غواية دستويفسكى.. لم يحبه «عامة المبدعين» ولم يفلت أحدهم من غوايته
فى البدء كان فيودور ميخائيلوفتش دستويفسكى، المولود فى الحادى عشر من نوفمبر 1821، ثم كانت الرواية الحديثة فنًا عصيًا على المقاربة، وسهلًا بسيطًا واضحًا، فى آنٍ واحدٍ معًا، يختلف الناس حوله، ويتفقون على أهميته.. يختلفون حول أساليبه وأهدافه وطرقه، ويتفقون حول متعته، وجدواه، وحاجة البشرية إلى تطويره، ومده بما يحتاج من عناصر وأفكار وتصورات، واكتشاف ما يثريه من مسارات ومدارس ودروب لا ضرر من السير فيها، وسبر أغوارها..
كان دستويفسكى، فكانت الكتابة عن متاهات النفس البشرية، عن غرفها الدفينة، وقشورها الصلبة الظاهرة، وما بينهما من حفر ومرتفعات وقيعان.. ربما اختلف حوله النقاد والمبدعون، فلم يحب أفكاره ولا طريقته فى العمل والكتابة روائيون كبار، واتجه فريق منهم إلى الاعتقاد بأن أساليبه أضرت بفن الرواية، وبحياة من قرأوا رواياته وتمثلوا أفكاره، التى كانوا يرفضونها كما يرفضون تصوراته عن الحياة والأدب والفن، لكن آخرين كبارًا ساروا على هديه، فعاشوا يدرسون مرجعياته، ودوافعه، وطرائقه فى بناء أعماله الكبرى، واستخلاص ما يريد الذهاب إليه، قبل أن يبدأوا فى العمل على ما لديهم من تصورات.. على أنه، رغم الاختلاف الجذرى والعميق، لم يستطع أحد من عامة الكتاب والمبدعين أن يفلت من فتنته، لم يستطع أحد أن يبدأ طريقه فى الكتابة والإبداع بكل أشكاله وأنماطه، دون قراءة كل ما خطت يداه، أو المرور على أعماله، فاتفق الجميع على أهمية قراءته، وتدارسه، والبحث عن أسرار تفرده، حتى هؤلاء الذين لم يكونوا من عامة الناس، أمثالنا، عامة الكتاب والأدباء والمبدعين، اجتهدوا، وكتبوا، وأبدعوا، بل ومنهم من حفروا أسماءهم فى سجلات الحضور والانصراف بدفاتر الأدب والفن حول العالم، بينما لم يسجل هو وقلة من أمثاله سوى الحضور فى «نوتة» العظماء، تلك التى لم يوقع بها سوى قلة قليلة من المبدعين الكبار.. هؤلاء الذين لا يسجلون سوى حضور، فقط.. بلا انصراف.
توماس مان: أول مبدع نفسانى فى الآداب العالمية
فى تصورى الشخصى، أنه ما من كاتب على وجه الأرض إلا واحتاج إلى قراءة «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كرامازوف»، و«الأبله»، واعتكف على كل منها، وعلى غيرها من أعماله التى توزعت بين ست عشرة رواية طويلة وقصيرة، وسبع عشرة مجموعة قصصية، لكى يبدأ فى بلورة تصوره عما يمكن أن يضيفه إلى هذا الفن الضارب فى أعماق التاريخ الإنسانى، منذ بدء الخليقة.
ربما كانت «الحكاية» هى الباب الذى مرت منه البشرية إلى الحضارة، ومغاردة موقعها فى سلم التطور، والانتقال إلى مسار جديد، تبنى فيه الأجيال الجديدة على ما وصلها من حكايات الأولين، تسترشد بها، وتستدل بها على ما كان يخفى عليها من أسرار، حتى جاء دستويفسكى، فبدأت رحلة استكشاف النفس البشرية، بمكنوناتها، وغرفها الدفينة، وتقلباتها غير المفهومة، والمستعصية على الإدراك، وهو ما عبر عنه الروائى الألمانى الأشهر بول توماس مان، الحائز على نوبل للأدب عام ١٩٢٩، بقوله: «إن دوستويفسكى هو أول مبدع نفسانى فى الآداب العالمية على مر العصور»، وما أفاضت فى شرحه الدكتورة مكارم الغمرى، العميد الأسبق لكلية «الألسن»، فى كتابها «الرواية الروسية فى القرن التاسع عشر»، بقولها إن روايات دستويفسكى تتسم بتوتر حاد فى إحساسات الشخصية، وبدقة فى تصوير أفكارها ومشاعرها، وبعمق فى النفاذ إلى التناقضات الداخلية للإنسان الذى يتكشف فى أكثر لحظات حياته الصعبة، ومن خلال صراعات عنيفة مع نفسه، وتوتر حاد للرغبات»، مضيفة «إن بطل دستويفسكى لا يتضح جوهره الداخلى فى الحالات النفسية العادية، بل وهو فى قمة معاناته، وفى وقت الاهتزازات الروحية المعذبة»، و«دستويفسكى، المحلل النفسى، يستند فى تحليله لنفسية أبطاله إلى معيار الشعبية، فنجده يقارن بين أفكار ومعاناة أبطاله الرئيسيين، وبين الوعى الأخلاقى للجماهير الذى يقيس به صحة أو خطأ تصرفات الأبطال».
