فيرجينيا وولـف.. الحياة فى قاع الجنون
البريطانية المعادية للسامية.. والمثلية التى تحب زوجها.. ملهمة النسويات وكاتبات عصرها
في طفولتها ابتكرت جريدةً عائليةً تُدعى «أخبار بوابة هايد بارك»
رحلتها مع الانهيارات العصبية والنفسية بدأت بالفعل مع وفاة والدتها
لم يحظ كاتب، أو كاتبة، بشهرة تفوق شهرة أعماله مثلما حدث مع البريطانية فيرجينيا وولف، فهى النسوية الأولى التى يعرفها عموم الكتاب والمهتمون بالأدب والفن، ويعرفها المشتغلون بالسياسة والحركات الحقوقية والحياة العامة حول العالم.. يعرفون التفاصيل المملة لحياتها، بحلوها ومرها وعدد المرات التى فاجأتها فيها نوبات الانهيار العصبى، يعرفون آراءها فى السياسة والاجتماع، وتفاصيل علاقاتها النسائية، واللحظة التى وقعت فيها فى غرام زوجها، يعرفون أدق تفاصيل عملية تعرضها للتحرش وهى طفلة صغيرة، ومن أخين غير شقيقين لها.. كلهم يعرفون ذلك، وربما ما هو أكثر، وأكثر تفحيصًا وتمحيصًا للمعلومات، لكن النسبة الأكبر منهم لا يعرفون كثيرًا عن رواياتها، أو مقالاتها أو أعمالها الإبداعية، رغم أنه من النادر أن تجد قائمة لأهم الروايات فى القرنين التاسع عشر أو العشرين دون أن تكون من بينها أكثر من رواية تتزين بتوقيعها، خصوصًا رواية «إلى الفنار» التى صدرت عام 1927، وهى الرواية التى ألهمتها إياها الشاعرة الإنجليزية فيتا ساكفيل ويست، فى فترة ارتباطهما عاطفيًا.
مثل لوحة فشلنا فى رسمها
لم تكن الشهرة الطاغية لشخص الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف على حساب أعمالها، طريقًا للتقليل من منجزها الفكرى والأدبى والمعرفى، ولكن لأنها عاشت حياة صاخبة، مؤلمة، أقرب إلى التراجيديات الكبرى فى تاريخ الإنسانية، بداية مما قبل لحظة ولادتها، عندما تزوج السيد ليزلى ستيفن من السيدة جوليا برنسيب ستيفن، ولديه ابنة من زواج سابق، بينما كانت هى لديها ثلاثة أبناء من زواج سابق أيضًا.. أسرة تبدأ رحلتها مع الوجود بأربعة أطفال غير أشقاء، وفى أعمار مختلفة، وكانت أدالين، التى هى فيرجينيا وولف، والتى ولدت فى ٢٥ يناير عام ١٨٨٢، لعائلة ثرية جنوب كنزنجتون، ولوالدين متحررين فكريًا، إذ كان والدها ليزلى، رئيس مكتبة لندن، رجلًا نبيلًا يجيد القراءة والكتابة، ويعمل مؤرخًا وكاتبًا، أما والدتها جوليا، فولدت فى الهند، وعملت كموديل لعدد من الرسامين، كما كانت ممرضة، وكتبت كتابًا عن مهنة التمريض.
لفرط الشهرة التى حظيت بها فيرجينيا وولف، فى حياتها وبعد رحيلها، تصدرت صورتها غلاف مجلة الموضة الأشهر عالميًا «فوج»، كما تصدرت غلاف مجلة «التايم»، وتعد البطاقات البريدية البريطانية التى تحمل صورتها هى الأكثر مبيعًا من بين البطاقات التى تحمل صورًا لأشخاص، حتى أنه يمكنك أن تجد صورها منقوشة على مفارش الشاى، والقمصان، ومناشف المائدة، كما تم تقديم عدد من الأفلام السينمائية عن حياتها، وعلاقاتها النسائية، إذ لم تقتصر علاقة فيرجينيا بالمثلية على معالجتها إياها فى روايتها «السيدة دالواى» فقط، وهى الرواية التى تم تحويلها إلى فيلم سينمائى بطولة فانسيا ريدحريف، فقد كان لفيرجينيا علاقات مثليّة مع عدة سيدات، ويربط البعض ذلك بالمشاكل النفسية التى مرت بها فى حياتها، مثل وفاة والدتها فى صباها، وتعدى أخاها، غير الشقيق، عليها جنسيًا، ولكن أشهر هذه العلاقات التى حظت بها وأقربها إلى قلبها، كانت مع فيتا ساكفيل ويست، والتى ألهمتها بعدة روايات مثل «أورلاندو» و«إلى الفنار».
