من كتاب «مفاهيم قرآنية».. بالأدلة الموثقة.. الرسول لم يعرف المُلك أو الحُكم
فى القرآن الكريم آيات واضحة المعنى، بينة الدلالة، صريحة فى أن المولى سبحانه وتعالى كان يمنح الملوك من الحقوق الإلهية مثلما يمنح الأنبياء والمرسلين سواء بسواء.
ففيه أن المولى سبحانه وتعالى كان يصطفى من الناس ملوكًا كما يصطفى من الناس رسلًا، وأنه سبحانه كان يبعث فى الناس ملوكًا كما يبعث فيهم أنبياء مرسلين. وأنه جلّ شأنه كان يؤيد هؤلاء الملوك بالآيات التى تثبت للناس أنهم من مبعوثى العناية الإلهية كما كان يؤيد الأنبياء المرسلين بالمعجزات.
جاء فى القرآن الكريم من سورة البقرة قوله تعالى: «وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم».
لقد اختار الله طالوت ملكًا بعد أن اصطفاه، وبعث به إلى قومه ملكًا لا نبيًا أو رسولًا، وأيده بالآية التى تثبت أنه من مبعوثى العناية الإلهية حتى يستمر قومه فى القول بأنه لا يستحق أن يكون ملكًا عليهم.
وليس يخفى أن هذه الخطوات جميعها هى التى تتحقق عندما يبعث الله الأنبياء والمرسلين إلى الناس.
والحقيقة التى نشير إليها ونؤكد عليها من مضامين هذه الآيات البينات، أن هناك نبيًا، وهناك ملكًا. وهذا إنما يعنى وجود النبى والملك فى الوقت الواحد، وفى المكان الواحد. النبى الذى يتولى الأمور الدينية والملك الذى يتولى الأمور الزمنية وإن استمد كل واحد منهما سلطته من الله.
والقرآن الكريم لم يقف من أمر تحديد العلاقة بين النبوة والملك عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك ما يؤكد العلاقة بين الأمرين.
داود وابنه سليمان عليهما السلام كانا يجمعان بين النبوة والملك فكان كل واحد منهما نبيًا وملكًا
ففى القرآن الكريم آيات تؤكد حقيقة أخرى هى: أن المولى سبحانه وتعالى كان يجمع فى بعض الأحيان وفى بعض الحالات بين السلطتين: الدينية والزمنية، فى شخص واحد. ويجعل سبحانه من هذا الشخص النبى الملك أو الملك النبى.
والتاريخ القصصى الوارد فى القرآن الكريم يحكى لنا أن كلًا من داود، وابنه سليمان، عليهما السلام كانا يجمعان بين النبوة والملك، فكان كل واحد منهما نبيًا وملكًا فى قومه، وفى الوقت ذاته.
وسوف تكون وقفتنا هنا مع سليمان عليه السلام من حيث إن ظواهر الملك تبرز فيما قصه القرآن الكريم عنه أكثر مما تبرز ظواهر النبوة.
ففى القرآن الكريم أن سليمان عليه السلام قال لربه: «هب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى».
وفيه أن الله قد وهب له من الملك ما لم يكن لأى إنسان آخر لا من قبل ولا من بعد.
جاء فى القرآن الكريم: «وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون».
والحقيقة التى نؤكد عليها فى هذا المقام، ومن أمر سليمان عليه السلام، أن السلطتين الدينية والزمنية، قد تجتمعان فى شخص واحد فيكون النبى الملك، أو الملك النبى. وعند ذلك يجتمع الدين والدولة فى نظام واحد، ولمجتمع واحد.
والوصول بنا إلى هذا الحد من تشابك العلاقات فيما بين النبوة والملك، يفرض علينا موقفًا لا بد من الإحاطة به، ودراسة كل بُعد من أبعاده. وهذا الموقف هو الموقف الذى يحيط بالنبى العربى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام. فهل كان عليه الصلاة والسلام نبيًا رسولًا ليس غير وعند ذلك يكون الإسلام دينًا فقط؟ أو كان عليه الصلاة والسلام نبيًا ملكًا، وعند ذلك يصح ما يقال من أن الإسلام دين ودولة؟
والإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب التعرف على الأرضية التى سوف نقف عليها عند تحديدنا أبعاد هذا الموقف.
والأرضية عندنا ليست إلا الدراسة الشاملة لكل استخدامات القرآن الكريم لمشتقات المادتين اللغويتين اللتين جاءت منهما كلمات النبوة والملك، ومفاهيم النبوة والملك، والنبى والملك.
وقبل أن نأخذ فى هذه الدراسة نشير إلى حقيقتين معروفتين، ولكنهما لا تكفيان فى هذا المقام ولا تغنيان بأى حال من الأحوال عن دراسة المفاهيم القرآنية.