وهو ما دفع المترجم السورى فؤاد أيوب إلى التأكيد، فى مقدمته للترجمة العربية لرواية «الجريمة والعقاب»، أن دستويفسكى، «هذا الذى لا يعادل موهبته الفنية قوة، إلا موهبة شكسبير وحده، على حد تعبير معاصره الروسى مكسيم جوركى»، يشكل بحد ذاته عالمًا شاسع الأرجاء، عميق الأغوار، متكامل العناصر، تضطرم وتتصارع فيه الأفكار والعواطف المتضاربة، أفكار أصبحت أقوى من البشر، بل ليس البشر أنفسهم إلا تجسيد لها، وعواطف امتزج فيها الحب بالحقد، والكبرياء بالتواضع، والثورة بالاستسلام، والرحمة بالقسوة، والإيمان بالإلحاد، حتى ضاعت الحدود ما بينها فتداخلت وانصهرت».
طفولة مخنوقة وحياة تحاصرها الديون
ولد فيودور ميخائيلوفتش دستويفسكى فى منزل العائلة قرب مستشفى «ماريانسكى للفقراء»، والذى كان يعتبر حيّا فقيرًا يقع على أطراف موسكو، وكان هو الابن الثانى لأبويه، مع سبعة إخوة آخرين.
خلال لعبه بالحديقة الواقعة ما بين المنزل والمستشفى، كان فيودور يشاهد ويستمع إلى هؤلاء المرضى الفقراء، المتصلين دائمًا بالألم والموت، وكان يحب، متجاوزًا فى ذلك أوامر أبيه، أن يتعرف إلى هؤلاء المرضى، وأن يبادلهم الحديث من خلال الحاجز الحديدى الذى كان يفصل بين المنزل والمستشفى، فقد كانت هذه الإنسانية المعذبة القبيحة لا تنفره، بل تثير فى قلبه حنانًا وفضولًا وتجتذبه إليها.
فى مقدمته للترجمة العربية لرواية «الجريمة والعقاب» يقول المترجم السورى فؤاد أيوب: «كان دستويفسكى يسعى إلى صحبة هؤلاء المقهورين الخجولين، اليائسين، المرفوضين من قبل عالم لا يعرف عنه هو شيئًا، رغمًا عن فارق السن والوضع الاجتماعى، وكان الأب، إذا فاجأ ولده فى صلته مع هؤلاء المساكين، يوبخه بشدة، بل يعاقبه بقسوة أحيانًا»، مضيفًا: «هذه الطفولة المخنوقة لا يتحدث دستويفسكى عنها مطلقًا، بيد أننا نستطيع أن نلمس مشاعره الحقيقية من خلال أحاسيس أبطاله الصغار فى غالبية رواياته».
