقادر القوى إنه يطيق هذا الفعل، وإنما يقال لمن يقدر عليه مع ضرب من المشقة، أو لأن «يطيقونه» ماضيها أطاق، والهمزة فيه للسلب، كأنه سلب طاقته، بأن كلف نفسه من المجهود ما سلب طاقته عند تمام بذله، وهذا التأويل متكلف أيضًا، لأن الظاهر أن قوله «يطيقونه» بمعنى يستطيعونه، وهو قول أكثر المفسرين والفقهاء، وهم الذين ذهبوا إلى أن الآية منسوخة، فالمتبادر من قوله «يطيقونه» يستطيعونه لا يتكلفونه بمشقة، وفى حمل الشىء على غير المتبادر منه تكلف، ولكن من يتكلف هذا التأويل يؤثره على تكلف النسخ فى الآية، فكل منهما حينئذ متكلف عند الآخر، وإنما يؤثر كل منهما تكلفًا على تكلف.
فالجمهور على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية، ومثله المريض الذى لا يرجى شفاؤه، أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فذهب الشافعى إلى أن عليهما الفدية أيضًا، لأن قوله «وعلى الذين يطيقونه فدية» يشملهما، وفرق أبوحنيفة بينهما وبين الشيخ الهرم، لأنه لا يمكن إيجاب القضاء عليه، فلا جرم وجبت عليه الفدية، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما، فلو أوجبنا عليهما الفدية كان هذا جمعًا بين البدلين، وهو غير جائز، لأن القضاء بدل، والفدية بدل، فلا يصح الجمع بينهما.
وذهب أحمد فيمن به شهوة الجماع غالبة لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه إلى أنه كالمريض يفطر ويطعم، ومثله من يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه، فأوجب الإطعام بدلًا عن الصيام، وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء، فإن رجا ذلك فلا فدية عليه، والواجب انتظار القضاء عند زوال العذر.
وذهب مالك إلى أنه لا يجب على الشيخ الكبير الذى يجهده الصوم ويشق عليه مشقة شديدة شىء من صيام أو فدية، لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية، كما لو تركه لمرض اتصل بالموت.
وذهب الليث إلى أنه لا كفارة على المرضع دون الحامل، لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل فى ذلك، ولأن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.
وذهب عطاء والزهرى والحسن وسعيد بن جبير والنخعى إلى أنه لا كفارة عليهما، لأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض.
وقد قال ابن حزم فى ذلك والعجب كله من أن أبا حنيفة ومالكًا والشافعى يسقطون الكفارة عمن أفطر فى نهار رمضان عمدًا، وقصد إبطال صومه الله تعالى بفعل قوم لوط، وبالأكل وشرب الخمر عمدًا، وبتعمد القىء، نعم وبعضهم يسقط القضاء والكفارة عنه فيمن أخرج من بين أسنانه شيئًا من طعامه فتعمد أكله ذاكرًا الصوم، ثم يوجبون الكفارة على من أفطر من أمره الله تعالى بالإفطار وأباحه له، من مرضع خائفة على رضيعها التلف، وشيخ كبير لا يطيق الصوم ضعفًا، وحامل نخاف على ما فى بطنها، وحسبك هذا تخليطًا، ولا يحل قبول مثل هذا إلا من الذى لا يسأل عما يفعل، وهو الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة أنه لا رخصة لأحد من المسلمين المكلفين فى إفطار رمضان بغير عذر، والأعذار المبيحة للفطر ثلاثة: أحدها السفر والمرض والحيض والنفاس، فيباح بذلك إفطار رمضان مع القضاء دون الكفارة، والثانى الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفارة، وإليه ذهب الشافعى وأهل الرأى إلى أنه لا فدية عليهما، والثالث الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، والمريض الذى لا يرجى برؤه، فعليهم الكفارة دون القضاء عند الجمهور، وقيل إنه لا قضاء ولا كفارة عليهما، أما الذى يفطر عمدًا من غير عذر فإن أفطر بغير الجماع فعليه القضاء ولا كفارة عليه فى المشهور عندهم، وإن أفطر بالجماع فعليه كفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينًا.
اجتهاد الصعيدى «2».. البلبلة التى خلقتها تفسيرات «وعلى الذين يطيقونه فدية»
فى آية «وعلى الذين يطيقونه فدية» بلبلة شديدة على تفسيرهم لها، لأن أكثرهم ذهب إلى أنها منسوخة، وأن التخيير فى ذلك كان فرض الصوم أولًا، وهذا هو قول عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذهب جماعة منهم «ابن عباس» إلى أنها محكمة غير منسوخة، ومعناها وعلى الذين كانوا يطيقونه فى حال الشباب ثم عجزوا عنه عند الكبر، فعليهم الفدية بدل الصوم، ودعوى النسخ فى القرآن لا تقبل بسهولة.
