الكينج.. الاسم منير والتصنيع مصرى
- قال: ارتحت بعد ما غنيت فى عزاء والدتى.. وأخواتى البنات يحصنوننى ضد الموبقات
«المشكلة بتيجى من الشهرة الكبيرة أوى دى، والملايين اللى بيحبوك من غير حدود، مسئولية كبيرة، لازم تسعدهم وتفرحهم، تشاركهم أحزانهم، زى ما بتشاركهم فى أفراحهم.. وطن فى أزمة لازم تغنى معاه فى أزمته، وطن بيفرح لازم تفرحه.. وطن عايز يتغير.. تغنى عشان يتغير.. تغنى عشان الحلم ده.. مشكلتى إنى ألاقى كل يوم شىء جديد وحلم جديد»
بداية الحدوتة
طفل نحيل أسمر بلون طمى النيل الذى تسبب تراكم أطنان منه فى هجرته مع أسرته ضمن آلاف الأسر من قريته- منشية النوبة- والقرى المجاورة ضمن سلسلة فيضانات خلفها السد العالى.
١٨ ألف أسرة نوبية جرى تهجيرهم على دفعات منذ ١٩٠٢ وحتى ١٩٦٣ بسبب خزان أسوان وبحيرة ناصر وأخيرًا السد العالى.
لم يفهم الطفل الأسمر كيف للمشروع الذى هدد أسرته بالغرق وسلبهم دفء منزلهم، هو ذاته المشروع القومى الضخم الذى غنى له عبدالحليم حافظ: قولنا هنبنى وأدينا بنينا السد العالى.
شعر الطفل محمد منير أبايزيد جبريل بأنّة مكتومة، ودّ لو حل محل العندليب وحظى بنصف صيته وشهرته ليعبر عن صوت النوبة، ليقول: نحن هنا فى الأسفل منكم.. فى أقصى الجنوب.. انظروا إلينا.. أهالينا شاركوا فى بناء السد.. وها هو يبتلع أراضينا بفيضانه.. ألم تصلكم جوابات الأسطى حراجى لزوجته المصونة فاطنة قنديل التى خطّها الأبنودى، أم ضاعت مع عامل البوسطة، أم هذه سمة الشعر وحدوده، يبدو أن دواوين كاملة قد لا تنافس أغنية واحدة لعبدالحليم، فليكن، سأصبح «مغنواتى» مثله، وإذا كان هو العندليب الأسمر، فماذا سأكون أنا؟!
ظل هذه المونولوج الذاتى يتردد صداه داخل عقل محمد منير، ليقوده فى رحلة استكشافية، باحثًا فيها عن ذاته، وعاكسًا مصر كما هى، وأحيانًا كما يحلم أن يراها، ليتوج فى النهاية ملكًا على عرش الأغنية المصرية، وسفيرًا بالتزكية عن كل شبر فى صعيد مصر «من قلبه وروحه مصرى والنيل جواه بيسرى».
رغم اعتزازه ببلدته وموطن نشأته، إلا أنه لم يرتضى الهجرة لهضبة كوم أمبو الواقعة خلف السد سكنًا ومستقرًا، وأخبر والده كبير موظفى ديوان محافظة أسوان، بقراره للحاق بأخيه الأكبر فاروق فى العاصمة، والالتحاق بكلية الفنون التطبيقية قسم التصوير، ليقف خلف الكاميرا بدلًا من الإقامة خلف السد، على أمل أن يشق طريقه للوقوف خلف «المايكروفون» يومًا ما.. وقد كان.
وعاش منير فى القاهرة فى حدود مصروف قيمته ٣ جنيهات فى الشهر، أى ١٠ قروش يوميًا، يذهب منه نصف جنيه لاشتراك أتوبيس الجيزة أم المصريين، ويدبر معيشته الثلاثين يومًا باثنين جنيه ونصف فقط.. كيف فعلها بمفرده؟! الإجابة أنه لم يكن وحيدًا؛ ففى الخلفية كان هناك أخ أكبر يعتنى.
فى عام ٢٠١٠ استقبل منير مكالمة من شقيقته بدلت ملامحه، بعد أن علم بتردى الحالة الصحية لشقيقه الأكبر فاروق، ما جعله يقطع جولته الغنائية فى ألمانيا، عائدًا على الفور إلى بيت العائلة فى أسوان. ليشهد الأيام الأخيرة لصاحب الفضل الأكبر عليه.
