معرض أبوظبى يحتفى به ضمن محور«كتاب العالم»
الحكايات الخالدة.. كيف صنعت مصر أسطورة «كليلة ودمنة»؟
تكمن عبقرية كتاب «كليلة ودمنة» فى أن متعته لا تنتهى، ففى كل مطالعة جديدة له يستخلص القارئ معارف مختلفة، ويستلهم خيالًا مبتكرًا ولغة عذبة وحكمة عميقة، لم يحصل عليها فى قراءاته السابقة، وهى ميزة لا تتوفر إلا للإصدارات الأدبية الخالدة فى تاريخ البشرية، والتى يعد الكتاب على رأس قائمتها. واهتمت مصر بهذا الكتاب اهتمامًا ليس له نظير، حيث كانت طبعته الأشهر والأكمل فى مطبعة بولاق بالقاهرة، وقررته الدولة المصرية ممثلة فى وزارة المعارف قديمًا، على طلبة المدارس نظرًا لما ارتأته فيه من أهمية قصوى، وقد كتب عميد الأدب العربى التصدير لنسخته التى طبعت فى مصر أيضًا فى العصر الحديث، منبهًا فيها إلى عبقرية الكتاب وتفرده الشديد.
وفى الدورة الـ33 الحالية لمعرض أبوظبى للكتاب، الذى تحل مصر ضيف شرف عليه، يحتفى محور «كتاب العالم»، الذى استحدثه المعرض هذا العام، بتحفة «كليلة ودمنة»، باعتباره واحدًا من الإصدارات الرائدة فى عالم الحكايات، والذى يستحق أن يعيد النقاد والقراء استكشاف أسراره، وما يتمتع به من فلسفة إنسانية ليس لها مثيل.
بهذه المناسبة، تستعرض «حرف» فى السطور التالية، ملامح من تاريخ ذلك الكتاب، وترصد كيف تعرف عليه القارئ العربى، وكيف ساهمت مصر فى انتشاره، وتأثرت به الأعمال القصصية التى كتبت من بعده.
ترجمة «ابن المقفع»
ألف الفيلسوف الهندى بيدبا كتاب «كليلة ودمنة»، الذى يتضمن مجموعة من الحكايات والقصص التى تلعب الحيوانات دور البطولة فيها، ويحتوى على الكثير من الحكم والمواعظ والعبر، وهو أحد الكتب الأسطورية التى برعت فى توعية وتعليم الناس عبر الحكاية.
وتميز الكتاب بأن جميع أبطاله من الحيوانات، وكان سببًا مباشرًا فى كل ما جاء من بعده على ألسنة الحيوان من قصص، والتى نشرت فى آلاف الكتب منذ القرن الثانى الهجرى، وهو القرن الذى ترجم فيه عبدالله بن المقفع «كليلة ودمنة» عن الفارسية.
كانت هذه الترجمة فتحًا حقيقيًا على كتاب «كليلة ودمنة» نفسه، فعن النسخة العربية التى ترجمها «ابن المقفع» انتشر الكتاب انتشارًا رهيبًا، وعرفه القاصى والدانى وأصبح أحد الكتب العربية المهمة والمؤثرة فى الغرب نفسه، مع كتب مثل «ألف ليلة وليلة» وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «الكامل للمُبَرّد» و«العمدة» لابن رشيق، وغيرها من الكتب التى أثرت فى الثقافة الإنسانية عبر التاريخ والعصور.
ويتألف من ١٥ بابًا رئيسيًا تضم العديد من القصص التى جاء أبطالها من الحيوانات، ومن أبرز شخصيات الحيوانات التى يتضمّنها، الأسد الذى يلعب دور الملك، وخادمه الثور الذى يُدعى «شَتْرَبه»، بالإضافة إلى اثنين من بنات آوى وهما «كليلة» و«دمنة».
ويضم أبواب «الأسد والثور، والفحص عن أمر دمنة، والحمامة المطوقة، والبوم والغربان، والقرد والغيلم، والناسك وابن عرس، والجرذ والسنور، وابن الملك والطائر فنزة، والأسد والشغبر الناسك، وهو ابن آوى، وإيلاذ وبلاذ وايراخت».
كما يضم أبواب «اللبؤة والإسوار والشغبر، والناسك والضيف، والسائح والصائغ، وابن الملك وأصحابه، والحمامة والثعلب ومالك الحزين»، بالإضافة إلى ٤ أبواب جاءت فى أولى صفحات الكتاب، وهى: «مقدمة الكتاب»، وباب «بعثة برزويه إلى بلاد الهند».