ويجب أن يكون فرض الصوم أولًا على التخيير معروفًا مشهورًا حتى تقبل فيه دعوى النسخ، ولو كان معروفًا مشهورًا ما ذهب ابن عباس وغيره الى أن الآية محكمة غير منسوخة، وكذلك لا يقبل بسهولة دعوى ابن عباس وغيره أنها فى حق الشيخ الكبير الذى لا يطيق الصوم، لأن الحق أنه لا يجب عليه قضاء ولا فدية، وعلى هذا تبقى الآية وفيها بلبلة شديدة، لأنه لا يوجد توجيه لمعناها يقبل بسهولة، ومثل هذا لا يقبل فى توجيه معانى القرآن الكريم، لأنه يجب أن يحمل على أحسن المحامل، ويجب أن تقبل معانيه بسهولة لا تكلف فيها. وقد سبق بيان ابن حزم للمفارقة الظاهرة فى مذهب من رأى أن الآية محكمة، وحملها على من يشق عليه الصوم الحمل أو رضاع ونحوهما، إذ أوجب القضاء والكفارة فى ذلك، ولم يوجبهما على من أفطر من غير عذر، مع أنه أولى بهذا من غيره، وقد اختار من أفطر لهذا أنها منسوخة على ما ذهب إليه الأكثرون، وفاته ما فى دعوى النسخ من التكلف لتشريع سابق فى الصوم لم يثبت بيقين على ما سبق، ويرد عليه أيضًا أنه لو كانت الآية لحكاية تشريع سابق للصوم على التخيير.
لم يكن هناك معنى لتشريع الفطر فيه بعذر السفر والمرض مع فرض القضاء فيهما، لأن الصوم ثابت فيه على التخيير، فهو مباح فى ذاته، ولا يحتاج إلى الترخيص فيه بعذر، لأن له أن يتركه بغير عذر ويخرج الفدية بدله، فيكون له هذا مع العذر من باب أولى، ولا يكون للعذر تأثير فى إباحته له، وبهذا تضيع فائدة قوله «فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر» بين قوله «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم» وقوله «وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين»، مع أن ذلك كله آية واحدة، لا يعقل إلا أنها نزلت فى وقت واحد، وفى تشريع واحد، فيجب أن يكون تشريعًا متسقًا لا ترد عليه مثل ذلك.
وكان الواجب أن يكون فى خطأ الشيخ عبدالحميد بخيت فى تفسير الآية ما ينبهنا إلى ما فى تفسير المتقدمين لها من تلك البلبلة، وإلى ما فى توجيههم لها من البعد عن سياقها، وعما يجب التشريع من الاتساق والانسجام، وعما يجب فيه من الخلو من المفارقات، فإذا كان الشيخ عبدالحميد بخيت قد أخطأ فى تفسير الآية ذلك الخطأ الظاهر فإن من قبله لم يصلوا فيها إلى ما ترتاح إليه النفس، ويسكن له القلب، وقد يكون أدرك هذا وأراد أن يصل فيها إلى شىء جديد يزيل تلك البلبلة، فأخطأه التوفيق فيها، حتى زاد فى بلبلتها، وأضاف اضطرابًا جديدًا إلى اضطرابهم فى تفسيرها، وإن كان اضطرابه أظهر من اضطرابهم، ولكنه اضطراب مثله على كل حال، وليس من يخطئ فى طريق لم يمهد قبله كمن يخطئ فى طريق ممهد، لأن من يخطئ فى الأول قد يكون له شىء من العذر، وإن كان خطأه ظاهرًا، لأن له أن يعتذر بأنه إذا أخطأ فيه فقد أخطأ فيه من قبله، وهم أئمة ذلك الشأن، وجهابذة التفسير والتشريع، ولكل خطأه على قدر منزلته فى ذلك الشأن.
