أساطير إيران.. كتاب يكشف مفاجآت عن «الاحتفالات الشيعية»
حينما صرخ الباحث اللامع وأستاذ علم الاجتماع الإيرانى «محمود روح الأمينى» فى أحد المؤتمرات التى أقيمت بعد الثورة الإسلامية «1979» بعدة سنوات، معترضًا على محاولة محو القومية الإيرانية لصالح أسلمة الدولة والمجتمع، مؤكدًا أن القومية بكل ما تحمله من أساطير وديانات قديمة هى المكون الرئيسى للشخصية الإيرانية، تمت مواجهته بانتقاد شديد من قِبل آيات الله، بل والتهديد المباشر لكل الباحثين الذين تبنوا التيار القومى أمام سطوة رجال الدين.
لقد تعرضت الحياة الثقافية فى إيران إلى هزة عنيفة بعد الثورة الإسلامية، خاصة فى مرحلة «الثورة الثقافية» التى قادها «آية الله الخمينى» ضد كل التيارات الثقافية والتعليمية فى إيران، فأُغلقت المدارس والجامعات لمدة سنتين أو يزيد، تم خلالها تغير المناهج التعليمية بأخرى أكثر دينية، وتم استبدال القيادات الجامعية برجال الدين فى جميع التخصصات، بل إن «المجمع اللغوى» كان فى قمة نشاطه فى تلك المرحلة، فعمل على استبدال الكلمات الفارسية الأصل، بأخرى عربية إسلامية، وفرض تلك الألفاظ الجديدة على لغة الصحافة والثقافة. واستمرت تلك الأزمة لعدة سنوات قبل أن يستعيد المجتمع تدريجيًا هويته الثقافية الحقيقية، بعد أن أدرك النظام الحاكم فى فترة لاحقة أن الاحتفاء بالقومية الإيرانية، هو الذى منح للثورة فى بدايتها طابعها الخاص قبل مرحلة الأسلمة التى سيطرت على مختلف أوجه الثقافة فى إيران.
استمر «محمود روح الأمينى» وغيره من الباحثين فى إعادة رصد وإحياء التراث الإيرانى القديم، بكل ما يحمله من حضارة امتدت للألف الثالث قبل الميلاد، وأصدر العديد من الكتب التى تتناول تلك الفكرة بوضوح، أهمها كتاب «المعتقدات والأعياد القديمة فى إيران المعاصرة- بحث فى علم الاجتماع»، وهو كتاب صغير الحجم، لكنه شديد الرصد والدقة للعلاقة بين الأسطورة والمذهب الشيعى والعادات والتقاليد فى إيران على مر العصور، حاول «الأمينى» فى هذا الكتاب مناقشة فكرة غاية فى الحساسية والخطورة، وهى أن الأصول الشعبية لجميع المعتقدات الإيرانية خاصة الشيعية منها، هى المسيطرة على الوعى الاجتماعى حتى فى قمة سطوة التيار الدينى فى بداية الثورة الإيرانية، فتدريجيًا حاول النظام الإيرانى، أن يصالح بين القومية والدينية المذهبية، خاصة بعد تخلصه من «عقدة القومية» التى تبناها «الشاه» قبل الثورة، بحيث حاول تنحية كل ما هو دينى لصالح البعد القومى والتراثى القديم، فكان رد فعل التيار الدينى شديد القسوة على تلك الفكرة فى بدايات الثورة.
يعرض «محمود روح الأمينى» فى كتابة، أهمية الأساطير والمعتقدات الإيرانية القديمة خاصة الديانة «الزرادشتية»- التى ظهرت فى إيران منذ الأف الثانى قبل الميلاد، وما زالت مستمرة إلى الآن- فى تشكيل الفكر الشيعى خاصة داخل إيران، واتخذ من الأعياد القومية والمذهبية مدخلًا ملكيًا لتأكيد فكرته، وأهم تلك الأعياد هو «عيد النوروز» «اليوم الجديد»، أو عيد الربيع، وهو العيد القومى الرئيسى فى إيران، وبه تؤرخ السنة الإيرانية وهى مختلفة عن السنة الميلادية أو الهجرية، ويستمر الاحتفال به لمدة تقارب الشهر، بالملابس الجديدة والألوان الزاهية، والخروج فى الحدائق، وتمنح الدولة إجازة رسمية لموظفيها لمدة أسبوعين للاحتفال بالنوروز.
«النوروز» هو عيد انتصار «اهورامزدا» إله الخير والنور على «أهريمن» إله الشر والظلام، وهو بداية الكون، تبعًا للديانة الزرادشتية القديمة، كما أنه ورد فى الملاحم الإيرانية بوصفه انتصار أحد الملوك الفرس القدماء على الشيطان، وإعادة بناء العالم بعد خرابه على يد الشيطان. فللنوروز بعد قومى بامتياز، ولكن ومع دخول إيران التشيع بشكل رسمى فى القرن التاسع الهجرى، على يد الدولة الصفوية، وإلى الآن، قرر المجتمع الإيرانى، منح المذهب الشيعى طابعًا إيرانيًا، فقد ورد فى العديد من كتب الشيعة المعتبرة، أن يوم النوروز، هو ذاته يوم ميلاد المهدى المنتظر «الإمام الثانى عشر فى المذهب الشيعى الإمام الغائب»، وهو يوم «غدير خم»، الذى أوصى فيه النبى لعلى بن أبى طالب بالإمامة من بعده، تبعًا للمذهب الشيعى. وأن النبى صلوات الله عليه، كان يحتفل بعيد النوروز.. وبالتالى انسحبت تلك الفكرة على الممارسات الشعبية، فمن ضمن طقوس هذا العيد، أن يزور الإيرانيون أضرحة الآئمة وآل البيت، بالإضافة للاحتفالات الصاخبة القديمة التى تتم فى ذلك اليوم.
