الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من كتاب "حياتهم بلا خجل".. شعراء ولكن فقراء!

حرف

ماذا حدث للشعر؟ وما الذى أصاب الشعراء؟

وهل حقيقة أننا فقدنا الإحساس بالكلمة الحلوة.. والمعانى المنظومة؟

حقيقة تؤكدها الإحصائيات والأرقام.. إن دخل مؤلفى الأغانى الذين يكتبون الكلمات السطحية لا يمكن مقارنته بالدخل شبه المعدوم الذى يحققه الشعراء وهم يحاولون بيع قصائدهم.. ودواوين أشعارهم؟

ولذلك فإن الذين يكتبون الأغنية أكثر حظًا من المساكين الذين يكتبون الشعر.. والدليل على ذلك أن الأغنية الواحدة كثيرًا ما يغنيها أكثر من مطرب، وفى النهاية تتجمع أجور الأغنية وحقوق مؤلفيها فى جيوب كتاب الأغنية. أما الشعراء فهم لا يستطيعون أن يعيشوا مثلًا من دخل أشعارهم.. إذا استثنينا شاعرًا كنزار قبانى الذى انتهز فرصة تلحين بعض قصائده وأنشأ دارًا للنشر، توزع دواوين شعره ووضع فى جيبه الأرباح.

قال لى الشاعر صلاح عبدالصبور:

- الفنون فى مجتمعنا الحديث- بكل أسف- أصبحت لا تقدر عادة حسب قيمتها.. بل حسب جمهورها.

والسؤال ليس.. إلى أى مدى تستمتع بالفن.. ولكن من يدفع ثمن الاستمتاع..؟

ويقول صلاح عبدالصبور:

- والشعر ليس أتعس حظًا من بعض الفنون الأخرى كالفنون التشكيلية.

قلت: ولماذا تربح الأغنية.. ولا تربح قصيدة الشعر؟

قال: الأغنية طبعًا تتجه إلى ملايين الناس. وتخاطب الأمى والمتعلم.. وتحتفى بها الإذاعة وشركات الأسطوانات.. وتنشر لها دعاية كأن حدثًا مهمًا قد وقع فى كوكبنا الأرضى.. وتكون نتيجة ذلك أن تدر ربحًا على كل من أسهم فيها.. وينال المؤلف جزءًا من هذا الربح. أما القصيدة الشعرية فهى توجه إلى جمهور ضئيل.. وتنتشر عادة فى مجلة أو صحيفة.. وتعتبر مادة غير مربحة..

قلت: وإذا جمع الشاعر قصائده فى ديوان لبيعه؟

قال: إذا جمع الشاعر بعد ذلك قصائده فى ديوان فالأمر هنا أسوأ ومأساته ستبدأ بالبحث عن ناشر.. وسيساومه الناشر مؤكدًا أن الشعر سيجلب عليه الخسارة.. ثم يصدر الديوان بعد هذه المفاوضات المزعجة، ويخرج إلى الحياة متواضعًا.

- ولن يعنى من يكتبون عن توعك صحة النجوم أو زواجهم بالكتابة عنه لمجرد الإعلان من وجوده.. فى النهاية أريد أن أقول إن هناك شيئًا خطأً فى عملية تقييم الفن عمومًا.

قلت: وما هو هذا الخطأ فى رأيك؟

قال: الخطأ ناتج عن النظر إلى الفن بمنطق السلعة الاستهلاكية.

قلت: وكيف نوسع دائرة قراء الشعر؟

قال: هناك وسائل كثيرة لهذا.. أولاها طبعًا رفع الذوق بشكل عام فإذا ارتفع الذوق فى كل المجالات.. فسينعكس ذلك على عدد قراء الشعر.

وتوقفت قليلًا أمام ما قاله لى الشاعر الكبير المرحوم عزيز أباظة..

قلت: هل كان الشعر فى يوم من الأيام مورد رزق؟

قال: كان ذلك فى يوم ما عند الشعراء القدامى.. كما حدثتنا بأخبارهم كتب الأدب.. أما فى عصرنا هذا فلم يكن الشعر مصدر رزق لشاعر واحد، بل على العكس إن شعراء هذا العصر لا يملكون شيئًا. وفى تقديرى أن الأرزاق التى كانت تهبط لهم عن طريق الشعر- وهم قليلون- لم تكن لتكفيهم معيشة يوم أو سهرة ليلة. أما شوقى فكان ميسور الحال، غير قليل النعمة فما أظن أن شيئًا من ذلك وافاه عن طريق الشعر، وإنما وافاه عن طريق المرتب أولًا.. ثم الزواج ثانيًا..

