الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقطع من رواية «فى انتظار الأطباق الطائرة» للكاتب الروائى والسيناريست البشير الدامون

لوحة لعبد الإله الشاهدي
لوحة لعبد الإله الشاهدي

فى الليل كنت أواجه ثلاثة وجوه نسائية، إحسان ونعيمة وأمى. نفر منى النوم. أتقلب على الفراش. طيف إحسان وجسد نعيمة لا يفارقانى، وبينهما يطل وجه أمى محاسبًا ومعاتبًا. أفتح كتاب «الذين هبطوا من السماء»، ألتقى بالمخلوقات الفضائية، إنهم ودودون. يأخذوننى ويرمون بى فى سحب من ورود. هناك إحسان تشم وردة ونعيمة تصنع مشمومًا. أطير نحو إحسان ونعيمة، أود أن أقبض عليهما، تطير الفراشتان، أتوسل إلى المخلوقات الفضائية أن يمدونى بطاقة وقدرة لتطويع هاتين الفراشتين الهاربتين منى، وأن يجعلوا أمى عَايْشَة لطيفة معى. 
فتحت نعيمة باب السطح، خفق قلبى بقوة، اقتربت من سطح بيتنا وصرخت ببعض الغنج تستغيث وتعلن لى أن إحدى دجاجاتها قد طارت وهوت إلى الطابق الأرضى للدار الخربة. 
رقص بين ضلوعى حماس بهيج، وأمل بأن أقضم تفاحها، وقلت لها متشجعًا:
- سأحضر لك الدجاجة مهما كلفنى الأمر شرط أن تذيقينى من تفاحك.
ابتسَمَتْ، رفرف قلبى. حسبت كلماتها المزينة بابتسامة واسعة قبولًا لطلبى، بل وعدًا صريحًا لتلبية التماسى، مما كان كافيًا لى بأن أتدبر حبلًا طويلًا وأربطه حول خصرى، وأثبت طرفه فى عمود بالسطح، وأشرع فى النزول إلى قعر الخرابة. 

البشير الدامون


نزلت بصعوبة كبيرة طابقين من البناية الخربة. أتربة وأحجار ومسامير وقطع خشب تملأ المكان. تعب وضنى وجروح طالت ساقى ويدى وصدرى. لم يكن الصعود أقل خطورة من النزول. استقبلتنى نعيمة باسمة شاكرة وممتنة. قدمت لها الدجاجة وأنا منهك وطالبتها بحقى فى التفاح. 
- أريد تفاحك أيتها النخلة المليحة.
ضحكت بدلال، وهى تقرب صدرها منى، وتقول:
- أشجار النخيل لا تثمر التفاح، لكن من أجلك سأصبح شجرة تفاح، إنك تستحق بستان تفاح... لكن لم يحن بعد موسم التفاح، تأكد أن لك فى عنقى دينًا طالما يحل موسم التفاح.
صدمنى جوابها. ربما كان قد ظهر الحزن جليًا على وجهى حين بادرتنى:
- لكن من حقك أن تأخذ بعض تفاحى الآن، بعضه فقط. 
اقتربت منى وابتعدت فى تدلل، ثم اقتربت منى بصدرها الكبير الناهد. ارتبكت، تخلخلت، الشفاه قريبة من الشفاه، والصدر يلامس الصدر، من أين أبدأ. مددت شفتى، لأقطف بهدوء. التقت الشفتان. كدت أختنق من دهشة الفرح. ابتعدت نعيمة قليلًا عنى، مددت وجهى من جديد لأقطف. فأتتنى تفاحة قوية، صلبة، جد صلبة مباشرة على عينى.
كانت ضربة قوية... لطمة شديدة. 
رهيب أن يحتويك الظلام ضربة واحدة. لم أشاهد نجومًا تبرق ولا أطباقًا طائرة تومض، لكننى متأكد أننى رأيت سوادًا غامقًا. شُلتْ حواسى قبل أن أعود أحس بشعاع من ضوء مشتت ينفذ إلى عينى. ألم يفتك بعينى اليمنى، قبل أن يفتك بفكى وبوجهى وبعينى اليسرى. كانت اللطمة عنيفة، وكانت الصدمة أعنف.
أحسست بدوار وألم شديد. خفت أن أتهاوى. اتكأت على حاجز السطح حتى لا أسقط، وبعد أن تمكنت أن أعرف ما حل بى، وقبل أن أنتفض فى وجه نعيمة، وما إن فتحت بالكاد عينى حتى شاهدت أمى واقفة بسطح منزلنا تخنزر فى بعينين ملتهبتين من الغضب، قبل أن تنحنى لتبحث عن حبة بطاطس كبيرة أخرى لتقذفنى بها. وهى تشتم وتسب:
- ابن الحرام. أغرب عن وجهى، إنك مطرود من الثانوية وتكذب علىّ، وتسرق لى نقودى، وها أنت تمارس المنكر أيها الأعرج الأعوج. كل منقوص منحوس. لا يعرج ولا يُعْوَج إلا البلاء المُسَلطُ. والله لو عدت إلى المنزل لقتلتك.
انحنت أمى لتحمل حبة بطاطس أخرى لتقذفنى بها، بينما الآلام الناتجة عن الضربة الأولى تنخر عينى ووجهى ورأسى. 
قذفتنى بحبة البطاطس الثانية. استقرت الضربة فى ظهرى، كأنها ضربة حجر. 
تابعنى صوت أمى:
- من اليوم اذهب لتبحث أين ستعيش أيها الكلب الأجرب الأعرج، والله لو دخلت منزلى لقتلتك.
سأحضر لك الدجاجة مهما كلفنى الأمر شرط أن تذيقينى من تفاحك