عارفات وقديسات.. كيف يسكن الله قلوب الجميع؟
- يقصدها النساء فى موسم الربيع وتحديدًا الراغبات منهن فى الحمل أو إنجاب الذكور
- زوار فاطمة بنت برى من النساء فقط وهن فقط المسموح لهن بإشعال المصابيح
- تعود قصة دميانة مؤسسة الرهبنة للقبطيات الأرثوذكس وصاحبة الدير الأشهر فى بلقاس بمحافظة الدقهلية إلى عصور المسيحية الأولى
- حين علم والدها بأمر اعتناقها المسيحية انقض عليها وجذبها من شعرها وهمّ ليضربها بالسيف
- تقدم التنّين من القديسة وفتح فاه وابتلعها وكانت يدا القديسة مرفوعتين بعلامة الصليب فانشق جوفه وخرجت منه
تتشابه المقامات وتتباين الحكايات أو كما يقول الصوفية لكل مقام بدء ونهاية، وبينهما أحوال متفاوتة.. للوهلة الأولى قد يبدو لك أنه ما من ثمة فروقات جلية بينهن جميعها مجرد ضريح تلفه سجائد وحرير أخضر على صومعته وخلفه ترقد صاحبة الكرامات ويقف أمامه ذو الحاجات.. مهلًا الحال ليست كما تظن، فهنا تبدأ الراوية.
وتروى بحار الحب الإلهى عن إشراقات روحية للعارفات والقديسات هى أقرب للناى حين يداعب قلوب العاشقين وللأساطير من فرط ما نسج حولهن من كرامات لا تعد ولا تحصى. لكن أينما اخترت أن تولى وجهك، شطر الأساطير أم صوت الناى ثمة حقيقة واحدة مؤكدة وهى أنهن رغم قلتهن حاضرات فى الذاكرة الجمعية كشاهد على لحظات إنسانية تتلاشى فيها الفروقات الدينية حيث لا فرق بين مسلم أو مسيحى فالجميع يذهبون للحاجة نفسها.. أو بعبارة أدق «الكل قاصد وجه كريم».
إذ تعد المقامات رغم ارتباطها بالمتصور الإسلامى الصوفى برهانًا على حجم التماهى وحوارًا تلقائيًا بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، فهى تضرب بجذورها فى أعماق التقاليد المسيحية القديمة على نحو مماثل لنظيرتها الإسلامية على مستوى الرمز وهالة التقديس، التى جعلت أضرحتهن مزارًا لذوى الحاجات وكرنفالًا لممارسة الطقوس الدينية من تبرُّك واستشفاع بالأضرحة لتشكل الجليللات بحكاياتهن على غرابتها وعلى امتداد رقع تواجدهن فنًا من فنون السباحة فى أعماق العشق الإلهى.
«مريم» حارسة السواقى.. الشيخة والقديسة
«كل مريد يرى ما يريده» هذا ما ينطبق على ضريح الشيخة مريم وإن شئت لتقل القديسة مريم فالروايات المتعددة حول مقامها لا تجزم بحقيقة ديانتها وهل كانت مسيحية أم مسلمة. لكن ما يتفق عليه جميع الرواة أنها رمز للنماء عند أهل محافظة الفيوم، حيث يقع الضريح فى منطقة السواقى بجوار بحر يوسف.
وبينما يرى المتصوفة أنها إحدى العارفات بالله اتصفت بالجمال الشديد وارتبطت فى أذهان العامة بالخصوبة والنماء، حيث يقصدها العديد من المريدين فى موسم الربيع، وأغلبهم من النساء وتحديدًا الراغبات منهن فى الحمل أو إنجاب الذكور، تدرجت بالمسار العرفانى حتى أخذت العهد وأصبحت قطبًا وخليفة وقد أطلقوا عليها «حارسة السواقى»، ولهذا السبب شُيد ضريحها بين بحر يوسف والسواقى. يذهب المسيحيون إلى أنها قديسة، ولها بركات ومعجزات على شفاء النساء من العقم، وفك الكرب، كما يشاع أن من يحلمن بها تساعدهن على الشفاء من المرض.