قلت: وأنت كشاعر كبير.. هل تعانى؟

قال: من ناحية القصائد فإننى لم أنشر إلا قليلًا منها.. وكان ما يتفضل علىّ به الناشر.. هو النشر.

وأما ديوانى «أنات حائر»، فلقد كنت التزمت فى طبعتيه الأولى والثانية أن أهديه للأصدقاء والأدباء.. وهذا ما وقع فعلًا.. وحين طلب منى الناشر أن ينشره للمرة الثالثة بحجة أنه مطلوب سمحت بنشره على أن أتبرع بحصيلته لجامعة القاهرة.. فكان الذى استفادته هذه الجامعة هو مائة وعشرون جنيهًا رغم نفاد الديوان.

قلت: وسبب محنة الشعر فى رأيك؟

قال: لا شك أن الشعر محنة هذه السنين، أما أصول هذه المحنة وباعثها فأظنها معروفة. فالشعر الأصيل الذى يسمونه «تقليديًا»، أو العمودى دخل إلى قداسته كثيرون ممن لا يعرفون عن الشعر إلا أنه كلام موزون، وفى هذا إضعاف وتشويه لإخوانهم الشعراء المجيدين وهم كثيرون والحمد لله.

- وحال الذين يكتبون ما يسمى بالشعر الحديث هى نفسها هذه الحال بل شر منها.. فإذا استثنينا من هؤلاء أربعة أو خمسة ضُمت عليهم لجنة الشعر أيضًا.. فإن الباقين يتخبطون فى تيه لا يعلم مداه إلا الله.

قلت: أما الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى فله فى أزمة الشعر رأى آخر يخالف كل الآراء التى سمعتها من كل الشعراء الذين ناقشتهم.. قال لی أحمد عبدالمعطى حجازى إذا كنت تقصد أن الشعر يعانى أزمة فنية فهذا صحيح- والسبب أن المرحلة الأخيرة قد طرحت حالة نفسية جديدة، كما طرحت أسئلة كثيرة لا أعتقد أن الشاعر قد استطاع أن يجد لها فى فنه صيغة مناسبة.. كما أعتقد أن المثقف عامة قد وجد هذه الصيغة.

قلت: الأزمة التى أعنيها.. هى أزمة تسويق الشعر نفسه؟

قال: لا توجد أزمة تسويق.. فالواقع أن هناك إلحاحًا واضحًا فى طلب الشعر.

قلت: بالمقارنة بما يجازى به مؤلفو الأغنية.. ألا تعتقد أن الشعر فى أزمة؟

قال: طبعًا.. خاصة أننا نعيش فى مجتمع يجب ألا يحكمه قانون العرض والطلب.. بل ينبغى أن يحكمه قانون القيمة.. إن كل المجتمعات الاشتراكية تضع الفن الرفيع فى أعلى مكان وتكافئه أعظم مكافأة لأنها تنظر إلى قيمته الحضارية والإنسانية الرفيعة، وهى بهذا تزيد الاهتمام به وتحوله إلى إنتاج مطلوب من عامة الناس، أى تحوله إلى حاجة شعبية.. ولكننا نستجيب للحاجات القائمة ونبنيها دون أن نحاول تغييرها وخاصة فى مجالى الفن والأدب. إن هز البطن أغلى عندنا من الباليه.

قلت بهدوء شديد للغاية:

- هل تقترح أن تصدر الدولة.. مثلًا قرارًا باحترام الشعر؟

قال أحمد عبدالمعطى حجازى:

- لا.. الحل ليس فى إصدار قرار من هذا النوع.. فالفن كأى سلعة يجب أن نقيمه بقدر ما يبيع.. وأنا شخصيًا موافق على أن نترك المال والسيارات الفاخرة والمعجبات الحسناوات لمؤلفى الأغانى ونكتفى بدخل أشعارنا بشرط أن تعطى هذه الأشعار فرصتها فى تحقيق الدخل الحقيقى الذى يمكنها أن تحققه..

وآراء.. وأفكار كثيرة سمعتها أن الشعر فى أزمة

فماذا حدث للشعر؟

وما الذى أصاب الشعراء؟

وهل حقيقة أننا فقدنا الإحساس بالكلمة الحلوة.. والمعانى المنظومة؟ 

أنا وغيرى نقول: نعم!

غلاف الكتاب


* من كتاب "حياتهم بلا خجل"، إصدار أخبار اليوم، 1974.