ففهم طبيعية الشخصية الإيرانية- كما يرى «الأمينى»- لابد وأن تتم من خلال المدخل الأسطورى الذى تمجده إيران، وأن للتشيع الإيرانى طابعه الخاص المعتمد على الإرث القومى، فمثلًا يُعيد الشيعة سنويًا فى شهر محرم، إحياء ذكرى كربلاء ومقتل الحسين بن على، ولإيران طابعها الخاص فى طقوس عاشوراء، خاصة الطقوس العنيفة مثل «التطبير» أو الضرب بالسيف على الرأس، أو الضرب بالجنازير المسننة على الظهر، وغيرها من الطقوس الشيعية الدموية. ولكن وبالعودة إلى الأسطورة الإيرانية القديمة، نرى أن تلك الطقوس ارتبطت ببطل إيرانى قديم وهو «سياوش»، الذى قُتل غدرًا على يد الشيطان فى الأسطورة، أو الجنس التركى كما ورد فى الملاحم التى تلت الأساطير، فأُقيمت له مراسم عزائية ضخمة فى عيد النوروز، تمارس فيها نفس الطقوس الحسينية، وبنفس العنف، واستمرت تلك الطقوس حتى القرن الثالث الهجرى فى بعض مناطق إيران، وبالتالى ومع ظهور التشيع، واحتكار حادثة كربلاء لصالح المذهب الشيعى، وحد الإيرانيون بين «سياوش» البطل الإيرانى القديم، والحسين كبطل مذهبى جديد.
ومن ضمن الأعياد التى رصدها «أمينى» فى كتابه، عيد «شب يلدا» «ليلة يلدا»، وهو من الأعياد الشعبية الكبيرة فى إيران، ويتم الاحتفال به فى آخر ليلة فى فصل الخريف، بوصفها أطول ليلة فى السنة، وبعدها ستبدأ مرحلة تساوى النهار بالليل، حيث يحتفل الإيرانيون بهذا العيد إحياءً لفكرة انتصار النور على الظلمة كما ورد فى المعتقد الزرادشتى القديم، وذلك بدق الطبول لإزعاج الشيطان وإبعاده، وكذلك إيقاد النار المقدسة فى المعابد الزرادشتية.. ولكن امتزجت تلك الفكرة مع تقادم القرون، مع «ميلاد المسيح»، لدى مسيحيى إيران، وتوقيته تقريبًا ٢٥ ديسمبر، بحيث يحتفل المسيحيون فى إيران بكلا العيدين فى نفس التوقيت.كما ظهر صدى لنفس الفكرة فى التشيع، فقد ورد فى بعض الكتب الشيعية، أن «ليلة يلدا» هى يوم عودة المهدى المنتظر، ويوم انتصار العدل على الظلم، فنحن أمام عيد قومى زرادشتى ينعكس على المسيحية والتشيع فى إيران.
يرصد الكتاب كذلك فكرة غاية فى الخطورة، وهى التشابه بين أسطورة خلق الكون فى الزرادشتية والتشيع، والمعتمدة على فكرة النور، فالكون فى الزرادشتية خُلق من نور «اهورامزدا» إله الخير، الذى امتد إلى شخصية نبى الديانة زرادشت، ومنه إلى أحفاده من بعده وصولًا للمخلص «المهدى المنتظر» فى الفكر الزرادشتى. ويرد فى التشيع أن أصل خلق العالم كان من نور الأئمة خاصة الإمام الأول على بن أبى طالب، وأن الله سبحانه مد هذا النور المقدس وصولًا للإمام محمد المهدى أو الإمام الغائب.
رغم أن هذا الكتاب أُعيد طبعة عدة مرات، ووفاة مؤلفه منذ عدة سنوات، وظهور العديد من الدراسات والأبحاث التى تتبنى نفس الفكر القومى، ورغم أن النظام الإسلامى سمح بظهور مثل تلك الدراسات فى المجال العام، إلا أن التيار الدينى المتشدد فى إيران، قابل ذلك التوجه الذى يحاول إعادة إحياء الأساطير القديمة، برفض شديد، وظهرت العديد من الآراء المتشددة على المنابر رجال الدين، تربط بين الأسطورة والبعد عن صحيح المذهب، كما ظهرت العديد من حملات التكفير لكثير من أصحاب التيار القومى. ولكن لم يتمكن ذلك التيار الرافض، خلال العقود السابقة من فرض سطوته الكاملة على المجتمع الإيرانى، الذى يرى فى هويته القومية، وتراثه الأسطورى، عنصر تميزه الوحيد.
فالنظام الإيرانى الآن يعمل فى الحفاظ على القومية فى إطاره المذهبى، فما زالت معابد الزرادشتية قائمة بكافة طقوسها، فى العديد من المدن الإيرانية على رأسها «أصفهان»، كما أن هناك ممثلين فى البرلمان للطائفة الزرادشتية، التى تشكل حوالى ١٪ من إجمالى السكان، والسائر فى شوارع إيران، سيجد العديد من الجداريات المرسوم عليها، أبطال ملحميين وأسطوريين، ورسومات للأئمة الشيعة، وضحايا الحرب العراقية الإيرانية. كما أن رموز النظام حريصون على الظهور فى الأعياد القومية والمذهبية بنفس الحضور والقوة.. وذلك حفاظًا على اتزان المجتمع الإيرانى الذى قرر الاحتفاظ بهويته وآلهته القديمة، حتى مع سطوة آيات الله.