الحقيقة الأولى: أن التعرف على مصدر السلطة فى حالة كل من النبى والملك لا يجيب الإجابة الشافية فى هذا المقام ما دمنا قد عرفنا أن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطة فى حالة النبوة. وأنه قد يكون مصدر السلطة أيضًا فى حالة الملك.
والحقيقة الثانية: أن كتب السيرة، وكتب التاريخ الإسلامى تكاد تجمع على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد رفض ما عرضه عليه الملأ من أهل مكة من تمليكه إن أراد ملكًا بشرط أن يترك دعوته تلك. ولكنه أصر على موقفه ولم يقبل هذا الشرط.
محمد عليه الصلاة والسلام رسول من الله، وليس ملكًا من الملوك.
ومع كل فلا بد من وقفة مع المفاهيم القرآنية التى تتضح بها الحقائق الدينية، ولا يكون معها شك أو احتمال شك.
والمادة اللغوية التى جاءت منها كلمات: النبأ، والنبى، والنبوة، هى: ن ب أ.
وجاء من هذه المادة فى الصيغة الفعلية: نبأ، أنبأ. استنبأ. ومعنى نبأ: أخبر عن الشىء وذكر قصته. وأنبأ بالشىء: نبأ به. واستنبأ عن الشىء: طلب إلى الآخر أن ينبئه به. يقول الله تعالى من سورة التحريم: «وإذا أسرّ النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال: نبأنى العليم الخبير».
ويقول الله تعالى من سورة البقرة: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون».
ويقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «المفردات فى غريب القرآن» عن النبأ أنه: «خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلفة طين ولا يقال للخبر فى الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة. وحق الخبر الذى يقال فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب».
والنبى: من يصطفيه الله من عباده البشر لأن يوحى إليه بالدين، وبالشريعة فيها هداية للناس.
وإذا ورد لفظ النبى فى القرآن الكريم معرفًا بأل فإن المراد به يكون النبى العربى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، أما إذا ورد منكرًا، أو معرفًا بالإضافة فإن المراد يكون غيره.
ويذهب الراغب الأصفهانى فى كتابه: المفردات فى غريب القرآن، إلى أن النبى سُمى بذلك من حيث إنه ينبئ بما تسكن إليه العقول الذكية.
والنبى الرسول هو الذى يحمل رسالة من الله إلى الناس فى أمر دينى أولًا وبالذات، ثم فى أمر تشريعى ينظم العلاقة أولًا بين الناس والله، وقد ينظم هذه العلاقة بين الإنسان والإنسان.
وهذه الفروق المميزة هى التى سوف نتخذ منها أدوات تقييم لإدارة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام لشئون المجتمع الإسلامى الذى أنشأه فى المدينة ثم فى بقية الجزيرة العربية. فهل كان عليه الصلاة والسلام يدير هذا المجتمع بصفته النبى الملك، أم بصفته النبى الرسول؟
إنها إن تكن الأولى فقد صحت مقولة: الإسلام دين ودولة، ولكنها حين تكون الثانية نفضل مقولة: الإسلام دين وتكون إدارة شئون المجتمع فى هذه الحالة إدارة دينية باسم النبوة والرسالة وليست باسم الملك، ولا يصح قول الإسلام دولة أى مملكة وملك.
والمادة اللغوية التى تجىء منها المشتقات: ملك، ومليك، وملك، وملكوت، وما إلى ذلك هى: م. ل. ك.
تقول: ملك الشىء يملكه، فهو مالك، وهم مالكون. فتعنى بذلك أنه المستولى على الشىء، والذى فى قدرته أن يتصرف فيـه حـسـبـمـا يـريـد، فيعطيه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء.
وتقول: ملك الناس ملكًا بضم الميم، فتعنى أن له حق التصرف فيهم بالأمر والنهى، والسيادة عليهم، وأنه يكون منهم الطاعة له وتنفيذ ما يأمر به، وما ينهى عنه.
وهو فى هذه الحالة الملك أو المليك.
ويسند الملك أحيانًا إلى اليد اليمنى من حيث إن القدرة على التصرف تكون لهذه اليد فتقول ملك اليمين. وقد غلب هذا التعبير فى ملك الرقيق من العبيد والإماء كما غلب فيهم استعمال كلمة مملوك، يقول الله تعالى: «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم».
ويقول: «ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا لا يقدر على شىء»، ويقول الراغب فى كتابه «المفردات فى غريب القرآن»: «الملك هو المتصرف فى الأمر والنهى فى الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين. ولهذا يقال: «ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء» وقال أيضًا: «الملك اسم لكل من يملك السياسة... والمملكة: سلطان الملك وبقاعه التى يمتلكها» والملك المطلق هو الله سبحانه وتعالى، يتصرف ويحكم ولا معقب لحكمه «قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء».