حالة الاحتفاء الشعبى بـ«البنت المدللة» كما يسميها جموع المسلمين والأقباط بلغت ذروتها بـ«خبز مريم»، إذ يحرص المسلمون فى أعياد شم النسيم والذى يوافق يوم مولدها، على توزيع الخبز فى محيط الكنائس بالفيوم تحسبًا لاحتمالية أن تكون الشيخة ذات خلفية مسيحية وفى الوقت ذاته يقوم الأقباط بزيارة الضريح والدوران حول المقام وتوزيع الخبز المصنوع من الدقيق والماء مضافة إليها كمية كبيرة من الخميرة وقليل من الملح، ويعتقد أن هذه الخميرة تحمى من صنع وأعد هذا الخبز من أى أرواح شريرة، وهو الخبز الذى كانت تفضله الشيخة مريم، ويحمل النساء خبز مريم فى سلال، وعند قيامهن بتقديمه يرددن أغنيات يصفن فيها الشيخة مريم بأنها الجميلة البيضاء ذات الأصل الطيب والطاهرة التى كانت ترتدى الشملة الحرير الخضراء.
ومع أن المصادر التاريخية وفق دراسة الدكتور وليد عبدالسميع، المدرس المساعد بكلية الآثار بجامعة الفيوم ترجح كون ضريح «مريم» تم تشييده عام ١٨٨٩ ميلاديًا على يدى مدير شئون الفيوم حينذاك، محمود بك صبرى، الذى ينتهى نسبه إلى الإمام على بن أبى طالب، إضافة إلى أن الوقف وإدارته كان تحت يد مسلمين، كما أن التصميم المعمارى للقبة، وتتويجها بالهلال يؤكد أن صاحبة المقام مسلمة الديانة.
بيد أن التناغم الروحى والاجتماعى حول صاحبة المقام، سواء كانت شيخة أم قديسة، لا يعد مثالًا حيًا على مكانتها بالغة العمق فى قلوب المريدين من الجانبين بل مرآة أيضًا للحوار اليومى المُعاش وصورة للتبادلات الدينية الشعبية بعيدًا عن التأويل الفقهى.
مَنْ اقترب احترق.. «فاطمة بنت برى» مقام يخشاه الرجال
تبدو فاطمة بنت برى فى طابعها الأسطورى الأكثر إثارة للدهشة بين العارفات، إذ لا يجرؤ رجل على الاقتراب من الضريح الكائن فى قرية زكريا فى العراق أو ملامسة أغضان الشجيرات التى تنمو حوله، وإذا حدث وحاول أحدهم تخطى حدود المسموح ودخل كهف المقام ولم تسعفه تحذيرات الفلاحين قبل الاقتراب فإنه سيصاب بالحمى ويفقد عقله.
قارعة الطريق المؤدى إلى مقام بنت برى حبلى بحكايات الفلاحين عن وجود مجموعة من رجال الفرس داخل رجم من الأحجار الملاصقة لإحدى الأشجار بالقرب من المقام، وقد حدث ومر مجموعة من الدراويش بطبولهم وراياتهم من المكان، ولكن بمجرد اقترابهم من كهف الضريح تعرضوا لحادث نتج عنه تحطيم جميع آلاتهم، وهو ما يرجعه أهل القرية إلى رجال الفرس القاطنين بالأحجار.
ومع أن زوار فاطمة بنت برى من النساء فقط، وهن فقط المسموح لهن بإشعال المصابيح، غير أن طقوس الزيارة بحد ذاتها مختلفة، فعندما تقوم امرأة بحلف يمين فى داخل المقام فإنها يجب أن تغادر المكان بوجهها رجوعًا إلى الوراء تقديرًا للشيخة الفارسية الجليلة.
ربما ترتبط حالة العداء الغيبى وحماة الشيخة المكلفين بإيذاء من يتقرب من جنس الرجال فى المتخيل الشعبى بقصة فاطمة بنت برى والسيد أحمد البدوى، إذ يروى فى الأثر أنها كانت بادئ الأمر صاحبة ولاية كبيرة وقد أعطاها الله عزَّ وجل سرًا عظيمًا حتى أصبحت صاحبة تصريف فأعجبت بنفسها ودخل عليها الغرور ففتنت الناس بجمالها، إذ كانت ذات قدرة على استمالة الرجال حتى الأولياء والمتصوفة.