ولكنا مع الأسف الشديد لم نتنبه إلى شىء من ذلك، ولم ننظر إلا إلى ذلك الخطأ الجديد فى تلك الآية، لظهور أمره وخروجه عن المقصود من تشريع الصوم فى الإسلام وفى الشرائع قبله، ثم بقينا بعد هذا على جمودنا على ما ذهب إليه المتقدمون فى تفسير الآية، كأن جمودنا على هذا ونحوه أخف ضررًا من الخطأ فى محاولة إصلاحه، مع أن مصيبة المسلمين الآن ليست فيمن يحاول الإصلاح والتجديد فيهم، فيصيب أحيانًا فى محاولته الإصلاح والتجديد، ويخطئ أحيانًا فى محاولة هذا خطأ قد يكون ظاهرًا فى النادر، وقد يكون غير ظاهر فى الغالب، وهذا يدل فى جملته على إخلاصهم فيما يحاولون، وإنما مصيبة المسلمين الآن فيمن يتخذ الجمود على كل قديم عقيدة دينية، فيرى كل قديم صوابًا، ويرى كل جديد خطأ، ويحارب الإصلاح والتجديد بكل ما فيه من قوة، ويناوئ المصلحين والمجددين بكل وسيلة.
وهذا هو الذى كان له أسوأ أثر فى المسلمين الآن، لأنه جعلهم يقفون عن التقدم والنهوض، ولا يحاولون إصلاح ما فيهم من فساد، حتى سبقهم غيرهم سبقًا ظاهرًا فى ميدان العلوم والمعارف، وصار ملك الدنيا فى يده بهذا السبق، فضاع كل شىء من أيدى المسلمين، وصاروا لا يساوون شيئًا فى هذه الدنيا، وساء اعتقادهم فى أنفسهم، وضعف اعتقادهم فى دينهم، فصار الإسلام فيهم اسمًا بلا مسمى، وصاروا مسلمين بالاسم لا بالحقيقة، فهم الآن قسمان: قسم تحلل من دينه وعصى أوامره ونواهيه، وقسم لا يفهمه فهمًا صحيحًا، بل يجهله جهلًا مركبًا، والجهل المركب أقبح أنواع الجهل، وكل هذا نتيجة الجود الذى يراه أصحابه دينًا، ويرتفع صياح أصحابه باسم الدين كلما رأوا محاولة التجديد، ولا سيما إذا كان التوفيق صاحب هذه المحاولة، مع أن الدين يئن من جمودهم، ومع أن هذا الجمود يسلبهم ما يزعمونه لأنفسهم من حق التكلم باسم الدين، ومن حق إقرار شىء أو إنكاره فيه، لأن جمودهم مرض دينى يجعلهم فى حاجة إلى الإصلاح، فهم فى حاجة إلى من يقوم لهم دينهم، ومن هو فى حاجة إلى تقويم دينه لا يمكنه تقويم دين غيره.
وحينئذ لا تقع مسئولية بقاء البلبلة فى الآية إلا على الذين جعلوا همهم فى خطأ الشيخ عبدالحميد بخيت فى تفسيرها القيام بإثارة فتنة عمياء لا تعى شيًئا، ولا تدرك ما فى تفسير المتقدمين للآية من بلبلة، لتحاول إصلاحًا فى تفسيرها يقضى على هذه البلبلة، ولا يجعل سبيلًا للخطأ فيها، لأنها تكون واضحة المنهاج، بينة الطريق.
ولكن أنَّى لهم هذا؟ وهم يرون أن المتقدمين لم يَدَعُوا لنا جديدًا نستدركه عليهم، وإنما غاية ما يمكننا بعدهم أن نرجح رأيًا من آرائهم على رأى، ونختار مذهبًا على مذهب، لا أن نستنبط جديدًا بعدهم، لأنهم وصلوا إلى كل ما يمكن من الاجتهاد فى علومنا، ولم يدعوا لنا جديدًا نستنبطه بعدهم.
اجتهاد الصعيدى «3».. قول جديد فى آية «وعلى الذين يطيقونه فدية»
سأبين لأولئك الذين يدعون أن المتقدمين لم يتركوا مكانًا لاجتهاد جديد بعدهم، أن فى الآية اجتهادًا جديدًا يقضى على بلبلة المتقدمين لها، فلا تحتاج معه إلى تكلف دعوى النسخ فيها، لأنه لا يصار إليه فى القرآن إلا عند تعذر حمله على غيره، حتى إن بعض المتقدمين ذهب إلى أنه لم يقع نسخ فى القرآن، وحمل كل ما ذهبوا فيه إلى النسخ على معامل لا نسخ فيها، وقد ذكر مذهبه الفخر الرازى فى تفسيره الكبير، وذكر ما يلجأ إليه من المحامل فى الآيات التى قيل إنها منسوخة، وكذلك لا تحتاج إليه تكلف المفارقة فى إيجاب الفدية على من لا يطيق الصوم مع أنها لا تجب فى المشهور عندهم على من يطيقه إذا أفطر عمدًا، بل يجب عليه القضاء فقط، وقد سبق أن من لا يطيق الصوم لا يجب عليه قضاء ولا فدية، لأن شرط التكليف الاستطاعة، فمن لا يطيق الصوم لا يجب عليه، ومن لا يجب عليه الصوم لا يجب عليه قضاء ولا فدية.