وفى مراسم العزاء لقطة العدسات منير فى حالة يُرثى لها، كمدًا على هول المصيبة التى حلت به.. فماذا كان يمثل هذا الأخ الأكبر للكينج؟!
فاروق لمن لا يعرفه، كان مرشدًا سياحيًا ومترجمًا شهيرًا، ولأنه يحمل نفس الجينات، فكانت تركيبته لا تقل عجبًا عن منير، فذات مرة وقع عليه الاختيار لمرافقة وزير الخارجية الأمريكى فى زيارته لمصر، لأنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ولكن جهة أمنية اعترضت لإصراره على مقابلة الوزير بجلبابه بدلًا من أن يرتدى بدلة أنيقة، ولكنه تحدى المسئول الأمنى، وقال له: «شبشبى ده بـ ٦٠٠ مارك ألمانى، وعِمتى مصنوعة من قماش توتال سويسرى، والخاتم ده ذهب عيار ٢٤» فأسقط فى يد المسئول، وقال له: «ماشوفتش مرشد سياحى فى ربع أناقتك وثقتك.. اللى ما يعرفك يجهلك.. مافيش غيرك هيقابل الوزير» ومن اليوم الأول لمنير فى القاهرة، كان فى كنف فاروق ورعايته، ينصحه ويتوسط له لدى معارفه، ويترجم له فى الغرب، حتى عبر به البحر المتوسط، ليحصل على صك العالمية.
الأستاذ الأول.. أحمد منيب
كان بليغ حمدى الهدف الأول لمنير منذ حطت قدماه القاهرة، واستطاع بصعوبة تحديد موعد معه، ولكن بليغ «فركش» المعاد، وأجله لأجل غير مسمى، فرجع يومها يشكو لفاروق ما حدث.
ولكى ينفض عنه الإحباط اقترح عليه أن يقدمه للحاج أحمد منيب، وقاوم منير فى البداية «ده فنان نوبى زى زيه هيضيف لى إيه زيادة» ومع ذلك أقنعه فاروق بطريقته، ولم يكن منير يتخيل أن تلك الزيارة هى أول فصل فى كتابة تاريخ فنى سيمتد لقرابة النصف قرن غُنا.
من أول «قعدة مزيكا» اندهش منير بمنيب، كفنان نوبى تمرد على الأغنية النوبية التقليدية الأقرب للمدخل السودانى والإفريقى، مازجًا إياها بالكورد المصرى القاهرى، وهو «ميكس» لم يسبقه إليه أحد.
وتشرب منير عصارة تجربة أستاذه، وتعلم منها درس حياته الأهم «لا يكفى أن تكون فنانًا عظيمًا فقط.. يجب أن تكون فنانًا عظيمًا وشهيرًا».
اتخذ منير من أستاذه النوبى دفعة الانطلاق، واقتبس من ألحانه أكثر من ٤٥ أغنية فى أول ١٠ ألبومات له؛ منها «شبابيك- دايرة الرحلة- شجر الليمون- حدوتة مصرية- حواديت- يا مراكبى- الرزق على الله».
وتعاون منير مع هانى شنودة ويحيى خليل وكبار الشعراء أمثال فؤاد حداد وعبدالرحيم عبد الصبور، واستعان بشقيقه فاروق مرة أخرى ليعبر به خارج الحدود، مستعينًا بشتى المدارس الغربية فى خدمة مشروعه وتطوير أغانيه.
يقول منير: «هؤلاء وجدوا فى حنجرتى ضالتهم، فعبدالصبور مثلًا كان لا يجرؤ على عرض كلماته التى غنيتها على صباح أو وردة، لكنى كنت أتحمس لأى فكرة جديدة عكس المألوف، ومازال البحث مستمرًا».
وكما غير من شكل الأغنية، تغير على يد منير شكل المغنى، فلأول مرة منذ أيام عبدالحليم وعبدالوهاب، يصعد المسرح مطرب أسمر بشعر «مفلفل» يرتدى بنطلون جينز وقميص بدلًا من البدلة والكرافتة، ويؤدى استعراضًا بكامل جسده لا حنجرته فقط، فعلق بذهن الجمهور، متسائلين عن معنى حركات يديه الغريبة؟!