وذهب الرفاعى ولكنه كان خائفًا من النظر إليها حتى لا تصيبه الفتنة، وكذلك ذهب الدسوقى من بعده ولكنه لم يفلح فى إقناعها.. وهكذا لم يبق إلا الشيخ البدوى الذى لبس أسمالًا بالية ملأى بالقمل وجاء إلى قصرها ببغداد، وطبعًا لأنها درويشة فقد عرفته على الفور وطلب منها أن تعطيه ماء الحياة فرفضت ورفعت برقعها، ولكن الشيخ البدوى لم يتأثر بجمالها وصرخ قائلًا «يا أرض إبلعيها» فبلعتها الأرض إلى ركبتيها وعندها سألها عن الماء ولكن دون فائدة وعندها أمر الأرض أن تبتلعها فابتلعتها إلى وسطها وفى المرة الثالثة إلى صدرها وثدييها وعندها قالت له: هل تتزوجنى؟ فطلب منها أن تمد يدها فمدتها إليه فبصق فيها فاخترقت البصقة يدها ووقعت على الأرض.
وعندها قال لها «إن يدك لم تستطع أن تتحمل بصاقى فكيف ستتحمليننى فى الزواج؟ ولكنها استمرت فى عنادها ورفضت إعطاءه الماء الذى طلب، ولكن عند المرة الرابعة وعندما وجدت أن الأرض ابتلعتها إلى عنقها أمرت الخادمة أن تأتيها بالجرة».
ولهذا يقال إن الشيخة فاطمة بنت برى على عداوة شديدة مع بعض الطرق الصوفية وتؤذى من يقترب منها من الدراويش أو الرجال بصفة عامة، ومع ذلك كان هذا اللقاء كان شهادة ميلاد السيد البدوى حيث تأكدت ولايته وصار قطب الأقطاب أعلى مراحل الصوفية.
الست سلمى دماء تتجدد على أستار الضريح والجبل
«اخلع نعليك فأنت فى حضرة ستنا سلمى».. بهذه الكلمات وما تحويه من عمق الدلالة تستقبل خادمة الضريح قاصديها ممن لا تخطئهم عين الناظر بمجرد أن تطأ قدماك قرية زاوية السلطان بمحافظة المنيا، حيث يقبع مقام الشيخة سلمى فى حضن الجبل الشرقى وتتصاعد أمنيات الزائرين وتتجسد العجائب، فتتلاشى الأمراض ويعم الشفاء بلمسة من مكحلتها ويزداد الأمل فى نسمات هواء الجبل المخضب بالدماء.
قصة السيدة التى تتعلق بها أحلام البسطاء وتلقى على عتبات الضريح، تعود إلى العصر الرومانى، حيث جاءت لقرية بنى محمد سلطان فى أيام الفتوحات الإسلامية مع أسرة سليمان وكانت ترعى قطيع أغنام فتحرش بها بعض الشباب الرومانى وحاولوا أن يغتصبوها وهى عذراء تقية فهرولت وأسرعت بالفرار إلى الجبل، وأثناء ذلك تضرعت إلى الله أن يسترها وينقذها، فاستجاب لها وانشقّ الجبل أمامها، وفُتحت فيه مغارة احتمت فيها ثم انغلق الجبل مرة أخرى، حتى ذهب الجنود، ومنذ ذلك الحين رفضت مغادرة المغارة حتى ماتت.
الروايات الشعبية حول كرامات الشيخة التى يعتقد أن ضريحها خالٍ من الجسد وأنها مدفونة أعلى الجبل، تزعم أن أعلى المغارة توجد آثار دماء هى على الأرجح دم حيضها، تتجدد كل شهر هجرى لمدة ٥ أيام كدليل على عذريتها، كما توجد بالضريح مكحلة صغيرة محفورة بباطن الجبل يتجدد الكحل بها تلقائيًا ومن يستخدم هذا الكحل أو يلمسه يُشفى من أى مرض.
ولا يخلو محيط الضريح أيضًا من شواهد على بركات صاحبته، حيث شجرة النبق والتى يأخذون أوراقها لغليها بالماء ثم شربها ثلاث مرات لتُنجب العاقر منهم. والطيور المهاجرة حول المنطقة التى تتدفق منها دماء الحيض، وهى نفس الطيور التى تحوم حول المدينة المنورة، على حد تصورهم، وأى شخص يقوم بضرب طير أو صيده يصاب بمكروه، وكل من تسول له نفسه بأن يعتدى على حرمة الضريح أو المنطقة الفضاء المجاورة له ينال نصيبه من العقاب.
