مقطع من رواية «العين» ليوسف كرماح
كل من رآها يُؤكد أنه لمحها تترفل فى دثار أبيض. تتخلق ساعة الأصيل بين سيقان القصب العالية. عند الغروب بالضبط، تخرج من أجمة كثيفة وتسير ببطء نحو منبع الماء «العين»، تقوم بجولة خفيفة تتفقّد الأحوال وتختفى، ونادرًا ما تظهر. وكلما ظهرت تزرع الرُّعب فى أفئدة الأهالى. نذير شُؤم. يخالون أنها تُدبّر شُرورًا لأحدٍ.
فى زمن الأساطير والغرابة، عندما كان الطير والوحش سيد المنطقة، يُحكى أن العين كانت ملكة الرُّبوع، بينابيعها الشافية وجنانها الخُرافية. تَؤُمُّ إليها المخلوقات للاستشفاء بمائها العذب والاستحمام فى أحواضها. كانت تفضل الهُدهد من بين جميع الطيور وكانت له أوكارٌ لا تحصى فى مملكتها، الأمر الذى لم تقبله الغربان والشّحارير، ولَمّا عمَّ الجفاف لمدة طويلة، وشحّ الغيث، حرمت جميع المخلوقات من الاستسقاء عدا الهدهد فسئِمَ الطائِران ودبّرا مكيدة لإطفاء منبع العين. فهاجر الهُدهد ونزلت لعنة العين. ويحكى أيضًا أنه من يوم ما حلَّ الاحتلال واستأسد على جنانها استحالت من امرأة مُسالمةٍ إلى جِنيّةٍ بحوافر تيس، وأقسمت أن تُغْرِقَ كلَّ سنة آدميًا وتغوى الشباب بفتنتها وتأسرهم فى عالمها مدى الحياة، حتى كادت القرية تستحيل بُؤرة حمقى. تعددت الروايات ولكن الحمق والغرق الرواية التى ظلت تتداولها الأجيال، وتلقى بجام غضبها على لعنة العين.
تباينت الآراء حول صفاتها، لا أحد وصفها بدقّة. لم تكن جميلة أو ذميمة، لا أحد تبيّن ملامحها. مَن قال إنها سوداء فقد ادّعى الأمر، ومن يومها لم يرَ النور. ولكن الكثير يؤكد أن بياض دثارها يغشى العيون من فرط توهّجه. طبعًا لم يكن الكل محظوظًا برؤيتها، فقد كانت تظهر للبعض بالصُّدفة، من بعيد. حتى إن سكان القرية المجاورين للعين لم يروها إلا نادرًا، وكانوا يحفظون مسافة الاحترام والأمان بينهم وبينها. فعند الغروب لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من العين. تحاك أساطير حولها، الكبار والصِّغار على حدٍّ سواء يخشونها ويتفلون فى صدورهم كلما ذُكر اسمها. الأمهات يرهبن أطفالهنَّ عندما يتعسَّرُ نومهم بأنهن سينادين على الغولة «مُولات العين» وستلتهمهم. والكبار عندما يحلمون بها، ينتظرون اللعنة.. فهذا نذيرُ شُؤم.
■ «جدتى، هل فعلًا توجد هذه السّيدة الشريرة التى تخطف الأطفال؟!»
- «نم أو سأنادى عليها»، فيحشر الصَّبى رأسه فى حضنها مرعوبًا ويحاول النوم.
■ «هل هى جنية تفتك بالناس؟ أنا لن أذهب إلى هناك. أنا ولد صالح جدتى. قولى لها ذلك أرجوك. اطلبى منها ألا تُؤدينى».
- « كفى، نم، لا تخف، سأخبرها أنك ولد صالح».
■ «جدتى هل تعرفينها؟ هل التقيت بها يومًا؟ كيف هو شكلها؟ هل فعلًا لديها حوافرُ تيس؟»
- «اِخمد، هل ستنام أم سأنادى عليها؟»، يحشر مرة أخرى جسده الصغير فى حضنها بقوة ويحاول النّوم ولكن النومَ لا يُطاوعه.
■ «كريميش، أنت أكيد التقيت بها؟».
- «نم يا طويل اللسان، سأقومُ بكَىّ لسانِك إن بقيت تنادينى بكريميش».