توفيت والدته بالسل وهو فى السادسة عشرة من عمره، وأرسله والده برفقة أخيه ميشيل للدراسة فى معهد «نيكولايف للهندسة العسكرية» فى مدينة سان بطرسبرج، حيث تم رفض أخيه لأسباب صحية، وانتقل للدراسة فى مدينة رفال فى إستونيا.. كره فيودور الأكاديمية، بسبب عدم اهتمامه بالعلوم والرياضيات والهندسة العسكرية، وتفضيله الرسم والهندسة المعمارية، حتى إنه كتب عن تلك الفترة بقوله: «لقد أرسلونى مع أخى البالغ السادسة عشرة، إلى سان بطرسبرج، إلى مدرسة المهندسين، وبذلك أفسدوا مستقبلنا، تلك كانت خطيئة بالنسبة لى»، وبعد ذلك كتب مخاطبًا أخاه ميشيل فى إحدى رسائله: «إن الحياة مثيرة للاشمئزاز هنا». بعد وفاة والده أكمل فيودور دراسته وتخرج فى الأكاديمية كمهندس عسكرى، مما سمح له بالذهاب والعيش بعيدًا عن الأكاديمية، حيث بدأ فى ترجمة رواية «أوجينى جرانديه» لبلزاك، فى محاولة يائسة لتحسين أوضاعه المالية، حيث كتب لشقيقه: «ترجمت أوجينى جرانديه لبلزاك، يا لها من رائعة! إن ترجمتى مدهشة، وأقل ما يدفعونه لى ثمنًا لها هو ٣٥٠ روبلًا ورقيًا. إن بى رغبة لاهبة فى بيعها، لكن المليونير المقبل الذى هو أنا لا يملك مالًا من أجل نسخها، ولا وقتًا أيضًا.. بحق ملائكة السماء، أرسل لى ٣٥٠ روبلًا أجرة النسخ»، وبعدها بستة أشهر كتب له مرة أخرى: «أكفلنى أنت.. ولدى أمل، فأنا أنهى رواية فى حجم أوجينى جرانديه، إنها رواية نسيج وحدها، وأنا حاليًا أنسخها، ولا ريب أنى سأحصل على جواب بشأنها. سوف أعطيها إلى «حوليات الوطن».. إننى راضٍ عن عملى، وسأتناول عنه حوالى ٤٠٠ روبل. هذه كل آمالى». تلك كانت هى «المساكين»، روايته الأولى التى أنهاها فى مايو ١٨٤٥، بيد أنه كان يتطلع إلى هذه الصفحات فى شىء من الخشية، لا يريد أن يسأل القدر، لأنه يخاف الحكم الذى قد يصدره، وأخيرًا يقرأ المخطوطة لصديقه وشريكه فى الغرفة، الكاتب ديمترى جريجوروفيتش، فيرتمى هذا بين ذراعيه باكيًا، ويختطف المخطوطة منه؛ ليحملها إلى الشاعر نيكولاى نيكراسوف، مدير تحرير مجلة إحدى المجلات الأدبية، ويقرآنها معًا الليل بطوله، يضحكان حينًا، ويبكيان أحيانًا، حتى إذا لم يعودا يستطيعان صبرًا ينطلقان إلى صاحبهما، حوالى الرابعة صباحًا، يوقظانه من نومه، يهنئانه ويقبلانه، لأن ذلك أهم من النوم.
ويحمل نيكراسوف المخطوطة إلى فيساريون بيلنسكى، الناقد الشهير، المرهوب الجانب من جميع الكتاب الروس، فهو البانى لأمجاد الكتاب، والهادم إياها بكلمة واحدة تصدر عنه، ولكن المفاجأة أن بيلنسكى يقبل أن يطلع على المخطوطة، على أن يأتيه كاتبها فى اليوم التالى، حتى إذا ذهب إليه دستويفسكى فى اليوم التالى ليقابله بوجه مشرق بالفرح، ويبادره قائلًا: «هل تدرك ماذا صنعت هنا؟».
ويلتهب بيلنسكى حماسة: «إنك لم تكتب مثل هذا المؤلف إلا لأنك بكل بساطة فنان عظيم الحساسية، ولكن هل قدرت كل سعة الحقيقة الرهيبة التى وصفتها لنا؟ يستحيل أن تكون فهمتها وأنت فى العشرين من عمرك.. إن الحقيقة تكشف لك، وتعلن بوصفك فنانًا، أنت تلقيتها هبة، فاعرف كيف تقدر هذه الهبة.. ابق أمينًا لها، وسوف تصير كاتبًا عظيمًا».
الأب الشرعى لفن الرواية الحديث
كان الروائى التشيكى ميلان كونديرا من أشد الكتاب والمنظرين لفن الرواية عداءً لدستويفسكى، حتى إن السيناريست محمد حلمى هلال كتب فى مقال نشره قبل سنوات بجريدة «أخبار الأدب» إن كونديرا لم يكن يطيقه، وكان يتهم أفكاره بتغليب المشاعر على العقل، وبأنها أحد العوامل التى أسهمت فى وقوع الغزو السوفيتى لبلاده عام ١٩٦٨، فى أعقاب «ربيع براج»، وكتب كونديرا يقول: «لا يمكن أن يعيش الإنسان بلا مشاعر، لكن فى اللحظة التى تتحول فيها تلك المشاعر إلى قيم ومعايير للحقيقة، وتبريرات للسلوك المنحرف، فإنها تصبح مخيفة.. وعندما تحل المشاعر محل التفكير العقلانى، فإنها تصبح أساسًا للتعصب وغياب الفهم.. إن ما أزعجنى فى أمر ذلك الكاتب المثير للحيرة فيودور دستويفسكى، هو أجواء رواياته التى يتحول فيها كل شىء إلى مشاعر، ثم لا تلبث تلك المشاعر أن ترتفع إلى مستوى القيم والحقائق».