حكايات «إيسوب»
لم يكن «كليلة ودمنة» أول كتاب يناقش الحكم والمواعظ على ألسنة الحيوان، فالكتب السماوية ناقشت كل ذلك عبر العصور، وأوردت الكثير من الحكايات التى كان الحيوان والطير بطلًا لها، وحين سرد القرآن قصصًا مثل «سليمان والهدهد» و«سليمان والنملة»، كان يسرد فى الحاضر ما حدث فى الماضى السحيق، بمعنى أن حكايات الحيوان كانت موجودة منذ قديم الأزل، وليست فكرة مبتكرة، وهناك الكثير منها مثل حكاية «بنى إسرائيل والبقرة» و«كلب أهل الكهف» وحكايات «الذئب والراعى، والحمل والذئب» وغيرها.
وقال بعض النقاد إن «كليلة ودمنة» كان لها تأثير كبير على حكايات «إيسوب» وغيرها، فبالرغم من أن الكثيرين يزعمون أن «إيسوب» شخصية وجدت قبل الميلاد بكثير، لكن الحكايات نفسها تماثل حكايات «كليلة ودمنة»، ولا أحد يعرف إن كان لـ«إيسوب» وجود حقيقى أم لا.
ودارت قصص «إيسوب» فى سياقات أخلاقية مفيدة، ومعظمها تناول الحيوانات التى تتكلم وتتصرف كالبشر، وتوضح الفضائل والمساوئ وغيرها من الأمور، وقد تواترت إلينا من خلال قصص «إيسوب» بعض الحكم، ومنها مثلًا تشبيه الصديق الماكر بأنه ذئب فى ثوب حمل، وهو ما أدرجته القصص وأكدت عليه الكثير من الحكم الأخرى.
ومثل كل الحكايات القديمة، ظلت حكايات «إيسوب» تروى شفاهة غير مدونة، وتنتقل من فم لفم، ويتولى كل شخص الإضافة والحذف، لكن العديد من المصادر تؤكد أن هناك دورًا وثيقًا لحكايات «كليلة ودمنة» على حكايات «إيسوب» الحكيم.
نسخة مطبعة بولاق
حظى كتاب «كليلة ودمنة» بانتشار فى مصر والعالم العربى، كما لم يحظ كتاب آخر، بخلاف الكتب السماوية، من حيث الاهتمام وإعادة الطبع وقراءة القصص على ألسنة الحيوان، ويعتبر مع «ألف ليلة وليلة» الكتابين الأكثر تداولًا وقراءة عبر العصور.
وفى مصر قررته وزارة المعارف قديمًا على الطلبة، وقال الدكتور عبدالوهاب عزام محقق طبعة الكتاب فى دارالمعارف فى مقدمته: «فلا تجد فى مصر عالمًا إلا واطلع عليه وقرأه كله وأقول قليل من الكتب نال من إقبال الناس، ما ناله هذا الكتاب، فقد تنافست الأمم فى إدخاره وحرصت كل أمة على نقله إلى لغتها، فليست هناك لغة فى العالم لم يترجم إليها كتاب كليلة ودمنة».
وتعتبر كل الطبعات التى طبعت فى مصر من الكتاب، تكرارًا لطبعة مطبعة بولاق، فى عهد محمد على باشا، سنة ١٢٤٩هـ، بتقديم ومراجعة المستشرق الفرنسى دى ساسى.
قال مصحح الطبعة فى مقدمته: «صادف سعده (أى: محمد على باشا) المقترن من الله بالمنة، وجود نسخة مطبوعة بالعربى فى غير بلاد العرب من كتاب كليلة ودمنة، وهى التى ترجمها عبدالله بن المقفع الكاتب المشهور فى أيام أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور».
وأكمل: «كانت ترجمتها من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية، واتفق الناس على صحة تلك النسخة لشهرة مصححها بالألمعية»، وهنا ينقل المصحح فقرات تبين طريقة «دى ساسى» فى مراجعة الكتاب، حيث يقول: «ثم إنَّ تلك النسخة المطبوعة عُرِضت هى وغيرها على شيخ مشايخ الإسلام، وقدوة عُمَد الأنام مولانا الشيخ حسن العطَّار أدام الله عموم فضله».
