الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نيوروسينما.. كيف تؤثر السينما فى «مخ الإنسان»؟

أحمد مظهر وفاتن حمامة
أحمد مظهر وفاتن حمامة

لماذا نحب الذهاب إلى السينما ومشاهدة الأفلام؟ سؤال قد يبدو بديهيًا للوهلة الأولى، فالأفلام وسيلة ترفيهية ممتعة ومُسلية وتُساعد فى قتل الوقت وقضاء أوقات لطيفة مع الأصدقاء! قد يجيب البعض بأن السينما وسيلة ممتازة للهروب بعيدًا- ولو مؤقتًا- عن عالم الواقع برتابته ومشكلاته إلى عالم أرحب، والانغماس فى عوالم خيالية وتجارب شخصية مختلفة، قد يراها البعض كذلك طريقة لتوسيع فهمنا للعالم من حولنا ولتثقيف المجتمع فى مختلف القضايا الحياتية، أو قد يستخدمها البعض كوسيلة للإلهام والتحفيز والمساعدة فى اكتشاف الذات. صارت الأفلام كذلك وسيلة أكثر إغراءً فى عصرنا الرقمى هذا للعديد من الأشخاص الذين يفضلون مشاهدة قصة مُجسدة على الشاشة بدلًا من خوض عناء التخيل والتفكير العميق أثناء قراءة الكتب. 

 

لكن يظل السبب الأهم فى رأى أننا كبشر نُحب الحكى ونُحب سماع القصص، وفى اعتقادى أنه لم تُوجد وسيلة عبر التاريخ البشرى استطاعت الحكى بصورة أقوى أو أكثر جذبًا من السينما. فالأفلام تعتمد على المؤثرات البصرية والسمعية ومختلف أنواع الفنون، بالإضافة الى أحدث ما وصل إليه العلم من تكنولوجيا، مما يجعل تأثيرها على العقول مُذهلًا.

وكطبيب متخصص فى أمراض المخ والأعصاب، ومحب وعاشق لعالم السينما الساحر من قبل ذلك، شغلتنى فكرة تأثير السينما على الأدمغة منذ زمن بعيد وقضيت وقتًا طويلًا أبحث فى هذا الموضوع، فالعلاقة بين الطب بشكل عام والسينما علاقة جوهرية وعميقة جدًا، وقديمة قدم السينما نفسها، قد يرجع ذلك إلى أن كليهما يتعامل مع الإنسان وآلامه، وفى حين أن الطبيبَ يفحص الجسد ويعالجه، تفحص السينما النفس البشرية بتعقيداتها ومعاناتها، وقد تعالجها أحيانًا! 

شغلتنى أسئلة كثيرة، مثل لماذا هذا الغرام والولع بعالم الأفلام والسينما؟ ولماذا نقضى ساعات وساعات من عُمرنا فى مُشاهدة قصص خيالية على الشاشة نُدرك أنها لم ولن تحدث، وبالرغم من أن عقولنا تدرك أن هؤلاء الأشخاص الذين نراهم أمامنا على الشاشة ممثلون محترفون؟ ثم ماذا يحدث داخل أدمغتنا بالضبط عند مشاهدة الأفلام؟

قادتنى رحلة البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة إلى أحد فروع علوم الأعصاب الحديثة والمدهشة وهو «نيوروسينما» (Neurocinema)، وصارت نتائج رحلة البحث هذه أحد الموضوعات التى ناقشتها فى كتابى (نيوروسينما: رحلة استكشافية لأمراض الأعصاب فى عالم السينما) الصادر حديثًا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠٢٤ عن دار نشر «المحرر».

كلمة «نيوروسينما» مكونة من جزأين: «نيورو» وتعنى علم الأعصاب، و«سينما» وتعنى السينما بالطبع (ظننت هذا واضحًا!)، ويمكن ترجمتها إلى «علم الأعصاب السينمائى». يهتم هذا الفرع الجديد من فروع علم الأعصاب، بدراسة تأثير مشاهدة الأفلام السينمائية على الدماغ البشرى باستخدام أحدث التقنيات العلمية، ثم تحليل وقياس عملية التأثير تلك. نتائج هذه الدراسات غالبًا ما تكون مفيدة ومبهرة، ليس على مستوى علم الأعصاب فقط، ولكن أيضًا لصانعى الأفلام. 

على الرغم من حداثة هذا العلم نسبيًا، حيث بدأت أبحاثه فعليًا فى نهايات القرن الماضى، إلا أن فكرة دراسة تأثير الأفلام على العقل والمشاعر والسلوك كانت موجودة منذ السنوات الأولى للسينما. يتضح هذا من خلال تجارب صانعى الأفلام الروس فى بدايات القرن الماضى، خاصة المخرج الروسى الكبير «سيرجى آيزنشتاين»، فى طُرُق مختلفة من المونتاج قادرة على خلق أفكار ومشاعر قوية فى أذهان الجماهير وزيادة التأثير على العقل. فَطِنت الأنظمة السياسية الى هذا مبكرًا، فاستُخدمت هذه التقنيات فى الأفلام للتلاعب بعقول المشاهدين من أجل الدعاية للدولة الماركسية الجديدة بعد الثورة البلشفية عام ١٩١٧، ولحقت بهم الأنظمة الأخرى، مثل السينما النازية التى كانت من أقوى أسلحة «هتلر» الدعائية، وبعدهم السينما الأمريكية من خلال أفلام «هوليوود» فى فترة الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة.