ويذهب هلال إلى أنه ربما كانت دوافع كونديرا سياسية، تخص التدخل السوفيتى فى حكم بلاده، لكن ماذا عن دوافع الروائى الروسى الأمريكى فلاديمير نابوكوف، وهو الذى وصف دستويفسكى بأنه «كاتب يتمرغ فى وحل مغامرات مأساوية تحط من الكرامة الإنسانية»، فقال تعليقًا على رواية «الإنسان الصرصار»، وهى رواية قصيرة من جزأين، تمت ترجمتها إلى العربية بعنوان «رسائل من أعماق الأرض»، ومرة أخرى بعنوان «رسائل من العالم السفلى»: «إن هدف الكاتب من هذه الرواية، هو إظهار أن كل إنسان هو مجرد زبالة، ولن يصبح فى أى وقت إنسانًا إن لم يقتنع أنه بالفعل زبالة، ففى هذه الرواية يأخذ دستويفسكى بطله إلى أدنى درجات الانحطاط والحقارة، فقط لكى يقوده بعد ذلك إلى الإيمان والخلاص من وجهة نظر مسيحية بحتة»، ويضيف نابوكوف: «ليس هناك ثمّة حرج فى هذا، ولكن من الصعب بالنسبة للقارئ الذى لا يشارك دستويفسكى قناعاته المسيحية أن يرى الأمر بهذه الطريقة»، على أن الطريف فى الأمر أن معاصر دستويفسكى، الأديب الروسى إيفان تورجنيف ذهب فى اتجاه مغاير تمامًا لما ذهب إليه نابوكوف، عندما وصف دستويفسكى بأنه أكثر المسيحيين الذين قابلهم فى حياته ميلًا للشر.
على الجانب الآخر، تقول الدكتورة مكارم الغمرى، أستاذة الأدب الروسى والمقارن، فى كتابها «الرواية الروسية فى القرن التاسع عشر»، إن دستويفسكى الذى برز فى الساحة الأدبية فى أربعينيات القرن الماضى، «اتسم إنتاجه الروائى منذ أول رواية له، وهى «المساكين»، بالمنهج الفنى الجديد، فنجده يبتعد عن الخط الهجائى المميز لرواية معلمه «جوجول»، الذى كان يجذب اهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشية بأنماطها المتعددة، فاتجه دستويفسكى إلى البحث العميق فى نفس أبطاله، إذ يعطى الكاتب من خلالها صورة للواقع وللحياة الجارية». مضيفة «دستويفسكى أحد أئمة الرواية الروسية الكلاسيكية، ويشغل إنتاجه الروائى مكانة مهمة وخاصة، لا فى تاريخ الرواية الروسية فقط، بل وفى الرواية العالمية أيضًا».. «حملت رواياته بصمة الواقع المعاصر، فهى تصور الكثير من أحداثه الجارية، ومشاكله الملحة كالجريمة، والركض وراء المال، ووقوع الإنسان ضحية الإغراءات والأفكار الشريرة، والانفصام بين الشخصية والمجتمع، وبين الطبقات الحاكمة والشعب، وتفكك وسقوط الركائز العائلية التقليدية وأزمة الحياة الاجتماعية المعاصرة، ومشكلة وجود الإنسان بها».
وعن تفرده فى وصف حياة فقراء المدينة، باعتباره من أكثر الموضوعات المحببة عنده، تقول الدكتورة مكارم الغمرى: «ودستويفسكى فى تصويره لحياة الفقراء، لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية التى تعكس الفقر، والتناقضات الاجتماعية التى تحكم وجود الفقراء، قدر اهتمامه بتصوير العالم الروحى والأخلاقى لهؤلاء الفقراء، والذى يبرز فى ارتباط وثيق بوجودهم المادى، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز فى روايات دستويفسكى من خلال المشكلة الأخلاقية والنفسية»، «والعالم الداخلى لفقراء دستويفسكى هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية، ورغم ما يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعى مريض، فهو مع ذلك عالم الخير، والمشاعر الطاهرة، ومبادئ الإنسانية، والأخوة والضمير الحى، والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح»، ولهذا نراه «يرفض فى رواياته ويهاجم الشر الاجتماعى، ويرسم لوحة مريعة للتناقضات بين الأغنياء والفقراء، ويحدق فى ألم وتعاطف فى مصير الإنسان البسيط المضطهد، والذى كان يؤمن به إيمانًا كبيرًا».