إسماعيل.. ذنب توفيق الحكيم الذى لا يغتفر
أن تولد فى بيت شخص بقيمة وقامة واحد من أهم عقول مصر المفكرة على مدى تاريخها اسمه توفيق الحكيم.. فتلك من المفترض أن تكون منحة إلهية لا تقدر بثمن.
أن تكون ابن توفيق الحكيم، فالمنطق يقول إن هذا الأمر يفتح لك أبوابًا كثيرة عصية على الفتح على أقرانك.. خاصة لو كانت لتلك الأبواب علاقة بالفن لأنه بالتأكيد سيكون أبوك فى ظهرك وسيدفعك بما يملك من ثقل مادى وثقافى لتصنع تجربتك الفنية على مهل.
لكن منذ متى والمنطق يحكم الأشياء فى هذا العالم؟
تخيل أن هناك مشروعًا موسيقيًا ولد فى نهاية الستينيات لشاب متمرد أراد أن يخلق حالة موسيقية جديدة تعبر عن جيله وتشرح تمرده. هذا الشاب الحالم اسمه إسماعيل توفيق الحكيم.. لكن مشروعه وئد للأسف الشديد من نفس الناحية التى يفترض أن يأتى منها الدعم.. الأب نفسه
فى نهاية سنة ٦٧ الكبيسة التى خيمت على الوطن بنكسة غير مسبوقة أضاعت سيناء وأضاعت معها أحلامًا عريضة لشعب حالم.. بدأت تنشر إعلانات على استحياء لسهرات رأس السنة كالعادة فى الجرائد والمجلات.. من ضمن تلك الإعلانات كان هناك إعلان صغير يدعو الناس لقضاء الليلة الموعودة بفندق فلسطين الشهير بالإسكندرية مع وعد بعشاء فاخر على أنغام فرقة جديدة تحمل اسمًا أجنبيًا «black coats» بلاك كوتس.. وكانت أسعار الدخول للفرد ٥٠٠ قرش خالصة الضريبة.. مع وعد بمفاجآت سارة وهدايا ولعب مقدمة من أشهر محلات الأزياء.
بالتأكيد من ذهب فى تلك الليلة لم يكن يعرف أن صاحب هذه الفرقة الناضحة بالحس الغربى مؤسسها هو ابن رمز من رموز الشرق وأحد عمالقة الأدب والمسرح والفن العربى كله.. فى ظاهرة غريبة ستزداد غرابة مع تطور الأحداث فى السنوات التالية.. الابن اسمه اسماعيل والأب هو توفيق الحكيم.. والعلاقة بينهما ليست على ما يرام.
إسماعيل بدأ موجة انتشرت أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وهى الفرق الغنائية الغربية والتى أفرزت أجيالًا جديدة بتذوق مختلف للموسيقى متمرد على جيل آبائه الذى تربى سمعيًا على صوت الست أم كلثوم وعندما جدد سمع عبدالحليم حافظ ونجاة وشادية.
وظهرت فرق أخرى كثيرة بعد أو بالتزامن مع فرقة إسماعيل الحكيم مثل فرقة «Les Petits Chats» التى ضمت شبابًا سوف يحملون مشاعل الموسيقى فى العقود التالية مثل عمر خيرت وهانى شنودة وعمر خورشيد وعزت أبوعوف الذى كان واحدًا من فرقة البلاك كوتس للحكيم لكنه انفصل عنها وأسهم فى تكوين فرقة Les Petits Chats ثم فرقته العائلية التى كانت مكونة منه وإخوته البنات ٤m.
وإذا نحينا القدر الذى فرض على إسماعيل موتًا فى سن العشرينيات بعد مأساة إدمان ثم مرض عضال أصاب كبده، وتساءلنا: لماذا نجح عمر خورشيد وهانى شنودة وعمر خيرت بينما حاصر إسماعيل الاكتئاب الذى قتله قبل أن يقتله المرض على الرغم من أن إسماعيل وباعتراف الحكيم نفسه بعد أن استرد وعيه بموهبة ابنه، حيث قال إن إسماعيل كان يفكر فى عمل فنى جاد كبير لا يدرى من سيكون جمهوره، هو أن يجمع بين «الأوركسترا السيمفونى» و«الموسيقى الحديثة» فى شبه «كونسيرتو للجاز»، وقد أعد العدة لإنجاز هذا المشروع الفنى الضخم وأراد أن يترك مصيفه فى الإسكندرية قبل نهايته ويعود إلى القاهرة للشروع فى العمل لولا أن تدخل من عطله عن العمل وأبقاه فى المصيف حتى مرض هناك مرضه الأخير.