ولاية الشيخة سلمى تأكدت عند مريديها قبل نحو ٦٠ عامًا حين تدفق سيل غزير من سفح الجبل واجتاح جميع الأحواش الملاصقة للضريح ودمرها تمامًا، فأخرج جثث الموتى من مقابرهم وطفت على الماء ولكن حفظ الله ضريحها من السيول وظل شامخًا شاهدًا على أمنيات أصحاب العلل الحالمين بالشفاء ورغبات الطامعين بالزواج أو الإنجاب.
عند ضريحها بمحافظة المنيا تتلاشى الأمراض ويعم الشفاء بلمسة من مكحلتها ويزداد الأمل فى نسمات هواء الجبل المخضب بالدماء
«دميانة» والـ40 عذراء.. ذبيحة الحب الإلهى ميمونة تعرف الله
«إنى أعترف بالسيد المسيح وعلى اسمه أموت، وبه أحيا إلى الأبد» كانت الجملة هى آخر ما نطقت به القديسة دميانة قبل أن يهوى السيف على رقبتها وتلفظ أنفاسها الأخيرة، والتى تعد بحياتها وسيرتها وتاريخها تجسيدًا قبطيًا للعشق الإلهى، فقد استطاعت بقدرتها وتأثيرها أن تجذب العذارى الأربعين، ليشاركِنها العبادة والروحانية، وأن تقودهن بالنهاية إلى موضع الشهادة الكاملة.
ربما كان سر الفتاة الصغيرة وهبة سمائية قادتها إلى احتقار عبودية المادة وكل زخارف الحياة الفانية، لتتطلع إلى ما هو أفضل وأسمى وأبقى فى عالم الروح. ولعل هذا أيضًا ما مكنها حتى يومنا هذا من النفاذ بالوسائل الروحية المجردة من القاعدة إلى القمة، من الفقراء إلى الأغنياء ومن الجهلاء إلى المثقفين، ومن البسطاء إلى ذوى السلطة والنفوذ حتى صارت مقصدًا لكل الحيارى والمعذبين من المسلمين والأقباط على حد السواء.
وبين ترانيم وأجراس، وأسفار من الكتاب المقدس، ودخان بخور معتق بعبق التاريخ تجد مئات الزائرات، منهن محجبات ومنتقبات فى ساحة البرارى جئن للتبرك بالشفيعة، ويتداول زوار الدير- مسلمين وأقباطًا- قصة ظهور طيف القديسة دميانة خلال عيدها؛ ولعل من ضمن المؤرخين الأجانب الذين ذكروا هذا الظهور كان الرحالة الفرنسى «فانسليب»، حيث قام بزيارة الدير فى يوم ١٧ مايو ١٦٧٢م، وقال فى مذكراته: «ويعتقد المصريون مسلمين وأقباطًا أن القديسة دميانة صاحبة البيعة تظهر فى قبتها مدة ثلاثة أيام، وأن الخيالات التى تتحرك فى القبة هى حقيقية وليست انعكاسات ضوئية، لأن الشبابيك التى يمكن أن تدخل منها هذه الأضواء هى قائمة فى الجهة البحرية للكنيسة ولا يدخل منها ضوء الشمس بالمرة». ثم يضيف فى فقرة لاحقة: «ولقد زرت هذا المكان المقدس، وفى ليلة العيد المذكورة ظهرت هذه العذراء على شكل طائر ضخم الجسم كبير الأجنحة يلف حول أرض المولد كثيرًا حتى رآه الكبير والصغير».
وتعود قصة دميانة مؤسسة الرهبنة للقبطيات الأرثوذكس وصاحبة الدير الأشهر فى بلقاس بمحافظة الدقهلية إلى عصور المسيحية الأولى، فقد ولدت الشهيدة دميانة فى أواخر القرن الثالث وكان أبوها مرقس واليًا على البرلس والزعفران، وذات ليلة طلب أحد الأمراء خطبتها فرفضت وقالت له: لما تريد زواجى وأنا أريد العيش معك، هل تود منى أن أتركك؟!
عشق دميانة بالحياة الروحية كشفت عنها فى سن الثامنة عشرة حين أخبرت والدها برغبتها فى التفرغ لـ«البتولية» ورحب والدها بهذا الاتجاه، وبنى لها قصرًا فى منطقة الزعفران لتنفرد به هى والأربعون عذراء اللواتى نذرن نفسهن للبتولية.