كان ترتيب فيرجينيا السابعة بين ثمانية أطفال، وارتاد اثنان من إخوتها جامعة كامبريدج، فيما تم تعليم جميع الفتيات فى المنزل، ورغم أن والديها كانت لهما علاقات جيدة فى الوسط الفنى والاجتماعى، وبين نخبة الحياة الاجتماعية فى لندن، لكنها ذكرت أنها تعرضت وهى فى السادسة من عمرها للتحرش الجنسى من قبل اثنين من إخوتها غير الأشقاء لجهة الأم، الأمر الذى تكرر لنحو ٩ سنوات، وفيما ذهب محللون إلى أن فيرجينيا هى بنفسها من اختلقت تلك الواقعة، أو ربما توهمتها تحت وطأة إحدى نوبات إصابتها باضطرابات نفسية وعصبية حادة، لكن الواقعة وردت فى سيرتها الذاتية التى كتبها ابن شقيقتها كوينتين بيل، كما وردت الإشارة إليها، أيضًا، فى مذكرات أختها الفنانة التشكيلية المعروفة فينيسيا بيل، والتى كتبت لها فى إحدى رسائلها: «أتمنى أن تحتفلى بنجاح روايتك، وتنسى ما فعله جيرالد، إننى حتى لا أحب أن أتذكر أنه أخونا.. لقد مضى وقت طويل، أرجوك اعتبرى الأمر مثل لوحةٍ فشلنا فى رسمها، وعلينا رميها فى الخارج».
على الجانب الآخر، ذهبت أستاذة الأدب الإنجليزى بانثيا ريد، فى كتابها «الفن والتأثير.. حياة فرجينيا وولف» إلى أن تقارير الاعتداء الجنسى فى طفولة وولف بولغ فيها، وقالت إنه «بينما تعرضت الكاتبة لصدمة جنسية عبر أخويها غير الشقيقين، وتعرضت لندوب عاطفية من والدها، فما أفضى إلى انهيارها بالفعل هو موت والدتها».
على أى الأحوال فإن بداية رحلة فيرجينيا وولف مع الانهيارات العصبية والنفسية، بدأت بالفعل مع وفاة والدتها عام ١٨٩٥، بسبب الحمى الرثوية، حيث تعرضت لأول انهيار عصبى، وتكرر الأمر بعدها بعامين عندما توفيت أختها غير الشقيقة ستيلا دكوورث، والتى كانت بمثابة الأم لها، ثم بدأ أفراد أسرتها فى التساقط بسبب أمراض مختلفة، فتبعها والدها، وأخيها ثوبى، الأكثر قربًا منها، ومع توالى الانهيارات، تم احتجازها فى إحدى المصحات النفسية، حيث لقبوها بملكة جمال المجنونات.
حاولت فيرجينيا الانتحار لأول مرة عندما كانت فى الثانية والعشرين من عمرها بالقفز من إحدى النوافذ، لكنّ النافذة لم تكن عاليةً بما يكفى، ولكنها كررت المحاولة مرات ومرات، وفى الفترة الأخيرة من حياتها بدأت تغرق فى اكتئابٍ شديد. كان ليونارد إلى جانبها دومًا وقررا أنهما سينتحران معًا إذا ما استطاعت ألمانيا احتلال إنجلترا فى الحرب العالمية الثانية التى تهدم منزلهما خلالها، وفى الثامن والعشرين من مارس عام ١٩٤١ ملأت فيرجينيا وولف معطفها بالحجارة ورمت نفسها فى النهر، ولم تعثر السلطات على جثمانها إلا بعدها بثلاثة أسابيعٍ.
حياة صاخبة وأكثر حرية
تمكنت فيرجينيا وأخواتها من الالتحاق بقسم الفتيات فى كلية الملك فى لندن، فدرست هى اللغات الألمانية، واليونانية، واللاتينية فى قسم الفتيات، وهناك تمكنت الأخوات ستيفن من التواصل مع أوائل النساء الإصلاحيات لحركة التعليم العالى للنساء، وحركة حقوق المرأة، كما استفدن من إخوتهن الذين تعلموا فى جامعة كامبريدج، ومن وجود مكتبة أبيهن الضخمة، والتى كان لهن كامل الحق فى دخولها واستخدامها بلا قيود.