كان الصبى ينام مع جدته؛ لأنها كانت متعلقة به، وهو أيضًا، ولأنها تحضنه. فى الصباح توقظه عندما تستيقظ، تأخذه فى حضنها إلى كانون الكشينة، تجهز وجبة الفطور لأنها تحب الفطور باكرًا فيفطران قبل الجميع. كانت تظل أمه تتوعده بالويلات لكنه لا ينام فى بيتها. لم تكن تشمله بعاطفة. يخشى أن تخطفه بالليل «مولات العين» فيهرع إلى حضن جدته لتحميه. لفرط أنه أحدث مَسْربًا يسلكه فارًّا إلى حضن جدته، حافى القادمين. عندما تضربه أمه تهرع جده لإنقاذه، خاصة عندما تكلفه بمراقبة حوش الدّجاج ويهجم النسر على الفراخ.
كانت العين لعنة القرية وبَرَكَتَها فى الآنِ نفسه، يكرَهُها الذين يتوهمون أنها أصابتهم بالعمى أو الغرق والخَبَلْ، ويتبرّكُ بها الذين يتوهمون أنها تشفى مرضاهم وتزوج بناتهم وتقضى حاجتهم، يقدمون لها القرابين؛ شموع وسكر وأحيانًا تينٌ وخبز. لم يكن أحد يقوى على سرقة قرابينها. تبقى الشُّموع مضاءة من الشفق الأبيض إلى حدود منتصف الليل، تتراقص حتى تذوب وتطلى جدران المبنى الطينى بالدُّخان الأسود. ولكن القرابين كانت تختفى، على الأرجح ليلة الخميس أو الجمعة، وحده العريف المسكون بالأرواح الشريرة يعرف سِرّ اختفائها. يتردد كثيرًا على الضريح يطوف بأجمة العين. يقضى أوقاتًا يلعلع بالجوار. لا خوف عليه، لم يعد له ما يخشى عليه. الوحيد الذى يملك جُرأة أن يتوغل فى الأجمة، وأن يعبث بقرابين الضريح، وأن يسبح فى الصهريج ما طاب له.
يقع ضريح العين عند رابية بالقرب من منبع الماء. بناء طينى متهالك، تُرمّمه زوجة فقيه القرية كل سنة عندما يتهاوى بفعل الأمطار. تظلله شجرة تين كبيرة، تُكنى «شجرة الحرام»؛ لأنها لا تنتج ثمارًا. تعلّق عليها العذارى حجب رهيبة، لم يكن يقوى أيضًا على فتحها أى أحد عدى العريف الذى يحاول فك طلاسمها ولكنه لا يفلح، وإن كان يفلح فى إبطالِ تعازيمها برشها بأسيد حمض اليوريك ورميها فى مجرى مياه العين. وتظل زوجة الفقيه تتوعده بالويلات: «العريف، يكفيك ما بكَ من مُصاب، ابتعد عن العين وإلا ستخسف بك».
لا أحد يذكر مَن بنى هذا الضريحَ الطينى، على الأرجح فقيه القرية هو الذى بناه، بتبرعات السُّكان المجاورين. ولكن الأسلاف يؤكّدون أن «جيرمان» مالك مزرعة العنب هو الذى أمر ببناء الضريح، بعد الحادثة الرهيبة التى كتبت عنها الصّحف الأجنبية، وأثارت فضول الكثير من الباحثين الأنثروبولوجيين، حتى إنّ خبراء جاءوا من خلف البحار لدراسة الظاهرة، ولكنّهم لم يفلحوا فى فك شِفرتها. خربشوا على جُداداتِهم واعتبروا الأمر مجرّد هلوسات وبِدَع لا أساس لها، خاصة عندما عاينوا الموقع الذى لا يعدو أن يكون مجرَّد خراب وقَفر، واستجوبوا نفرًا من الأهالى الذين تألَّبوا على الباحثين ولم يفهموا ما يجرى. إذْ كانت تحوم شكوك ويخشون أن يحتكر جيرمان العينَ لسقى كروم العنب ويحرم الأهالى من الانتفاع بمجرى العين.