خلال هذه الفترة اضطهد الإمبراطور دقلديانوس المسيحيين وأجبر الوالى مرقس على عبادة الأوثان وعندما علمت ابنته دميانة بما فعله والدها خرجت من قصرها واعتزالها وقابلت والدها وقالت له فى شجاعة كبيرة: كنت أود أن أسمع خبر موتك عن أن تترك الإله الحقيقى، وحذرته إذا استمر فى هذا الطغيان ستكون بريئة منه ولن تعرفه فى الأرض وأمام الديان العادل حيث لا يكون له ميراث أبدى الذى يجهزه الله لحافظى عهده.
عندما سمع الوالى مرقس كلام ابنته ندم وبكى وتاب توبة صادقة وقال لابنته: «مباركة هى الساعة التى رأيتك فيها يا ابنتى» وجهر فى وجه دقلديانوس بالإيمان المسيحى، فأمر بقطع رأسه وكان ذلك الأمر فى عيد الرسل. وانتشر خبر استشهاد الوالى مرقس فى كل أنحاء البلاد وعندما سمعت الأميرة دميانة بهذا الخبر تهلل قلبها بعدم هلاك والدها.
وبعد أيام قليلة علم الإمبراطور دقلديانوس أن دميانة ابنة الوالى مرقس هى السبب فى عودته للمسيحية واستشاط غضبًا، فأرسل بعض الجنود إليها ومعهم آلات التعذيب المختلفة، وعندما شاهدت دميانة الجنود وقد التفوا حول القصر، جمعت العذارى حولها، وقالت لهن «من تريد أن تثبت وتنال إكليل الشهادة فلتبقى، أما الخائفات منكن تستطيع أن تهرب من الباب الخلفى» فأعلنّ جميعهن عدم خوفهن وأنهن لن يهربن.
والتقى قائد الجنود بدميانة، وقال لها إن الإمبراطور يدعوها للسجود إلى الآلهة، وسوف يقيمها أميرة عظيمة، فأجابته: «أما تستحى أن تدعو الأصنام آلهة، فليس إله إلا الله خالق السماء والأرض، وأنا ومن معى من العذارى مستعدات أن نموت من أجله».
فاغتاظ القائد من ردها وأخبر أربعة جنود ممن معه بوضعها داخل الهنبازين لكى تعصر وقاموا بوضعها فى السجن وهى أشبه بميتة، وفى منتصف الليل فى هذا اليوم حضر رئيس الملائكة ميخائيل وشفاها من كل جراحاتها. وعندما ذهب الجنود لإحضارها ولينقلوا خبر موتها للإمبراطور كانت دهشتهم أنه لم يكن بها أى جرح من الجروح التى كانت موجودة على جسدها.
ثار القائد واتهم دميانة بالسحر ولكن ما إن رأها الموجودون حتى صرخوا وقالوا: إننا نؤمن بإله دميانة، فأمر القائد بقتلهم. وأمر بتمشيط جسد دميانة بأمشاط حديدية، وبعد ذلك تدليك جسدها بالخل والجير. وألقوا بها فى السجن وذهب اليوم الثانى القائد بنفسه ظنًا بأنه سيلقاها جثة هامدة ولكنه دهش عندما رآها سليمة ولا يوجد بها خدش. واستمرت حلقات العذاب التى كانت تخرج منها معافاة دون جرح حتى أمر بقطع رأسها بالسيف هى ومن معها من العذارى لينالوا إكليل الشهادة.
ميمونة تعرف الى الله.. والله يعرف ميمونة
ربما لم تحظ عارفة بمثل ما حظيت به «لالة ميمونة» من أضرحة كثيرة مشهورة باسمها فى أنحاء مختلفة من المغرب، فلها ضريح بين مدينتى العريش والقنيطرة، وضريح بجبل ألنيف بمنطقة مصيص، وضريح بالدشيرة بمنطقة إنزكَان، وآخر بمنطقة أخندوق، وضريح بوسكور ببقوية.
ومع أن حكاية أو حكايات «لالة ميمونة» تروج فى كل ربوع المغرب وهى على تنوعاتها ذات أساسات متشابهة رغم الاختلافات، فبينما ترد فى بعضها على أنها أميرة من سلالة ملكية تذكر أخرى أنها كانت أمة فاتهمها ذات يوم بالتهاون والكسل، وعاقبها عقابًا شديدًا، حتى رأى سيدها منامًا أوحى الله إليه فيه ببراءتها، فأعتقها لذلك، وقضت بقية عمرها فى كهف على شاطئ المتوسط.