كان والدها يشجعها لكى تصبح كاتبة، فبدأت الكتابة بشكل احترافى وهى فى الثامنة عشرة من عمرها، ولهذه شكلت وفاته عام ١٩٠٥، بعد إصابته بسرطان المعدة، نقطة تحول مهمة فى حياة الأخوات ستيفن، وتسببت فى إصابة فيرجينيا بانهيار عصبى آخر، فقررت الأخوات الانتقال من كنزنجتون إلى بلومزبرى وأسلوب حياة صاخبة وأكثر حرية، وحيث تم تكوين مجموعة بلومزبرى الفنية والأدبية، بالتعاون مع أصدقاء إخوتهن من الكتاب والمثقفين والفنانين، بمن فيهم الناقد الفنى كلايف بيل الذى تزوج أختها فانيسا، وليونارد وولف الناقد والمتخصص فى علوم الاقتصاد، الذى تزوجته هى بعدها بخمس سنوات.
اشتهرت مجموعة بلومزبرى بسبب مزحة قاموا بها عام ١٩١٠، حيث قام عدة أعضاء منهم بالتنكر على هيئة وفدٍ من الأسرة الملكية الإثيوبية، وتنكرت فيرجينيا كرجلٍ ذى لحيةٍ، ونجحوا فى إقناع البحرية الإنجليزية الملكية بعرض سفينتهم الحربية عليهم، وكان معها فى هذه الحادثة ليونارد وولف الذى أحبها وتزوجا فى العاشر من يوليو ١٩١٢، ثم أسسا دار نشر «هوجارث» التى نشرت معظم أعمالها.
وباعترافها الشخصى، كان زواجها من ليونارد زواجًا سعيدًا، مع أنه كان بأسلوب مستغرب إلى حد كبير، حيث كان كلا الطرفين فيه يتمتع بحرية الدخول فى مغامرات عاطفية كما يشاء، لذا عندما التقت فيرجينيا بالشاعرة ومصممة الحدائق فيتا ساكفايل ويست فى سنة ١٩٢٢، وهى زوجة الدبلوماسى الإنجليزى هارولد نيكلسون، قررت أن تتجاوز علاقتها بها مجرد الصداقة، وعلى الرغم من أن كلتا المرأتين كانت متزوجة، فإن هذا لم يمنعهما من الانخراط مع بعضهما البعض فى علاقة غرامية جنسية، ومما يثير الاهتمام أن كلا زوجيهما كان على دراية بالأمر، ووافق عليه كليًا، لكن العلاقة توقفت بعد فترة، دون أن يؤثر ذلك على تواصلهما، واستمرار صداقتهما، فكانتا تكتبان القصائد لبعضهما البعض إلى أن توفّيت فيرجينيا، تاركة وراءها تأثيرًا كبيرًا على الحركة الأدبية الحداثية، والنقد النسوى فى القرن العشرين، فإلى جانب مساهمتها فى تكوين مجموعة بلومزبرى الفنية والأدبية، تركت مجموعة متميزة من المؤلفات الأدبية التى ساهمت فى تدشين تيار جديد فى الأدب الإنجليزى والعالمى، هو تيار تداعى الذاكرة، أو ما يعرف بتيار الوعى، الذى ظهر فى أعمالها، مثل «رحلة الخروج»، و«الليل والنهار» و«غرفة يعقوب»، و«السيدة دالوى»، و«أورلاندو»، و«الأمواج»، و«بيت تسكنه الأشباح» وهى مجموعة قصصية نُشرت بعد وفاتها.