الحقيقة التى أدركها الحكيم نفسه أنه السبب الرئيسى فيما حدث لابنه الموسيقى الواعد، لأنه ابتعد عنه وجافاه حتى اتسعت الهوة بين الأب وابنه وصارت المسافة بينهما كبيرة نظرًا لابتعاد الحكيم منذ البداية عنه واقتراب الابن بالتالى من أمه إلى درجة أنها حين بلغ الثالثة عشرة من عمره حاولت أن تنبه الحكيم أكثر من مرة إلى أن إسماعيل ملتصق بها جدًا، وهو الآن فى سن المراهقة وعلى أبواب مرحلة الشباب والمفروض أن يجد أباه أكثر مما يجد أمه، فكان الحكيم كما يقول «لا أعيرها اهتمامًا وأقول لها ابتعدى عنى أنا مش فاضى للكلام الفارغ ده».
الكاتب الصحفى إبراهيم عبدالعزيز رصد فى موضوعات صحفية كثيرة رسائل إنسانية للحكيم جمعها إبراهيم فى عدة كتب بعد ذلك، وفيها حكاية الكاتب الأعظم عن جنايته المبكرة فى حق ابنه وكيف أنه أدرك حاجته له بعد فوات الأوان.. وقد نشرت مجلة الإذاعة والتليفزيون حلقات فى عام ٨٧ حين كان يمر توفيق الحكيم بآخر سنوات عمره التى قضى أغلبها متنقلًا بين المستشفيات غارقًا لفترة طويلة فى غيبوبة متقطعة نرصد هنا الحلقة التى نشرت فى عدد ٢٥ يوليو ١٩٨٧ بعنوان «عندما بكى الحكيم» وبدأت بقصة على لسان الحكيم نفسه كما نقلها محرر المجلة حيث يقول: جلس معى يومًا السيد محمد حسنين هيكل وكان رئيسًا لتحرير الأهرام، والسيد جلال الدين الحمامصى وكان يومها فى الأهرام أيضًا.. وجاء ذكر ابنى إسماعيل».
وقال هيكل: هل تعرف أن ابنك إسماعيل يعزف فى الأندية الليلية؟
قلت لهيكل: هكذا يعيد التاريخ نفسه، كان أبى يريد منى أن أكون قاضيًا واخترت أنا طريق الفن، كذلك كنت أريد من ابنى إسماعيل أن يكون مهندسًا محترمًا، لكنه اختار طريق الفن على الرغم منى.
وسألنى هيكل: وهل رأيته وهو يعزف؟
قلت له: كيف أراه وأنا أنام فى الحادية عشرة مساء، بينما هو يبدأ العزف فى هذا الموعد ويظل يعزف إلى أن يقترب الصباح؟
وهنا اقترح علىّ «الحمامصى» أن أذهب ليلة لأشاهد ابنى وأكتب مقالًا عنه، وتحمس هيكل للفكرة وأخذ يزينها لى.
وأخيرًا قال لى: هل تعرف كم سأعطيك ثمنًا لهذا المقال؟.. سوف أدفع لك خمسة آلاف جنيه.
ولم أصدق لأن خمسة آلاف جنيه فى ذلك الوقت- ١٩٧٠- كانت مبلغًا كبيرًا جدًا، فقلت له: معقول أن تدفع خمسة آلاف جنيه فى مقال؟ قال لى: أنا راجل تاجر وعارف كم يستحق هذا المقال، ولم أستطع أن أقاوم الإغراء.. ماذا أقول فى هذا المقال وماذا أفعل وكيف أذهب إلى أندية ليلية؟ وسهّل هيكل المسألة فقال لى: لن تذهب وحدك سوف يذهب معك الفنان صلاح طاهر والدكتور يوسف إدريس.
وبالفعل ذهب الحكيم وجلس يشاهد ابنه إسماعيل يعزف فى مارس ١٩٧٠ فى حدائق الميريلاند بمصر الجديدة، وظل إسماعيل ممتنًا لتلك اللحظة وحكى عنها قبل وفاته قائلًا «بعد أن جاء والدى وجلس رآنى أعزف، وكنت خلال العزف أراقبه وأتأمله كانت الدموع تطفر من عينيه».