بيد أنه يمكن تلخيصها جميعًا فى امرأة تتعبد لله بقلبها «النية»، لأنها لم تستطع تعلم العبادات الإسلامية ورغم ذلك كانت ذات كرامات، وظل ردها على من أتعب نفسه فى تعليمها إقامة الصلاة دون جدوى متواترًا بألسن مختلفة، إذ كانت تكتفى فى صلاتها بالقول «ميمونة تعرف الله والله يعرف ميمونة». ترددها بلغتها الأصلية الأمازيغية: «مامونة تَسَّنْ ربى، ربى يَسَّنْ مامونة».
وينبض المغرب العربى بكرامات «لالة ميمونة» التى يعرفها القاصى والدانى هناك، منها قصة ركوب سجادتها والتحليق بها فوق الموج، ومفاجأة المركب الذى توقف فجأة عن الإبحار لتلتحق به، إلى جانب دخلها الحكيم فى القضية بين الأولياء الأكثر تقديسًا فى المغرب، وهما الشيخ «بوسلهام» والشيخ «عبدالجليل». حيث تباريا للحصول لتأكيد تفوقه وتفضيل الله له على منافسه.، فأدخل الشيخ الأول يده فى البحر، فخرجت مع كل شعرة من يده سمكة، بينما حاول الشيخ الآخر تحويل اتجاه البحر ليصبح باتجاه فاس، لتتسنى للنساء غسل ملابسهنَّ. لكن تدخلت «لالة ميمونة» وأوقفت البحر فى مكانه، مظهرة بذلك قوتها وتأثيرها الروحى العميق.
المخيلة الشعبية بالمغرب تروى حكاية أخرى عن لالة ميمونة، حين وصل إلى القرية رجل غريب، ولما علم الأهالى بوجوده فى ديارهم، استقبلوه بالترحاب. وعندما علمت «لالة ميمونة» بوجود الغريب، طلبت أن يُحسن استقباله وضيافته، وأن يكرمه ويزوده بكل ما يحتاجه لمواصلة رحلته بأمان وسلام.
تداول الأهالى قصصًا عن «لالة ميمونة» وعن بركتها وخشوعها لله، وعن كثرة صلواتها واستجابة السماء لدعواتها. وطلب الغريب على الفور لقاء «لالة ميمونة»، حيث كان رجل علم وفقه، يظهر ذلك من حديثه وتصرفاته ولباسه. فوافقت «لالة ميمونة» على استقباله، متوقعة أنه جاء لها بطلب محدد أو للسعى نحو البركة والحكمة التى تتمتع بها.
وعندما دخل الغريب غرفة «لالة ميمونة»، وهى فى عزلتها الروحية، وجدها تصلى، رافعة كفيها نحو السماء، متضرعة إلى الله، تكرر عباراتها الروحية المعتادة «ميمونة تعرف ربى وربى يعرف ميمونة». اندهش الرجل من طريقة صلاتها، وعندما انتهت من الصلاة، رحبت به، وعلى الفور بادرها بالتنبيه، موضحًا لها أن صلاتها ليست صحيحة ولا مقبولة عند الله.
تساءلت «لالة ميمونة» فى داخلها عن سبب عدم قبول صلاتها وعن الطريقة الصحيحة للصلاة. وجلس الغريب إلى جانبها، مبتدئًا فى تعليمها الطريقة الصحيحة للصلاة، وكانت تردد خلفه ما يجب أن يُقال بالعربية أثناء الوقوف للصلاة. وأخيرًا، حفظت «لالة ميمونة» ما ينبغى عليها قوله فى كل صلاة، وغادر الغريب القرية، وعادت «لالة ميمونة» لعزلتها فى غرفتها.
وعندما حل موعد الصلاة التالى، قامت «لالة ميمونة» لأدائها، ولكن عندما رفعت يديها نحو السماء، نسيت الطريقة الصحيحة التى علمها الغريب. فحاولت أن تسترجع طريقة صلاتها السابقة، لكنها نسيت العبارات التى كانت ترددها بشكل ثابت. غضبت «لالة ميمونة»، فلم تجد ما تقوله، سوى أن تدعو على الغريب، تطلب فيها من الله أن يضل طريقه كما ضلت صلاتها.
وفيما كان الغريب يسير فى الغابة، توهم وضاعت منه الطريق، فأدرك أن «لالة ميمونة» قد دعت عليه. وبعدما تعب فى البحث عن مخرج من الغابة، عاد إلى القرية لطلب المساعدة. وعندما دخل غرفة «لالة ميمونة»، استقبلته بغضب وحيرة قائلة «لقد ضيعت صلاتى فضيعت طريقك».