على مَقْرُبة من الضريح تتعرّش بيوت طينية متهالكة لعمال المزرعة. ما يزيد على عشرين بيتًا، كان قد أمر جيرمان ببنائها حتى يسهل على العمال التنقل إلى «الفيرمة». عَشِيرةٌ تُكنّى نسبة إلى مناطقها النائية التى نزحت منها، بقيت هذه الأنساب عالقة بهم حتى عندما ضاقوا بتلك البيوت وانتسبوا إلى أهالى المنطقة، تزوجوا من المداشر المجاورة واشتروا أراضٍ رخيصة وربوا المواشى وأصبحت المدافن تَسَعُ جثامينهم. لم تكن هناك عداءات قَبَلِيّة، فالمنطقةُ بِرُمَّتها كانت فى مطلع القرن الماضى نَكِرة، خلاءٌ مقفرٌ تغشيه نباتات الشيح والدوم «النخيل القزم»، إلى أن اكتشف الأجانب المنطقة وحوّلوها من خلاء مُقفر إلى جنة، كيف؟ التاريخ أدرى بكيف استولوا على الأراضى الخصبة الصالحة للزراعة. استوردوا الجرارات الألمانية الأشبه بالدبابات تُكنى «الشنى»، وطوَّعوا الأرضَ العذراء فأضحت بساطًا أخضر تفرشه كروم العنب وأشجار الليمون وحقول الذرة والقمح. وبدأت اليد العاملة الرخيصة تتقاطر على المزارع وتبنى بيوتًا واطئة بالقرب.
المزرعة التى عُرفت باسم «جيرمان»، كانت فى ملكية فرنسىّ يدعى «مينيو»، هو أوّل من رسم معالمها وطوّع أرضها الخلاء. وبعد تسع سنوات باعها لجيرمان الذى يقربه بالنسب، ثم انتقل إلى خلاء قريب وطوّعه. كان مُزارعًا يفقه فى حبوب القمح والذرة وتربية الخنازير، وكان يركز فى بحثه عن أرض القمح الخصبة، فيما جيرمان كان مزارع عنب، يفقه فى أنواع الكروم. ولكن لم يكن هذا هو السبب الأساس الذى دفع مينيو إلى تخليه عن المزرعة، فقد كان جزءٌ من مساحتها الشاسعة التى تقدر بعشرات الهكتارات صالحة لزراعة حبوب القمح والذرة.
كانت تأتيه فى المنام وتأمُرُه بالمُغادرة. حذّرته مرارًا، ولمّا عَنَتَ أصابته بلعنتها. انتحرتْ زوجَتُهُ الأولى، ربما أسفًا على التقاطِ «الفوهرر» صورة أمام برج إيفل. ضاعت ماشيته بوباء الحُمّى القلاعية، فتك الجراد بالمحصول كله، عندما تلبّدت السّماء بغيوم الجراد وأتى على الأخضر واليابس. تسلّلت الحشرات إلى المخازن وعاتت بمخزون الطعام وقد هُددت المنطقة بكارثةٍ بيئةٍ وإنسانيّة. كانت كوارث طبيعية ولكنها تزامنت مع لعنة العين. سذاجة الأهالى عزّزت هذه اللعنة بتُرَّهاتهم. تَوَاتَرَت عليه المِحَنُ والجوائح، خاصّة بعد انتحارِ زوجته التى كانت مدمنة كحول ومضطربة نفسيًا، فاستكان لرجاحة تغير العتبة اللعينة. ابتعد القدر الكافى عن محيط العين واستولى على مساحة خصبة من الهكتارات وطوّع أحراشها.
عندما تولى السيد جيرمان إدارة المزرعة، أخبره «كريميش» وعمال المزرعة بأمر «العين». حاول كريميش بتودُّدِه المعهود تنبيه السيد جيرمان بخطورة الأمر، كان قبل أن ينتقل إلى جوار أكواخ العمال قد سمع عن العين الكثير من الحكايات. لكن جيرمان لم يصدِّق خرافاتهم. شرذمة من الخَمَّاسة والتَّرّاسة والمتخلفين لا يُعنى بترّهاتهم.