الحقيقة أن الأمر كان جديدًا على إسماعيل الذى لم يرَ حتى تلك اللحظة، أى دعم من والده سواء كان ماديًا أو معنويًا، حيث ترك الحكيم الأب ابنه يمارس تمرده على طوعه على حسابه الخاص حيث يكمل الحكيم اجترار حكايته الحزينة مع ابنه وخذلانه له وكأنه يقسو على نفسه بتذكيرها تفاصيل الخذلان لعله يتطهر منه فيقول:
«أذكر على سبيل المثال أنه كان بحاجة لمبلغ ألف جنيه خلال ساعات قليلة لشراء آلة جديدة يريد أن يستخدمها طوال الموسم فى أحد الأماكن السياحية، فذهب لأمه يطلب منها المبلغ قبل أن يغلق المحل أبوابه بساعات قليلة، ولم يكن هذا المبلغ فى حوزة أمة التى حاولت الحصول عليه لكنها فشلت، وكتما الأمر لم يخبرانى به كان إسماعيل حزينًا للغاية وكذلك أمه، وقرر هو أن يعتذر عن عدم العزف طوال الموسم وذهب لينام بعد هذا القرار، كذلك ذهبت أمه حزينة إلى فراشها فأصيبت بشلل أقعدها عن الحركة وظلت هكذا حتى مات، وعندما أخبرونى بهذه القصة كان الوقت قد مر والفرصة قد ذهبت، فعاتبت إسماعيل وقلت له: إنه لو سألنى رأيى لكنت قد أفدته، وسألته: لماذا لم يطلب من صاحب المكان السياحى أن يعطيه هذا المبلغ ثم يخصمه من أجره أو يأخذ الآله من المحل ويدفع له بعد أن يقبض أجره خاصة أن صاحب هذا المحل كان يدين له بكل ما حققه من مكسب ونجاح، المهم عاتبته بعد فوات الأوان».
وقصة أخرى أذكرها وهى أن إسماعيل مر بقصة حب عنيفة وحين صارح أمه بما يكن لفتاته من حب وعن رغبته فى الزواج منها، فوافقت بشرط أن يعيش فى الحجرة المجاورة لها ووافق لأنه هو أيضًا لم يقو على البعد عنها، وفعلًا تزوج من فتاته وعاش فى المنزل، لكن أسرة الفتاة كانت تعمل بالتجارة ولا تقدر مهنة الفنان هذه ولا تعرف القيمة الفنية للموسيقى فى حياتنا، لذلك ظلت تقنع الفتاة بأن تتخلى عن هذا الزواج حتى بعد أن تزوجت، وبالفعل نجحت فى ذلك وانفصل الزوجان، وكانت هذه ضربة قوية له لحبه الشديد لها، وتزوج بأخرى بعدما ظلت معه حتى مات.
الغريب هنا فى حكاية الحكيم خاصة فيما يخص تلك الآلة الجديدة التى كان يريد إسماعيل شراءها أن الحكيم عندما عرف ولامه أنه لم يخبره لم يطرح حلًا أن يمنحه ثمنها «الألف جنيه» لكن حله الذى كان يريد أن يشير عليه به أن يتحدث مع صاحب المكان السياحى الذى يعزف فيه مع فرقته الموسيقية أن يمنحه المبلغ ثم يخصمه بالتقسيط من أجره.
بالتأكيد لم يكن إسماعيل الحكيم الشاب المتمرد الذى يريد أن يطرح لونه الموسيقى الجديد المختلف عن الشائع سعيدًا بموقف الأب المفكر الكبير منه.. والأمر كان أكثر من فكرة الماديات التى كان الحكيم شحيحًا فيها للغاية.. لكن الشح العاطفى الذى قاسى منه الابن إسماعيل كان أشد وطأة خاصة فى مرحلة التكوين الفنى الأولى التى يجرب فيها مواهبه ويبدأ فيها مشروعه الموسيقى الذى كان باعتراف الحكيم نفسه قابلًا للتطور والبناء عليه.
لكن يبدو أن كل الرياح لم تأت بما تشتهيه سفن إسماعيل الحكيم صاحب فرقة «بلاك كوتس» وواجه الشاب الحالم تغير نوعية الجمهور الذى كان يريده، حيث طغت طبيعة جمهور شارع الهرم بما يحمله من روح السبعينيات الغارقة فى الانفتاح على كل شىء بما فيه الفن الردىء، وهو ما أصاب إسماعيل بالإحباط ويحكى الحكيم نفسه عن تلك الفترة البغيضة فى حياة ولده بالنص: «كان إسماعيل يخرج مدينًا للمحل الذى يعمل فيه، كان يسدد حساب موائد احتلها من يزعمون أنهم معارف وأصدقاء، ولم أعرف له عدوًا ولم أسمع منه كلمة سوء حتى فيمن أساء إليه، ولم يكن راضيًا عن نفسه ولا عن عمله، وأشد ما كان يؤلمه أن يرى نوعية الجماهير التى كانت تسمع موسيقاه، قد تغيرت وأن جماهير شارع الهرم وملاهيه قد طغت على كل شىء فى كل مكان، فترك فرقته تعمل بدونه وتأخذ هى الأجر وتترك له القليل الذى تسمح به، ولا يسمح هو لنفسه أن يعزف لجمهور لا يهتم بالموسيقى بقدر ما يهمه السهر والهزر».