جلس إلى جوارها وحاول أن يساعدها فى استرجاع عبارة صلاتها القديمة، وبعد أن استرجعتها قامت إلى صلاتها مرددة سعيدة، «مامونة تسَّنْ ربى، ربى يَسَّنْ مامونة»، وأكمل الغريب طريقه سعيدًا هو الآخر بأن عرف اتجاهه وهو يقطع الغابة
«بربارة».. سجينة البرج العالى
لما كانت بربارة ابنة وحيدة فائقة الحسن وبسبب صغر سنها وجمالها أراد أهلها أن يحفظوها من أنظار العالم فبنوا برجًا عاليًا حجزوها فيه تعطى كل ما تحتاجه من أطعمة ملابس ووسائل أخرى للراحة دون أن يراها أحد. اعتنقت الديانة المسيحية سرًا مع خادمتها جوليانا بعد أن تلقت علومها على يد العالم اللاهوتى المصرى أوريجانوس. ونالت المعمودية دون أن تفاتح والدها فى الأمر. التهب قلبها بمحبة الله فنذرت حياتها له، واشتهت أن تعيش بتولًا تكرس حياتها للعبادة. فرفضت كل من تقدم لأبيها من أشراف المدينة الذين وصلهم صيتها طالبين الزواج منها.
حين علم والدها بأمر اعتناقها المسيحية انقض عليها وجذبها من شعرها وهمّ ليضربها بالسيف، فهربت من أمامه وانطلقت من باب القصر، وكان يركض وراءها حتى وصلت إلى صخرة أعاقت طريقها، فانشقت الصخرة لتعبر فى وسطها، ثم عادت الصخرة إلى حالها الأول. هربت بربارة، صوب الحقول، فجعلت العناية الإلهيّة سنابل القمح تنمو وتغطّيها. ومن ثمّ رسمت على وجهها بالفحم الأسود، محاولةً إخفاء ذاتها عن أبيها. لكنّه أمسكها، ورجع بها إلى بيته حيث وضعها فى قبوٍ مظلم.
ويروى البعض أيضًا أنها صادَفَت بعض الرعاة وكانوا يسلقون القمح فطلبت منهم شيئًا للأكل فأعطوها بعض القمح المسلوق لتأكله. والقمح فى المسيحية هو رمز القيامة وعلامة الحياة الأبدية الخالدة التى تعقُب الموت.
أخذها والدها إلى الحاكم، الذى أعجبته، ووعدها بمكافآت كثيرة إذا سجدت للأوثان، ولكنها بدأت تحدثه عن المسيح، فأمر بجلدها، حتى سالت منها الدماء، ثم مزقوا جسدها بمخارز مسننة بينما هى صامتة تصلى. ألبسوها مسحًا خشنة على جسدها الممزق بالجراحات، وألقوها فى سجن مظلم.
وبينما كانت تشعر بثقل الآلام تجلى لها السيد المسيح نفسه وعزاها كما شفاها من جراحاتها، ففرحت وتهللت نفسها. استدعاها الحاكم فى اليوم التالى ففوجئ بها فرحة متهللة، لا يظهر على جسدها أثر للجراحات فازداد عنفًا، وطلب من الجلادين تعذيبها، ووضعوا مشاعل متقدة عند جنبيها، وقطعوا ثدييها؛ ثم أمر الوالى أن تُساق عارية فى الشوارع. صرخت إلى الرب أن يستر جسدها فلا يُخدش حياؤها، فاستجاب الرب وكساها بثوب نورانى.
طلب والدها من الوالى أن يقطع رأسها بسيفه، فأذن له بذلك. وضمّت يديها إلى صدرها بشكل صليب وأحنت رأسها للسيف. فقطع أبوها عنقها به، وتُوّجت بإكليل النصر الأبدى هى وخادمتها.بينما أصابت صاعقة الأب فتحول إلى رماد فى الحال.
ليستقر جسد تلك القديسة، فى كنيسة تحمل اسمها فى حارة الروم بمنطقة بابليون بمصر القديمة، حيث كان يسمح للزوار بلمس جسدها للتبرك به فهى شفيعة الشدائد والأخطار والأوبئة ويستجير بها المعرّضون لخطر الصواعق. وكذلك يستعين بها عمال المناجم والبناءون والنجارون.