يجيب منير عن السؤال: أنا بطبعى خجول وانطوائى، مع الستات والرجالة، ولولا عشقى للغناء والحالة التى تتلبسنى على المسرح، لأحجمت عن الفكرة برمتها، خوفًا من الجمهور، والحمد لله أننى وجدت طريقة للسيطرة عليه، ولم أسمح لجبنى بأن يعطلنى.
وهنا يكمن سر حركات يدى، فبدلًا من أن ترتعش ويلحظ الجمهور ذلك، كنت أعقد يدًا حول وسطى والثانية ألوح بها فى الهواء حتى لا تخوننى أعصابى وتهرب منى فيتأثر صوتى، ومع الوقت تحولت لحركات لا إرادية، أحاول أن أتخلى عنها فلا أنجح، وسبحان الله أصبحت تلك الحركات علامة مسجلة باسم محمد منير.
فتش عن المرأة
مادمنا قد ذكرنا الخجل، فمن البديهى أن نسأل إلى أى درجة طال تأثيره حياة محمد منير العاطفية بصفته أشهر عازب فى الوسط الفنى؟ ولنستعين بأشهر محبوباته فى محاولة للعثور على إجابة..
تحكى الفنانة نجلاء بدر: «فى بداياتى جمعتنى الصدفة بمحمد منير، كنت تخرجت لتوى فى كلية الإعلام، وأبحث عن فرصة فنية، فاتكعبلت بمنير، وأسرنى درجة نضجه العقلى».
وتضيف: «فى مرة خدنى استوديو نصر محروس وسمعنى أغنية لما النسيم، وقالى أنا مغنيها ليكى، ساعتها ماكنتش مصدقة نفسى، ولما طلب إيديا وافقت على الفور، واتقدم رسمى لمامتى واتفقنا على التفاصيل وحددنا موعد كتب الكتاب، لكن قبلها بيومين فص ملح وداب، اختفى فى ظروف غامضة دون سبب».
وبعد تجاوز الصدمة، أيقنت نجلاء أن الخيرة فيما اختاره الله، وصرحت بأنها لم تحب منير بل أحبت هالة السحر التى تحيطه «كاريزمته»، والتى غطت على فارق السن الكبير بينهما، وكشفت أنه اشترط عليها ترك الفن والتفرغ لحياتهما الزوجية، ورغم أنها أذعنت لكل شروطه، تركها لحال سبيلها!
ومن بعد نجلاء ضرب منير سياجًا على قلبه، واكتفى بعلاقته مع فنه، فكل أغنية جديدة بمثابة شريكة حياة، يبذل فيها الغالى والنفيس من روحه ومشاعره عن طيب خاطر، فإذا ما خرجت للنور، تركها لحساب أغنية جديدة أخرى، دون أن يشعر بالذنب.
لكن امرأة وحيدة اخترقت أسوار قلاعه، بفعل النوستالجيا الحنين للماضى.. فبعدما كسر الستين، وجد نفسه محاطًا بـ ١٨ حفيدًا من أبناء أبناء أشقائه، يتعهدهم بالرعاية، ويتكفل بمصاريف تعليمهم فى أرقى جامعات أوروبا، ويرسل لهم حوالات شهرية بالدولار، رغم أن ليس بينهم حفيد واحد من صلبه، فأحس أنه ملك وحيد فى مملكته، بلا أنيس ولا وريث، فترك العنان أخيرًا لقلبه الذى اشتاق لـ داليا يوسف، وهى فتاة من أصل نوبى، تصغره أيضًا بـ٢٠ عامًا، جمعته بها علاقة قصيرة، وانتهت بسرعة بسفرها فرنسا.
قرر منير السفر إلى باريس لإعادة إحياء الحب القديم إياه، ولم يتطلب الأمر أكثر من بضعة أيام حتى عاد بداليا بلدته أسوان، ليكتبا الكتاب، ويعليا الجواب، وسط الأهل والأحباب.
وبعد ٥٠ يومًا فقط وقع الطلاق، وعادت داليا أوروبا، وعاد الكينج إلى مملكته وملكوته، الذى بدا له أنه لا يتلاءم مع وجود أى أنثى والسلام، وأنه لن يفتح قلبه ثانية إلا لو وجد من ينطبق عليها شروطه الخاصة دون أى تنازلات.