وثانى هذه الفروق فيما نرى أن النبى يوحى إليه من الله، وأنه يحمل رسالة من الله إلى الناس وأنه يتحدث دائمًا عن الله وباسم الله، وأن طاعته هى فرع عن طاعة الله، وليس كذلك الملك، كما هو الحال بالنسبة لكل من داود وسليمان عليهما السلام.
وثالث هذه الفروق فيما نرى أن النبى الرسول يحقق دائمًا تغييرات جذرية فى الآراء والمعتقدات، وفى التقاليد والعادات، وفى القيم الأخلاقية والمعايير السلوكية.. وأن وسيلته إلى ذلك كله هى التنمية الثقافية القائمة على الإقناع والجدل بالتى هى أحسن.
القرآن الكريم لم يتحدث أبدًا عن محمد على أنه الملك كـ«طالوت» أو النبى الملك كـ«سليمان»
والآن ماذا كان وضع محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام فيما بين النبوة والملك، فهل كان النبى الرسول أم كان النبى الملك؟. وماذا كان موقفه من إدارة شئون المجتمع الإسلامى الذى أنشأه هو؟ فهل كان يدير شئون هذا المجتمع تحت سلطان الدين الممثل فى النبوة والرسالة، أو تحت السلطان المدنى الممثل فى الملكية؟
إن القرآن الكريم لم يتحدث أبدًا عن محمد عليه الصلاة والسلام على أنه الملك كـ«طالوت» أو النبى الملك كـ«سليمان». وإنما نحدث عنه دائمًا وأبدًا على أنه رسول الله إلى الناس.
يقول الله تعالى: «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم».
ويقول: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين».
ويقول: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم».
ويقول مخاطبًا محمدًا عليه الصلاة والسلام: «يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين».
والثابت الذى لا يقبل الجدل والحوار أن القرآن الكريم ظل حتى وفاة محمد عليه الصلاة والسلام ينعته بأنه رسول الله.
ولعل من المفيد فى هذه القضية أن نثبت هنا ما انتهى إليه الشيخان محمد عبده، ورشيد رضا، من حديث عن حق الطاعة الذى يملكه النبى العربى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وهو الحديث الذى جاء عند تفسيرهم لقوله تعالى: «من يُطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا».
قالا: من يطع الرسول فقد أطاع الله، أى أن الرسول إنما هو رسول الله، فما يأمر به من حيث هو رسول الله فهو من الله وهو العبادات والفضائل والأعمال العامة والخاصة التى بها تحفظ الحقوق، وتدرأ المفاسد وتحفظ المصالح. فمن أطاعه فى ذلك لأنه مبلغ له عن الله عز وجل فقد أطاع الله بذلك.
إن الله تعالى لا يأمر الناس وينهاهم إلا بواسطة رسل منهم، يفهمون عنهم ما يوحيه الله إليهم ليبلغوه عنه.
وأما ما يقوله الرسول من عند نفسه، وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من الأمور الدنيوية والعادات.
فالآية تدل على أن الله هو الذى يُطاع لذاته لأنه رب الناس وإلههم وملكهم، وهم عبيده المغمورون بنعمه، وأن رسله إنما تجب طاعتهم فيما يبلغونه عنه من حيث إنهم رسله لا لذواتهم.
والآن نستطيع أن ننهى الحديث عن مفاهيم النبوة والملك، والنبى والملك، واستخدامات القرآن الكريم لهذه المفاهيم بالتركيز على الحقائق التالية: أولًا: إن القرآن الكريم لم ينص أبدًا على أن النبى العربى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام قد كان نبيًا ملكًا، وإنما نص وركز فى نصوصه بصيغة التأكيد على أنه قد كان نبيًا رسولًا.
ثانيًا: إن السلطة التى كان يدير بها النبى العربى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام شئون المجتمع الإسلامى الذى أنشأه فى يثرب أولًا، ثم فى بقية شبه الجزيرة العربية ثانيًا، كانت مستمدة من الله وليس من أى مصدر آخر.
ثالثًا: إن هذه السلطة كانت سلطة خاصة بمرحلة خاصة من مراحل حياة المجتمع الإسلامى مرحلة إدارة سيدنا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام لهذا المجتمع، ولم تتجاوزها إلى غيرها من المراحل.
والأمر الذى نؤكد عليه أن هذه الحالة الخاصة بمحمد، عليه الصلاة والسلام، والتى لن تتكرر ما دام هو آخر المرسلين وخاتم النبيين، يجب أن تبقى على خصوصيتها، وليس يصح أن يُقاس عليها، أو أن تتخذ أساسًا لمقولة مهمة كتلك التى يقال فيها: الإسلام دين ودولة.
الحالات الخاصة به عليه الصلاة والسلام يجب أن تبقى حالات خاصة.
إنها من الخصوصيات، وليست من العموميات.