فللآية معنى قريب على طرف الثمام لا يرد عليه شىء من ذلك، وقد سبق أنهم فهموا أن ظاهر الآية يفيد إباحة الفطر لمن يطيق الصوم، وأنهم حين فهموا أن ذلك هو الظاهر منها اضطروا إلى تأويلها بما أولوها به ليصرفوها عنه، وإنى أخالفهم فى أن هذا هو ظاهر الآية، لأنه إنما يكون ظاهرها لو كانت على هذا النظم- وللذين يطيقونه فدية- لأنه يكون تقديرها وللذين يطيقونه فطر وفدية، فتفيد على هذا إباحة الفطر لهم، ولكن الآية ليست على هذا النظم، وإنما هى «وعلى الذين يطيقونه فدية» فلا تفيد إلا وجوب الفدية على من يفطر وهو مطيق الصوم، وقد أفادت قبله أن من يفطر لعذر عليه عدة ما أفطره من أيام أخر، فيكون من يفطره بغير عذر عليه القضاء أيضًا من باب أولى، وهذا مع وجوب الفدية عليه بصريح قوله «وعلى الذين يطيقونه فدية» فيكون عليه شيئان: القضاء بدلًا من الصوم، والفدية بدلًا من الإثم الذى وقع فيه بفطره من غير عذر، ولا تجب الفدية على غيره لعذره فى الفطر، فلم يقع فى إثم يحتاج إلى فدية، وعلى هذا لا نحتاج إلى تكلف نسخ فى الآية، ولا إلى تكلف فرض فدية على أنه لا فدية عليه لعذره، وإنما عليه القضاء لمن يفطر لعذر، مع فقط إذا أمكنه، فيكون فى فرض الفدية عليه وعدم فرضها على من لا عذر له مفارقة ظاهرة، كما سبق فى تعقيب ابن حزم عليهم.
وبهذا يكون المفطر فى رمضان على قسمين: قسم عليه القضاء فقط، وهو المفطر لعذر من سفر أو مرض ونحوهما، وإذا كان عذره لا يرجى زواله، كالشيخ الكبير والمريض الذى لا يرجى برؤه، فلا يجب عليه القضاء لعدم وجوب الصوم عليه بسبب عجزه عنه، وشرط التكليف الاستطاعة، وقسم يجب عليه القضاء والفدية، وهو من يفطر بغير عذر، فيجب عليه القضاء بدلًا من الصوم، وتجب عليه الفدية بدلًا من الإثم.
وهذا يتضمن تفسيرًا جديدًا فى الآية، ويتضمن حكمًا جديدًا فى إيجاب فدية- طعام مسكين- مع القضاء فيمن يفطر بغير الجماع، لأنى لم أعثر على حديث ولا قول لبعض الفقهاء يفرض الفدية عليه مع القضاء على أن تكون فديته طعام مسكين واحد فقط.
أما من يفطر بالجماع فقد ورد فيه عن أبى هريرة قال: جاء رجل إلى النبى «صلى الله عليه وسلم»، فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال. وقعت على امرأتى فى رمضان، قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا. قال: ثم جلس، فأتى النبى «صلى الله عليه وسلم» بعرق فيه تمر، قال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبى «صلى الله عليه وسلم» حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه أهلك، وفى لفظ ابن ماجة قال: أعتق رقبة، قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين، قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكينًا، وفيه دلالة قوية على الترتيب، ولابن ماجة وأبى داود فى رواية «وصم يومًا مكانه، وفى لفظ للدارقطنى فقال: هلكت وأهلكت، فقال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلى، وظاهر هذا أنها كانت مكرهة، وفى رواية أن رجلًا أفطر فى رمضان، وبها استدلت المالكية على وجوب الكفارة على من أفطر فى رمضان بجماع أو غيره، والجمهور حملوا المطلق على المقيد، وذهبوا إلى أنه لا كفارة إلا فى الجماع.
وفى الحديث دليل على أن الكفارة تجزئ بكل واحدة من الخصال الثلاث، وروى عن مالك أنه لا يجزئ، إلا الإطعام والحديث يرد عليه، وظاهره أيضًا يدل على أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب، لأن النبى «صلى الله عليه وسلم» لم ينقله من خصلة منها إلى أخرى إلا بعد عجزه عن الأولى، ونازع عياض فى ظهور دلالة الترتيب فى السؤال عن ذلك، فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، والجمهور على وجوب الترتيب بين الخصال الثلاث، وجمع بعضهم بين القولين بحمل الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز، وعكسه بعضهم.