«مارينا».. الشهيدة التى غلبت الشيطان
تجسد قصة القديسة مارينا صورة من صور العطاء اللا محدود والحب الإلهى الذى يمكن أن يملأ قلوبنا ويوجهنا نحو الطريق الصحيح فى حياتنا. حيث يتوافد الناس إلى كنيسة الشاهدة الجليلة التى غلبت الشيطان. فى يوم ٢٣ أبيب، الذى يصادف الثلاثين من شهر يوليو والذى يُحتفل به كعيد استشهادها.
ارتسمت رحلتها الروحية مع مولدها فى بلدة أنطاكية البيسيدية بوسط آسيا الصغرى، لأبوين وثنيين، ولكنها اتخذت طريق الإيمان المسيحى بشجاعة وإصرار والذى تعرفت عليه من خلال مربية فاضلة كانت تتولى رعايتها. وتأثرت الشابة مارينا بسرد قصص القديسين والشهداء، وعندما بلغت الخامسة العشرة من العمر توفى والداها؛ ففضلت البقاء مع المربية.
ولأن الاختيار الشجاع يتطلب تضحيات عظيمة فقد حدث بعدها أن جاء إلى المدينة والٍ جديد كان يكره المسيحيين؛ وعندما شاهد مارينا بهر جدًا بجمالها وأراد أن يتخذها زوجة وعندما علم أنها مسيحية استشاط غضبًا؛ وأمر الجنود بإحضارها أمامه؛ وحاول إغراءها بالمال للرجوع عن دينها، لكن مع إصرارها أمر بتعذيبها وضربها بالسياط.
وبينما هى قائمة تصلى خرج إليها من أحد أركان السجن تنّين عظيم، فعندما رأته القديسة فزعت وركعت تصلى وتقدم التنّين من القديسة وفتح فاه وابتلعها وكانت يدا القديسة مرفوعتين بعلامة الصليب، فانشق جوفه وخرجت منه القديسة، ولم يمسها أذى، أما التنّين فمات لوقته. ثم التفتت إلى ركن السجن الأيسر فرأت الشيطان يشبه إنسانًا جالسًا على الأرض وقد عقد يديه على ركبتيه. فصلت مارينا وأمسكت الشيطان بيدها والتفتت حولها ووجدت مطرقة فأخذتها وشرعت تدق بها رأسه ثم وضعت قدمها على عنقه، وقالت: «كف عنى يا شرير فإن إلهى يخلصنى من كل خطية لأنى بالحق أعبده». عادت وربطت الشيطان و«صلّبت» على الأرض فانشقت وصارت هاوية وانطرح فيها.
وفى الصباح حضرت القديسة مارينا أمام الوالى مرة أخرى؛ فأمر بإحضار إناء كبير به ماء مغلى ويغرقونها فيه؛ فنظرت القديسة إلى السماء وطلبت من الله أن يجعل لها من هذا الماء المغلى معمودية مقدسة. وعندما غطست فى الماء ثلاث مرات؛ خرجت منه سالمة وهى تسبح الله؛ هنا أمر الوالى بقطع رأسها حتى يتخلص منها نهائيًا. وليسدل الستار على قصة القديسة التى وعدها المسيح وقال لها «كل من يتشفع بجسدك أو عضو من أعضائك من النساء العواقر بأمانة صحيحة فإنهن يحبلن ويلدن الأولاد. كذلك من تشفعت بك وهى فى مخاض الطلق فإنها تخلص بسرعة».
قصة وصول كف القديسة الطاهر إلى كنيسة السيدة العذراء المغيثة بحارة الروم تروى قصة جندى عثر على الكف فى أحد الأديرة بجبل الكرمل فى فلسطين، ووجده مغطى بالفضة. قام ببيعه لتاجر مصرى، لكنه أصيب بمرض شديد واقترب من الموت. وفى لحظات اليأس، أخبره أحد الأصدقاء أن الكف تحتوى على عضو من أعضاء القديسين، وأنه يجب إيداعه فى كنيسة. ففعل التاجر، وبمجرد وضعه فى الكنيسة، شُفى فورًا. وبعد اندثار كنيسة الملاك ميخائيل، نُقِل الكف والساعد الأيمن للقديسة مارينا إلى كنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم يُعرض الكف والساعد الأيمن فى احتفالين سنويين، الأول فى عيد استشهاد مارينا (٣٠ يوليو)، والثانى فى عيد تكريس الكنيسة يوم ٢ ديسمبر.