يحكى الحكيم موقفًا فى غاية الصعوبة والدلالة على شدة احتياج إسماعيل لأبيه، فعندما مرض إسماعيل وتدهورت حالته مع رفضه المستمر رؤية الأطباء، رضخ أخيرًا وسافر للعلاج وعندما عاد أخذه الحكيم فى حضنه ووجده بعد ذلك يقول بفرحة لكل من يلتقى به «أبويا حضنّى.. أبويا حضنّى» وأحس الحكيم حينها أنه لم يعرف أبدًا حنانه، ولعله أدرك حينها شدة الجرم الذى ارتكبه فى حق ابنه الموهوب وراح يقترب منه ويشبعه بعد ما اكتشف أن عقله يحوى الكثير من المعرفة والخبرة والتجربة.
حاول الحكيم أن يستدرك تقصيره فى حق موهبة ابنه التى أضاعها بإهماله بأن حاول دفعه وهو على سرير المرض أن يؤلف كتابًا عن موسيقى الجاز التى عشقها وبرع فيها.. وتحت إلحاح الأب شرع فعلًا إسماعيل فى تأليف هذا الكتاب، لكنه بعد صفحات قليلة ألقى ما كتب ولم يكمل.. ولعله شعر بدنو الأجل فما حاجته إذن لتأليف كتاب وهو يرى الموت يدق على بابه بإلحاح.
ويقول الحكيم عن ذلك «كنت ألاحظ خلال مناقشاته شعوره بالله الذى لا يمكن تجسيده بكلمات، كان يحدثنى عنه كأنه نور يخترق كيانه، وكنا أحيانًا نسمع صيحة فى أعماق الليل تنادى: الله من حجرته المغلقة، ومع ذلك كان كثير الصمت ويخيل إلينا أحيانًا أنه يعيش بعيدًا عنا فى عالم مجهول مكشوف له وحده».
وبالفعل ذهب إسماعيل الحكيم سنة ١٩٧٨ وانتهى معه مشروعه الموسيقى الحالم الذى ربما لو كان امتلك العمر والدعم من الوالد لكان فى مكانة تكافئ أسماء كبيرة فى عالم الموسيقى بدأت معه واستمرت فى تطوير مشروعاتها الفنية عبر العقود التالية حتى صارت قممًا مثل عمر خيرت وهانى شنودة.
وبقى توفيق الحكيم يفترسه الندم فيما بقى من سنوات عمره وهو يتذكر مواقفه مع ابنه إسماعيل فيقول فى إحدى رسائله «إننى كلما خلوت إلى نفسى أتأمل صورتك فى حجرتى ولا أستطيع البكاء، اغفر لى يا إسماعيل، أن شهر وفاتك- أكتوبر- كلما اقترب تزداد همومى ويزداد شعورى بالأسى والحزن يعتصرنى، وكلما جاء يوم ذكراك تفيض الدموع ولكنها تتجمد قبل نزولها وأذهل عن نفسى والدنيا وما فيها حتى يجىء يوم ميلادك ٢٤ مارس، وأكون سعيدًا حينما يتذكره إخوتك، كان بودى أن أحتفل بهذا اليوم معك ولكنك ذهبت ولم يبقَ منك إلا صورتك وأوراقك أعيد قراءتها لأعيش معك أفكارك.. وأنظر إلى صورتك وأناجى ربى وأتحدث إليه، رب لمَ تجعلنى أشهد رحيل الابن والأم، ربما بقائى فى هذه الدنيا كل هذا العمر بعد ما فقدت أحبابى، أعلن أن لك حكمة لم أكن أدركها حتى بينتها لى، لقد جعلتنى أعيش كل هذا العمر من أجل ابنتى زينب، فمن لها بعد رحيل أمها وأخيها وزوجها، اللهم رضيت بحكمتك وسجدت لقدرتك».