وبعيدًا عن مصر التى غنى لها منير معظم أغانيه، وحبيباته اللاتى يتوهم حبهن أملًا فى استجلاب الإلهام لأداء أغان عاطفية مشحونة، يعترف منير بأهمية وجود المرأة فى حياة أى رجل، لما لها من تأثير فى صنع توازنه النفسانى وتهذيبه النفسى.
والمرأة فى حياة منير تتلخص فى أمه، وشقيقاته الثلاث، وعنهم يقول: «أمى الست أمينة ابنة محمد بك حسن الذى حصل على الباكوية بمنحة من الملك فؤاد، وشقيقاتى الحاجة سميحة عندها ٨٦ سنة، وهى بركة بيتى، ربنا يديها العمر والصحة، والثانية أميرة عايشة فى دور «بكيزة هانم» وهى عضوة فى نادى الصيد، ومطلعة عيننا بحكاوى شلتها اللى مابتخلصش لكنها حبيبة قلبى، والثالثة خديجة راعية محمد منير وسندى فى كل المحن، والتى كان آخرها عملية جراحية خضعت لها، فانتقلت هى لمنزلى تمرضنى وتعتنى بى بالشهور».
ويتابع منير: «التلاتة ماليين البيت عليا دفا وونس وطهر، وحاميينى من شر نفسى، ماهو إزاى هعمل موبقات وروح أخواتى موجودة فى المكان».
وعلى ذكر الست أمينة، حكى منير واقعة غريبة صدرت عنه فى يوم وفاتها «أما أمى فالله يرحمها رحلت مبكرًا سنة ١٩٨٣ قبل أن ترانى مطربًا مشهورًا وناجحًا.. كان نفسى تدوق خيرى وأعوضها عن حسن تربيتى خيرًا، لكن آدى الله وآدى حكمته».
ويضيف بأسى: «أتذكر يوم وفاتها، نزل علىّ الخبر كالصاعقة، وفضلت طول اليوم مشغولًا بين إصدار التصاريح ومراسم الجنازة والدفن، وفى العزاء وجدتى أتسحب من بين الحضور، وأدخل الحمام وأدندن بالغناء والمزيكا، وكأن الفن عزائى الوحيد، ولا يزال».
صدف خير من ألف معاد
كان من الممكن أن يصبح منير مخرجًا سينمائيًا، يختفى خلف الكاميرات فلا يصلنا إلا اسمه، بحكم دراسته التصوير الإلكترونى بدرجة البكالوريوس، لكن القدر جعله «الكينج» الذى نعرفه، بجانب صدفة صنعت منه ممثلًا مقبولًا.
وفى هذا يعود الفضل للعبقرى يوسف شاهين الذى التقاه بترتيب من مساعده محمد كريم، ويروى منير تفاصيل تلك المقابلة: «روحناله ٥ صباحًا وسألنى مثلت قبل كده؟ فقولتله: لأ، ولا عاوز أمثل.. فسكت الأستاذ دقايق ولقيته بيقولى أنت حمار مش عارف مصلحتك، وخدنى أمثل معاه بالأمر، ومن ساعتها وهو صديقى وحبيبى.. ربنا يرحمك يا جوو».
أما الصدفة الأكثر غرابة كانت فى حكاية أدائه تتر «بكار» أحد أشهر أغانيه على الإطلاق، والرواية عن صاحبها: «كنت ماشى فى الشارع وصادفت المخرجة منى أبوالنصر وسلمت عليها لقيتها بتقولى أنا بأصور كرتون فى التليفزيون ماتيجى تغنيلنا التتر»، وقبل منير العرض مجاملة لزميلته، ولم يكن يعرف أنها الأغنية التى ستدخل كل بيت مصرى، وربما يلخص كوبليه منها قصة حياته الطويلة «من قلبه وروحه مصرى.. والنيل جواه بيسرى» نفس النيل الذى أغرق قريته ليقذف به فى مكان وصل منه للمكانة التى يستحقها «ولسه بيجرى ويعافر.. ولسه عيونه بتسافر.. ولسه القلب لم يتعب من المشاوير».