سيدة الالتباسات المدهشة
ربما كان ذلك هو ما يدفعنى إلى الميل لاعتبار فيرجينيا وولف هى سيدة الالتباسات المدهشة، محترفة الحياة على حد الحافة الحرجة قبل السقوط فى هاوية الجنون، والتى كثيرًا ما أسقطتها فى هوة الاكتئاب والعزلة، وصولًا إلى الانتحار.. هى الكاتبة التى تطغى شهرتها الشخصية وسيرة حياتها على عناوين رواياتها وكتبها، هى البريطانية المتهمة بمعاداة السامية، وهى الزوجة المحبة لزوجها حتى يومها الأخير، ولكنها فى نفس الوقت، العاشقة المثلية التى تكتب مئات القصائد الشعرية فى رسائل حب إلى رفيقتها.. هى ابنة العائلة التى تنتمى إلى أرفع شرائح الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية المثقفة، المرأة الطبقية المروعة، وفى نفس الوقت المحرضة على ضرورة الاستقلال المالى للنساء، وهى التى تشدد فى مقالها الأكثر انتشارًا وتأثيرًا «غرفة تخص المرء وحده» على أنه يجب أن يكون للمرأة مالها الخاص، وغرفة خاصة بها إذا أرادت أن تكتب الروايات.. هذه المقالة الطويلة التى تم التعريف بها على أنها «مانفيستو» الحركة النقدية النسوية فى القرن العشرين، وهى عبارة عن دراسة نقدية، عنها وعن النساء، دعت فيها إلى ضرورة الاستقلال المالى للنساء، وضمنتها مراجع عديدة لمقولات قرأتها لرموز الحركة النسوية فى بدايات نشأتها فى القرن السابع عشر، حين كانت القضية يتم طرحها من زاوية عدم المساواة بين المرأة والرجل فى الحقوق والواجبات، وخصوصًا فيما يتعلق بالتعليم الجامعى.
كانت وولف، قبل بداية مسيرتها الروائية، وخلالها، صحفية أدبية لا تكل، وكانت أثناء طفولتها فتاةً فضوليةً، مبتهجةً ومرحة، ابتكرت جريدةً عائليةً تُدعى «أخبار بوابة هايد بارك» لتوثيق المواقف المضحكة التى تحدث لعائلتها، وقال عنها هنرى جيمس، صديق العائلة القديم، إنها «تحمل إرث قرن من ريش الكتابة، وأوعية الحبر»، فى إشارة إلى مراجعاتها الأدبية المبكرة، إذ كان والدها، ليزلى ستيفن، محرر مجلة «كورنهل» و«قاموس السير الوطنية»، والناقد، وكاتب المقالات والمؤرخ، ولم تكن وولف تكتب مقالاتها من أجل الحقل الأكاديمى، بل للقارئ العادى المتعلم، الذى كانت تعتبر نفسها منه، وكتبت عنه تقول: «يختلف القارئ العادى عن الناقد والمثقف، فهو أسوأ تعليمًا منهما، كما أن الطبيعة لم تكن سخية وهى تقدر له حظه من الموهبة. إنه يقرأ من أجل المتعة الشخصية، لا لتحصيل معارف أو تصحيح آراء الغير. يقوده، قبل كل شىء، نزوع غريزى لخلق نوع من الكل، من مختلف الأشياء التى يقابلها. فيخلق لوحة لشخصية، أو مخططًا لحقبة، أو نظرية فى فن الكتابة». وكان يتملكها فخر شديد بقدرتها على تكثيف كتابتها وبث الحياة فيها بما يناسب هذا الجمهور، وقالت عنها الناقدة الأدبية والكاتبة الصحفية البريطانية ريبيكا ويست: «إن مقالات وولف، بفضل خليطها المتميز من الحيوية والتألق والإحكام، قد دونت بطريقة بدا معها استيعاب التحفة النقدية الصادقة، يسيرا على الذهن، مثل سماع أغنية»، وفيما كتبت هى ما نصه: «الغريب، أننى بكل غرورى، ليست لدى ثقة كبيرة فى رواياتى بعد، أو الأخذ فى الاعتبار أنها تعبيراتى الخاصة». يقر عدد غير قليل من كبار الكتاب حول العالم بأن أعمالهم تأثرت بها، بما فى ذلك الشاعرة والناقدة الكندية مارجريت أتوود، والكولومبى الأشهر جابرييل جارسيا ماركيز، والروائية الأمريكية تونى موريسون.
فى عام ٢٠١٣، تم تكريم فيرجينيا وولف من قبل كلية كنزنجتون فى لندن بافتتاح مبنى باسمها فى شارع كينجز واى، مع لوحة تعريفية عن الوقت والمواد التى درستها فى هذه الجامعة، وأهم إنجازاتها واهتماماتها، بالإضافة لعمل فنى تظهر فيه بجانب اقتباس من مذكراتها تقول فيه: «كانت لندن بذاتها وعلى الدوام تجذبنى، وتحفزنى، بإعطائى مسرحية، وقصة، وقصيدة»، كما يوجد تمثال نصفى لها فى قرية «رودمل»، وآخر فى ميدان «تافيستوك» فى لندن، وهى الأماكن التى أقامت فيها وولف فى الفترة ما بين ١٩٢٤ و١٩٣٩.