وأكمل: «إشارة الأمر بصريح الامتثال، وسرَّحت فى رياض تلك النسخ سائم الطرف والبال، فوجدتُ المطبوعة أفصحها عبارة، وأوضحها إشارة، وأصحها معنى، وأحكمها مبنى، غير أنَّ فيها لُفيظات حادت عن سَنَن العربية، وبعض معانٍ مالت بها الركاكة عن أن تُفهم بطريقة مَرْضِيَّة، فَقَرَيْتُ أضياف المعانى بأى لفظ تشتهيه، وربُّ البيتِ أدرى بالذى فيه، خصوصًا مع وجود المواد التى تكشف عن وجوه الصحة نقاب الاشتباه، وما كان ذا مَكِنة فلينفق مما آتاه الله، مستعينًا على ذلك بما لدىَ من النسخ التى بخط القلم، معوِّلًا على عناية من علَّم الإنسان ما لم يعلم، وكل الطبعات التى توالت فى مصر كانت تكرارًا لطبعة بولاق إلَّا فصولًا وجملًا ألُفِيَتْ».
تصدير طه حسين
من أهم النسخ التى صدرت من كتاب «كليلة ودمنة» فى مصر، هى تلك النسخة التى أشرنا إليها سابقًا، ودشنتها دار المعارف، وكتب لها المقدمة الدكتور عبدالوهاب عزام، وترجع أهميتها القصوى إلى أن أسطورة الأدب المصرى طه حسين هو من كتب لها التصدير، فى ٥ أبريل من عام ١٩٤١.
قال طه حسين فى تصديره: «فى هذا الكتاب حكمة الهند وجهد الفرس ولغة العرب، وهو من هذه الناحية رمز صادق دقيق لمعنى سام جليل، هو هذه الوحدة العقلية الشرقية التى تنشأ عن التعاون والتضامن وتظاهر الأجيال والقرون بين أمم الشرق على اختلافها، والتى حققتها الحضارة الإسلامية على أحسن وجه وأكمله أيام كانت هذه الحضارة حية قوية مؤثرة إلى حياة الأمم والشعوب، والتى نريد الآن أن نرد إليها قوتها وجمالها القديم».
وشرح طه حسين أن هناك نسخة أقدم من تلك النسخة التى حققها الدكتور عبدالوهاب عزام، وهى النسخة التى كتبها الأب لويس شيخو، مضيفًا: «هناك جهد قيم بذله الأب لويس شيخو حتى أخرج أقدم نسخة ظفرنا بها، وزميلى الدكتور عبدالوهاب عزام يضيف إلى جهده جديدًا قيمًا، فينشر نسخة جديدة أقدم من نسخة الأب شيخو بأكثر من قرن من الزمان، ويمكن التاريخ الأدب والنقد الأدبى من أن يعيدا نظرهما فى هذا النص القديم، ويستخلصا منه نتائج جديدة لها قيمتها».
وواصل: «من المحقق أن هذا الجهد الذى بذله الدكتور عبدالوهاب عزام، لن يقف عند هذا الحد ولن ينتهى إلى هذه الغاية، فقد كان يريد وكانت مطبعة المعارف وقتها ومكتبتها تريد معه، جمع أكبر عدد ممكن من النسخ المخطوطة لهذا الكتاب ومعارضتها والموازنة بينهما، واستخراج أصح نص ممكن من هذه المعارضة والموازنة، فحالت الحرب بينهما وبين ما كانا يريدان، ولكن لم تمنعهما من أن يقدما للناس أقدم نص لهذا الكتاب عرف حتى الآن».
وقال: «فى هذه الطبعة رمز آخر صادق دقيق على سذاجته ويسره، لمعنى سام جليل نحبه ونؤثره وتطمئن إليه نفوسنا اطمئنانًا فيه كثير من الدعة والحنان، فمكتبة المعارف ومطبعتها إنما عنيت بنشر هذه الطبعة وأنفقت فى سبيل ذلك ما أنفقت من جهد ومال، واحتملت فيه ما احتملت من مشقة وعناء لم تصرفها عنه الحرب، ولم تصدها عنه الظروف التى تصد أمثالها عن أمثاله».
واختتم بقوله: «أما عن طبعة الأب شيخو، وفى المُقدمة الفرنسية التى قدَّمها لطبعته، فإنَّه عثر فى دير الشير فى لبنان على مخطوط من كتاب كليلة ودمنة، سنة ٧٣٩ هـ، وإنه رأى فى أسلوبها شبهًا بما فى كليلة ودمنة، ورأى أنها أقرب النُّسخ إلى الأصل الهندى».