واستدل بعضهم بقوله «تصدق بهذا» على أن الكفارة تجب على الرجل دون المرأة، وبه قال الأوزاعى، وهو الأصح من قولى الشافعى، وقال الجمهور: تجب على المرأة على اختلاف بينهم فى الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة، وهل هى أو على الرجل.
ويدل قوله فأطعمه أهلك على سقوط الكفارة بالإعسار، لما تقرر من أنها لا تصرف فى النفس والعيال، ولم يبين له النبى «صلى الله عليه وسلم» استقرارها فى ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولى الشافعى، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية.
وقال الجمهور: لا تسقط بالإعسار، لأنه ليس فى هذا ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه، والذى أذن له بالتصرف فيه ليس على سبيل الكفارة، وقيل المراد بالأهل المذكورين من لا تلزمه نفقتهم، وبه قال بعض الشافعية، وروده بما وقع من التصريح فى رواية بالعيال، وفى أخرى من الإذن له بالأكل، وقيل: لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له أن يفرق الكفارة فيهم.
ويدل قوله «صم يومًا مكانه» على أنه يجب عليه قضاء اليوم الذى أفطر فيه بالجماع، وقد حكى عن الشافعى أنه لا يجب عليه القضاء، واستدل له بأنه لم يقع التصريح فى الصحيحين بالقضاء، وأجيب بأن عدم ذكره فى الصحيحين لا يدل على عدمه لثبوته عند غيرهما. وذهبت الهادوية وجماعة إلى أن الكفارة غير واجبة أصلًا لا على موسر ولا على معسر، لأنه أباح له أن يأكل منها، ولو كانت واجبة لما جاز هذا، وهو استدلال غير ناهض، لأن المراد ظاهر فى الوجوب، وإباحة الأكل لا تدل على ذلك، بل فيها الاحتمالات السابقة.
والذى يهمنا من هذا كله ما ذهب إليه المالكية من وجوب الكفارة على من أفطر فى رمضان بجماع أو غيره، اعتمادًا على رواية «أن رجلًا أفطر فى رمضان» من غير تقييد بجماع، وقد روى عن مالك أنه قال: تجب الكفارة بكل ما كان هتكًا للصوم إلا الردة، لأنه إفطار فى رمضان أشبه الجماع، وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلبس أو تكرار نظر، لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الإنزال بالجماع، وعنه فى المحتجم: إن كان عالمًا بالنهى، فعليه الكفارة، وقال عطاء فى المحتجم: عليه الكفارة.
وحكى عن عطاء والحسن والزهرى والشورى والأوزاعى وإسحاق: أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع. وبه قال أبوحنيفة، إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به، فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه، واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما فى الباب من جنسه فوجبت عليه الكفارة كالمجامع.
وهذا كله خلاف ما ذهبت إليه من وجوه: أولها أنهم أوجبوا الكفارة على غير المجامع أخذًا من الخير السابق بالاعتماد على رواية فيه أو بالقياس عليه، وهذا ضعيف كما سبق، أما ما ذهبت إليه فيعتمد على قوله تعالى «وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين» وهو ظاهر الآية.
وثانيها أنهم يجعلون كفارة ذلك مثل كفارة الجماع، وهو على رأيى طعام مسكين واحد بصريح الآية، لا عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا، فلا يجب عليه عندى إلا إطعام مسكين واحد، وهو مدة من غالب قوت البلد أو نصف صاع من البر وصاع من غيره، وقال ابن عباس: يعطى المسكين عشاءه وسحوره.
وثالثها أنهم لا يوجبون قضاء اليوم، لأن الكفارة التى يوجبونها شديدة تكفى عنه، ولا سيما إذا كانت صوم شهرين متتابعين، أما الكفارة عندى فسهلة لا تكفى عن قضاء اليوم.
ورابعها أن رأيى وسط بين من يشدد فى الفطر بغير الجماع فيجعل كفارته مثل كفارته، ومن يتساهل فيه فلا يجعل فيه كفارة أصلًا، وخير الآراء ما كان وسطًا.
وخامسها أن فيه مع هذا حمل الآية على أحسن محاملها، وكتاب الله يجب أن يحمل على أحسن محامله.
ولا شك أن الخروج من هذه الفتنة بهذا التوجيه الجديد لهذه الآية خير ممن لم يهمه فيها إلا التعصب للجمود على التجديد.