قاده الفُضول مُتسلحًا بأفكار وعلوم عصر التنوير إلى منبع العين. امتطى حصانه المُفضل وتقدم من الرَّبْوَة بثقة عالية وخُيلاء. توغل فى أجمة القصب العالى، ودار حول منبع العين، لم يجد شيئًا. كان يتوهم إن كانت حكايتهم صحيحة أنه سيجد امرأة مثل حورية البحر مستلقية بين الطحالب أو فى غارٍ مثلَ أرنبة. لكنّه لم يجد لا مراتع ولا آثار حوافر ولا مغارة، ولم يسمع أى صوت من الأصوات الغريبة التى حدّثوه بشأنها. فعاد مبتسمًا ساخرًا.
كَثُرَ اللَّغَطُ حول العين، أكّد العمال المجاورون لها أنهم يرونها بين الحين والآخر قبيل الغروب فى لمح البصر ثم تختفى. نيغرو NEGRO كما يحلو لمسيو إصراد مناداته تحقيرًا، يُصرّ أن «العين» حق، وأنه شاهدها عن كثب فى قلب الليل تخرج من القَصَبِ بلباس أبيض، وأنها كادت تسحره وتسكنه. عندما اقترب منه شبحها جثا على ركبتيه وركع وهو يقرأ ما يحفظه من الذِّكْر، وظلّ على هذه الحال إلى أن أشرقت الشمس. لم يتحمل جيرمان هذه الحكاية. تسلَّح بغروره وتنويره، وبندقيته هذه المرة.
كان الصيفُ فى أوجِهِ، وكانَ كلّ العمال نشطين، لدرجة تسمع أهازيجهم فى الليل، حتّى إنّ الأهالى يعزون هذا النشاط إلى التأثير المسكر للعنب الذى يلتهمونه بفرط. وكان الكل يتهامس بأن السيد جيرمان ذاهب لحتفه. فى جو يتقاطع فيه الواقع بالخرافة، أوقدوا نارًا كبيرة فى باحةِ أكواخهم التى تشبه إلى حدٍ كبير فى شكلها الدائرى أكواخ الهنود الحُمْر، زعمًا منهم أنّ النار تطردُ الأشباح. من على التلة ألقى اللّهيبُ بشعاعه على منبع العين، وبدأت ظلالهم من الأعلى تتراقص على حافة العين كما لو كانوا أشباحًا. يترقبون من بعيد فى انتظار ماذا سيحدث.
عندما وصل جيرمان إلى العين ساعةَ الأصيل، لم يجرُؤ أى من خدمه على الاقترابِ من الأجمة، حتّى كلبُهُ الوفى الذى يصطاد به الأرانب لم يجرؤ على مرافقته. ثبت ينتظر خروجها حسب توجيهاتهم وأوصافهم. ولَمّا لم تخرج عند الغروب ولا بعده، توغل بين الحشائش وأغصان القصب الكثيف يتأبَّطُ بندقيته. انتظروه كثيرًا لكنّه لم يَعُد. ولم يجرُؤ أحد على الاقترابِ والبحث عنه، حتّى كَريميش الذى كان يتحلّى بالقليل من الشجاعة، ومستعد للتضحية لم يجرؤ. اجتمع كلُّ عمال المزرعة وأخذوا ينادون عليه بصوتٍ عالٍ. ولكنّهم لم يسمعوا سوى صدى أصواتهم يتردد. بات العمال يوقدون النار ويُهَلِّلُون فى انتظار ظهوره طوال الليل بلا جدوى.
فى الصباح وجده العمال مُغمى عليه عند حافة العين ووجهه مُعوجٌ مرميًا على الحشائش العائمة على صفيحة الماء. حملوه على حصانه، ولكن جنونًا غريبًا استبدَّ بالحصان فرماه من على ظهره وطارد الوهم بين خطوط الكروم بجنون. فحمله نيغرو وكريميش على ظهرهما بالتناوب إلى العِزْبة. أدرك الجميع حينها أن العينَ حق. حتى مدام جيرمان، المرأة المثقفة والمتنورة. رابها منظر زوجها المعوج، فاقدًا للوعى كما لو كان فى حالة صرع.
نم يا طويل اللسان سأقومُ بكَىّ لسانِك إن بقيت تنادينى بكريميش
فى الصباح وجده العمال مُغمى عليه عند حافة العين ووجهه مُعوجٌ مرميًا على الحشائش