ولكن فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى، أتاح التقدم فى علم الأعصاب وتقنيات التصوير الطبى الحديثة دراسة تأثيرات الأفلام على الدماغ بمزيد من التفصيل. فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، أصبح تخصص «نيوروسينما» مجالًا دراسيًا معترفًا به وأخذ فى التطور والنمو، حيث يقوم الباحثون فى هذه الدراسات باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى «fMRI»، أو استخدام التخطيط الكهربائى للدماغ «EEG»، لفحص أدمغة المشاركين أثناء مشاهدة الأفلام. 

استخدمت نتائج هذه الأبحاث فى مجموعة متنوعة وكبيرة من التطبيقات العلمية، مثل تحسين التعلم وعلاج بعض الأمراض العقلية، بالإضافة الى استخدامها فى إنتاج أفلام سينمائية أكبر تأثيرًا على أدمغة المشاهدين، وأكثر قدرة على خلق تجربة سينمائية غامرة وجذابة. 

فى الفصول الأولى من الكتاب، قمت بمناقشة وتحليل أحدث ما وصلت إليه هذه الدراسات العلمية الشيقة وما يمكن أن تفعله نتائجها فى مستقبل صناعة السينما، والذى فى اعتقادى أنه مع الوقت ستكون لديها القدرة على إحداث ثورة فى الطريقة التى نفهم بها السينما، وكذلك الطريقة التى نستخدم بها السينما لفهم العقل البشرى. قمت بعد ذلك باستعراض ما وصل إليه العلم فى الإجابة على الأسئلة التى ذكرتها فى أول المقال عن تأثير الأفلام على الأدمغة، ولماذا تحب أدمغتنا السينما لهذه الدرجة؟

ينتقل الكتاب بعد ذلك فى الجزء الأكبر من صفحاته إلى موضوع آخر هام، وهو مناقشة وتحليل مجموعة كبيرة من أفلام السينما العالمية التى تناولت أمراض المخ والأعصاب. كنت دائمًا ما أنزعج حينما أشاهد أخطاءً علمية فى مثل تلك الأفلام لما لها من تأثير قد يكون خطيرًا وسلبيًا على المُشاهد. لذلك قمت بمراجعة وتحليل ما يزيد على مائة فيلم من الناحية الطبية والفنية، عن طريق تلخيص الحبكات، وتحليل المشاهد الرئيسية واللقطات الهامة، ثم شرح الاضطرابات المذكورة فيما يتعلق بتاريخ اكتشافها وأعراضها وطرق تشخيصها وعلاجها. قمت كذلك بتسليط الضوء على الأخطاء الموجودة فى هذه الأفلام إن وُجدت، مع دحض العديد من الخرافات المنتشرة حول تلك الأمراض. 

تم مناقشة ما يزيد على خمسين مرضًا واضطرابًا عصبيًا هامًا، مثل الجلطات الدماغية وأمراض الصرع والصداع النصفى والشلل الرعاش والتصلب المتعدد ومرض الزهايمر وغيرها. قمت كذلك بمناقشة مجموعة من أغرب وأندر الاضطرابات العصبية، والتى قد يسمع عنها القارئ للمرة الأولى، مثل «مرض الجوكر» و«متلازمة أليس فى بلاد العجائب» و«متلازمة الجمال النائم» و«متلازمة الجثة المتحركة» وغيرها الكثير! فى الفصول الأخيرة يستعرض الكتاب مجموعة من أفلام الخيال العلمى التى اعتمدت حبكتها على مواضيع تتعلق بالمخ والأعصاب مع الشرح العلمى لإمكانية حدوثها على أرض الواقع. بالإضافة إلى ذلك، تمت مناقشة مجموعة من الأمراض العصبية التى أصابت نجومًا نحبهم وكانت مثار حديث وسائل الإعلام، مثل «روبين ويليامز» و«بروس ويليس» و«سيلين ديون». فى الفصل الأخير، تناولت ما قدمته السينما العربية من أفلام قليلة تتعلق بأمراض الأعصاب - وليس الأمراض النفسية - مثل «جرى الوحوش» و«زهايمر» و«مش أنا».

حاولت فى هذا الكتاب أن أقدم تجربة فريدة فى عالمنا العربى، والتى أتمنى أن تكون إضافة نوعية للمكتبة الطبية والسينمائية. قرأت ذات مرة مقولة للناقد السينمائى الشهير «روجر إيبرت» يقول فيها: «الحياة قصيرة. فحاول قدر الإمكان أن تتجنب إهدار ساعتين منها فى فيلم لن تستمتع به!». وأنا كذلك أدعوك ألا تهدر ساعتين فى فيلم يدور حول أحد أمراض الأعصاب دون أن تفهمه، لكى تكتمل متعتك فى المشاهدة.